تسود العالم العربي، هذه الأيام، «هبة» أو «فزعة» لإصلاح التعليم، فالكل يكتب فيه، والكل يدعو إليه... وهي حركة مباركة بلا ريب، وتستحق الدعم والتأييد والمشاركة. وإن كان لكاتب هذه السطور كمدرس سابق، وكمؤرخ للفكر والسياسة في العالم العربي الحديث، رأي آخر، وهو أن التعليم مهم للغاية ولكن يجب أن تأتي خطة إصلاحه وتطويره ضمن استراتيجية أو رؤية مجتمعية شاملة للنهوض والتقدم، وللإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وقبل ذلك الثقافي والفكري والمعرفي. فغياب مثل هذه الاستراتيجية العربية الشاملة للإصلاح والنهوض من شأنه أن يلقي بكل ثمار التعليم الجديد في... البحر! قبل عقود ركز العرب، في أقطار الثقل العربي بالذات، على التعليم، ولا بد من الإقرار والاعتراف أن التربويين العرب الرواد قد حققوا نتائج باهرة في حقلهم، وأوجدوا «بؤراً متعلمة تعليماً عالياً» في مدنهم المتقدمة والمتطورة. ولكن سرعان ما أحاط الفيضان الاجتماعي الناجم عن الفقر والظلم وقلة المساواة بتلك «البؤر» المشعة، فضاعت في الطوفان الآتي. كان طه حسين، مثلاً، وهو وزير المعارف المصري في آخر وزارة وفدية قبل الثورة عام 1950، يعمل بدأب من أجل تعليم متقدم ودعا إلى «مجانية» التعليم ضمن ما دعا إليه، غفر الله له!... فجاءت الثورة وحققت مطلبه الذي صار مطلباً شعبياً ضاغطاً. وفجأة امتلأت قاعات الجامعات بالمئات والآلاف المؤلفة، فتغلب الكم على الكيف، وضاع ذلك «التميز» العلمي الذي تميزت به الجامعات المصرية في بداياتها المشجعة. وحل محل «العميد» طه حسين كوزير للتربية والتعليم بمصر ضابط بثقافة متواضعة وصار مألوفاً أن ترابط الدبابات في الجامعات! ... وفي مثل خطورة ذلك واجهت الدولة مئات الآلاف من أبنائها يحملون «شهادات جامعية عليا وكان لا بد من توظيفهم فيما يشبه «البطالة المقنعة» – التي تجتاح اليوم أيضاً معظم مجتمعات الخليج – وفي تضخم «بيروقراطي» يأكل الأخضر واليابس في نطاق «تعامل» الدولة مع مواطنيها! ولا بد أن أكون واضحاً: إن «التعليم الأساسي» في المراحل الابتدائية والإعدادية ينبغي أن يكون متاحاً للجميع، فهو السلاح لمحو الأمية والمدخل لبناء الولاء الوطني الذي لا بد منه للمجتمع والدولة، بل أؤيد أن يكون «إجبارياً» في البلدان التي يبقى بعض أطفالها خارج المدرسة لأي سبب. غير أن «التعليم الجامعي» لا ينبغي أن يكون مفتوحاً لكل طامح، لأن ذلك يهبط بمستواه ويمثل ظلماً لحق الأكفاء في ارتقاء سلم المعرفة والتفكير العالي، نظراً للتزاحم العددي الكبير الذي لا يمكن تفاديه لو فتحت أبواب الجامعات لكل متقدم. ومن تجارب الأمم المتقدمة فإن التعليم الجامعي يقتصر على ما لا يزيد عن 20% من مجموع الذين هم في سن التعليم الجامعي. أما الباقون فينبغي أن تتاح لهم الدراسات المهنية المركزة، والمجزية بوظائفها بعد التخرج في سوق العمل، كي يقللوا من العمالة الأجنبية الوافدة التي لمخاطرها مجال آخر، حيث تتجلى أخطارها الماثلة ليس على المجتمعات العربية الخليجية فحسب، وإنما على معظم المجتمعات العربية التي يتحول بعض خريجيها الجامعيين إلى «تنابلة»!... للأسف... ولا جدال أنه كان ثمة شعور، تدعمه الوقائع، بأن كثرة من الخريجين العرب يتخصصون في الإنسانيات والمواد الاجتماعية. وعندما يتخرج هؤلاء من «دراستهم النظرية» لا يجد معظمهم أعمالاً تلتقي وتطلعاتهم كحملة شهادات، في مجتمعات لا تقدّر الإنسان إلا إذا حمل «شهادة». واشتدت المطالبة أن تهتم المدارس والمعاهد والجامعات في البلاد العربية بالمواد العلمية والتكنولوجية تعويضاً لهذه الفجوة. وهكذا كان. ونجد اليوم أن لدينا خريجين في هذا المجال وطلاباً كثيرين يتلقون علومهم في المجال ذاته. ونرجو أن يحصل «تقدم» ما في المجتمعات العربية نتيجة لهذا التحول. غير أن خللاً ما، وعلينا أن نقر أنه خلل خطير، حدث، ولا بد من العمل سريعاً على تصحيحه. ولم أجد صورة أدق، ولا تشخيصاً أصوب، من التشبيه الذي رسمه مفكرنا العربي الكبير، زكي نجيب محمود، رحمه الله، لهذه الحالة. حيث أشار إلى أن الإنسان «المتعلم» لدينا أصبح عقله بمثابة غرفتين يفصل بينهما جدار إسمنتي سميك قاطع للتواصل. في «الغرفة الأولى» ثمة معلومات علمية وتقنية لا علاقة لها إطلاقاً بما يتراكم في «الغرفة الثانية» – وهذا ليس تشبيهاً برلمانياً! – فلأننا أهملنا مقررات الثقافة العامة والعلوم الإنسانية، بحجة كونها «نظرية»، حدث هذا الركام المخيف الذي ملأ «الفراغ» ويستمده «متعلمونا» من أوهام العوام والغوغاء، أو ممن يؤثّرون فيهم لأغراض لا ترضي الله، فحدثت هذه الازدواجية الرهيبة بين علم تقني قد يستخدمه صاحبه، ويستخدمه!