وأنا بعدُ طفلٌ صغير، لم أكن أعرف الفرق بين كانون الأول وجورج الثاني، كنت متكئاً في بلاهة على جذع شجرة منكوشةٌ شعر أوراقها أمام بيتنا، وأصبعي يغوص في فمي أرقب جيراني يتكالبون على أبي المتمدد بقامته الفارعة في لُفافة بيضاء قبل أن يدسّوه بجوف سيّارة ارتجّت إيذاناً بالرحيل. لم تأخذني من أمرهم ريبة، سوى سعادتي الطاغية بأن أبي كان يبدو مهماً يومها! عند حافة القبر الذي كان ينبش تربته أعمامي وينثرون غباره تحت قدمي، عثرت على حَصاة صقيلة ملساء، سرعان ما دفنتها في جيبي علّني أتسلّى بها لّو تأخر أبي وتعّذر عليه التخلص من لُفافة ردائه الأبيض الجميل. قال أحد الحفارين لرفيقه: (هات طوبتين هنا).. ثم أردف مستزيداً: (وطوبة تانية وخلاص).. حينها، علمت أن أبي غاب للأبد بين ضلفتي قبر موصد فتخلّصت من الحَصاة. وأسرع القوم ينتعلون سيّاراتهم عائدين وأبي لوحده هناك، و: (تزحف نحو القبور القبور/ بلا خطة أو نظام/ فقير بلا شاهد أو علامة/ كقبر عليه رخام وسور). تلك كانت تجربتي الأولى مع الموت، بعدها صحبتُ موتى كثيرين ممّن غابوا تحت الثرى، أو مّمن يمشون على قدمين وهم (ميتين من بدري)! تذكرت أبي ونسياني لوداع أستاذي و(عمي) جلال عامر، الذي أخذه الموت بغتة في ذات اليوم الذي استلقيت فيه تحت عجلات الأطباء، ليدوسوا على قلبي بالمشارط و(التجارب)، وأنا أرقب في جوع وجزع لخبز أمي من أن يحترق. اللهم أبدل جلال عامر داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، واجمعنا وإيّاه في مستقرّ رحمتك، اللهم آنس في القبر وحشته وثبّته عند السُّؤال.