، في تركيب حزام ناسف حول جسده، ينسف به نفسه وينسف الأبرياء من حوله! كما أن ثمة سبباً سياسياً لهذا التغييب. فهذه المواد الإنسانية تشمل تاريخاً سياسياً. ويروي البعض، ربما على سبيل الدعابة، أن حاكماً عربياً سابقاً، شديد المحافظة، استفظع فصلين في المقرر بعنوان «الثورة الفرنسية» و «الثورة الأميركية». وأمر أن يكون العنوان: («العصيان الفرنسي» و «العصيان» الأميركي)... «ثورة» أم «عصيان»... هذه أحداث وقعت ولابد من معرفة أسبابها...! إن إصلاح الفكر الديني يتطلب قبل كل شيء التسليم بأن ثمة عدة طرق للوصول إلى «الحقيقة». فقمة الجبل يمكن الوصول إليها من هذا الطريق أو ذاك. ولا بد من الوصول. ومن حسن الحظ فإن التراث الفكري الإسلامي، إذا درّسناه على حقيقته، يشمل هذه السبل جميعاً. وقد لمست مدى تفاعل الشباب مع هذه الحقيقة، أثناء تدريسي المباشر مقررات الثقافة الإسلامية بجامعة الخليج العربي، وهي جامعة خليجية مشتركة مقرها البحرين ومن المؤمل أن تسهم دولها المؤسسة الأعضاء في تطويرها. فنحن في مرحلة الانطلاق من جديد في مسار «التعليم العالي»، كما تمثل في جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية بالمملكة العربية السعودية التي هي النموذج الجديد الرائد للنهوض العربي. كما أن حركة إصلاح التعليم في مملكة البحرين التي يهتم بها ولي عهدها الأمير سلمان بن حمد آل خليفة ويباشرها نائب رئيس وزرائها الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة، من الظواهر الخليجية والعربية الجديرة بالتقييم والمتابعة نظراً لريادة البحرين التاريخية في المجال التربوي في جوارها الخليجي العربي. هذا بينما تعمل كل من دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة قطر مع أقطار عربية أخرى على بناء نهضة تربوية جديدة. *** طالب خالد القشطيني حديثاً في «الشرق الأوسط» بتعليم (التاريخ الأوروبي) للطلبة العرب وأؤيد دعوته، وأضيف إليها أن (معالم التراث الإنساني) كله جديرة بالتدريس والتعليم... التاريخ الأوروبي... التاريخ الصيني والياباني... التاريخ الهندي... التاريخ الأميركي اللاتيني... التاريخ الأفريقي... الخ، بالإضافة إلى تاريخنا العربي الإسلامي بنهج موضوعي متوازن لا يتهرب من ذكر السلبيات! ومع التاريخ الإنساني الذي لا بد من معرفته و «اختراقه» إطلالات على أهم ما في التراث الحضاري والفكري والحضاري لتلك الشعوب... فليس بالتكنولوجيا وحدها يحيا الإنسان، على الأهمية البالغة للتكنولوجيا في سباق العصر الذي نعتقد أنه سباق خطر ومهلك إن لم يتم ترشيده وتطعيمه بتراث الإنسانية جمعاء منذ البداية، إلى جانب مواد الاختصاص العلمي والتقني. فالتعليم ، كما أكد الأمير الحسن بن طلال، أثناء زيارته الأخيرة الولاياتالمتحدة في 15 تشرين الاول (أكتوبر) 2009: «لا يحدث في فراغ. وإنما يكون داخل السياقات الدينية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات... وألا يكون التدريب من أجل التوظيف أو اكتساب المهارات فقط، وإنما أيضاً من أجل المواطنة». ومن الواقع الميداني لجامعاتنا نجد شهادة أكاديمية سعودية تحت عنوان (الحلقة الأضعف في التعليم العالي السعودي) تؤكد الاحتياج الحيوي ذاته نظراً ل: «عدم إعطاء أي اهتمام للثقافة العامة التي تعنى بتفتيح أذهان أبناء المجتمع، وتوسيع آفاق اطلاعهم، وإطلاق القدرات العقلية لهم». «... إن استمرار التستر على المشكلات الاجتماعية وانعكاساتها النفسية... يقودنا إلى تحميل مستقبل البلاد أعباء لا يجوز أن تحملها... خصوصاً أن الضرورة تقتضي في هذه المرحلة تعزيز التنمية المجتمعية من خلال تفعيل اختصاصات العلوم الإنسانية والتربوية والثقافية، والتجرؤ على طرحها... كما ينبغي ألا ننسى ضرورة العمل الجاد على توسيع مختلف أساليب الفكر الحديث الذي تقدمه لنا الدراسات والعلوم الإنسانية والآداب، كونها أصبحت في هذه المرحلة التاريخية... ألزم لنا من طاقة النفط التي ننتجها». (بصيرة الداود ، «الحياة» 26/10/2009). لذلك، فإنه نداء لجميع المهتمين بالتعليم العالي في بلادنا، لتدارك هذا الأمر قبل فوات الأوان.... غير أن ما يدعو للتفاؤل أن الأمير خالد الفيصل بن عبدالعزيز، لدى افتتاحه مؤتمر (الشباب في عصر العولمة) قد أشار إلى حدوث تطورات ايجابية مبشرة بالخير، وذلك ما نأمله... * كاتب من البحرين