المروءة هي أحد الآداب الأخلاقية، التي يحملها الإنسان بالفطرة، وسمة من سمات النفس الزكية، التي كثيراً ما تصاحبها النخوة كصفة أساسية من الصفات، التي تتزين بها جوانب الإنسان، خاصة الرجولة. وللمروءة عدة شروط تنقسم إلى قسمين «شروط المروءة في النفس، وشروط المروءة في الغير»، ودعونا نتوقف قليلاً على شرط واحد من شروط المروءة في الغير، وهو شرط «المعاونة، والمؤازرة»، يعني الإسعاف بالجاه، والإسعاف في النوائب، وهذا أقل المروءة. منذ أربع سنوات، وفي ساعة الذروة من الصباح الباكر، وقت خروج الموظفين، والطلاب إلى أعمالهم، ومدارسهم، توقفت سيارة بشكل فجائي على الطريق السريع الحيوي، الذي يصل مدينة الخبر بالظهران، لتصطدم تباعاً تسع سيارات، الواحدة تلو الأخرى، في ارتطام دوَّى صوته مثل طلقات، ليتوقف بعدها السير على الطريق بأكمله. سادت لحظة جمود، وصمت، ثم تعالت أصوات الأطفال في عدد من السيارات، كنت من ضمنهم في السيارة السادسة مع ولدي. حين استوعب الجميع الأمر، خرج من كل سيارة سائقها ليطمئن على مَنْ خلفه، ومَنْ أمامه، ذُعر ابني، وأخذ يبكي من هول الصدمة مثل أي طفل، ومثل أي أم أيضاً تمالكت نفسي، وأخذت أتفحصه، وأُطمئنه حتى شتَّت هدوئي عدد من الضباع، التفوا حول السيارة، يتنقل الواحد منهم تلو الآخر من النوافذ كمَنْ يبحث عن فريسة ليلتقطها. لم أشعر بألم الصدمة على قدر ما شعرت بألم مخيف من نوع آخر، وكأن السيارة سقطت من على جبل في وادٍ سحيق، وتُركت للذئاب حين ظهر عدد من الجوالات توثق الحادث، وكأنه حدث نادر يستحق التصوير. أدخل عدد منهم برأسه من النافذة «يحوقل»، ويلتقط صورة «على السريع» قبل أن ينتقل إلى السيارة التي أمامي، ويفعل مثلما فعل، وهكذا دواليك، وعدد آخر ينقل الحدث بالفيديو، صوت وصورة، لتهون بكل سهولة مصائب هؤلاء الناس في أنفسهم، مع أن الوضع برمته كان مأساوياً للغاية، ولا يهون حتى على الشياطين! في السابق حين تسأل أحدهم عن سبب تجمهر الفضوليين، يرد عليك: «لكي ننقل للناس ليتعظوا!». إلى أن تحوَّل الأمر مع الوقت إلى كارثة أخلاقية، يمارس فيها الشخص بكل وقاحة التصوير ليحصل على السبق في نشر أعراض الناس، ومعاناتهم، ودمائهم للملأ، دون حياء، أو مروءة! ومع ذلك حين تسألهم الآن فإنك تجد مَنْ يتشنج ليبرر تصرفه بأنه يصور من أجل أن يكشف قصور، وتأخر الجهات المسؤولة، سواء كان الإسعاف أو الدفاع المدني، دون أن يعترف بأنه أحد أسباب إعاقتهم عن الوصول. كنت، ومازلت، ضد تصوير لحظات الألم، والموت، حتى لو كانت لقطات خاطفة في نشرات الأخبار، لأن الألم ليس من الذكريات الجميلة، التي يستمتع الإنسان بها، بل من اللحظات التي خلق لها المولى نعمة النسيان لكي تتولاها. التقنية مثل الكنز حين يقع عليها الإنسان العاقل يستثمرها في أبحاثه، ودراساته، وعلمه، ويسخِّرها لنفع الآخرين، أما غير العاقل فبها يكشف دناءة نفسه، وسوء خلقه حين يجنِّدها لمضايقة الناس، وتهديد سلامتهم. «قامت مديرية الأمن العام في وزارة الداخلية مؤخراً بتشكيل فريق عمل لمتابعة تصرفات الفضوليين الخاصة بالتجمهر، وتصوير الحوادث المرورية، والجنائية، ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي»، ما يعني بأن الأمر زاد عن حده لدرجة ربما تُلزم تدخل السلطات، وأرى أن هذا القرار على قدر تأخره قليلاً، إلا أنه لن يمر مرور الكرام.. مع أن الأمن العام، والداخلية لديهما ما يكفيهما من قضايا الداخل، من إرهابيين، ودواعش، ومحاولات اختراق، ومتسللين، ومهربين، وتجار مخدرات، ناهيك عمَّا هو أعظم، ولا نعلم به، لكي يأتي في النهاية حفنة من المتطفلين، جرَّدتهم التقنية من رداء النخوة، والمروءة، وألبستهم رداء البلاهة، وجلد التماسيح، ويكون شغلهم الشاغل التسابق على مواقع التواصل بكل رعونة، لكي ينشروا، ويتباهوا بما التقطوه من آلام الناس! لن يتأدب، ولن يتأثر المتطفل، وعديم الإحساس، حين يسمع بأن تطفله، وتجمهره تسبَّب في مقتل مُصاب، ولا أعتقد بأنه سيتغير حتى لو راح أحد أفراد أسرته ضحية متطفلين مثله. ولن يعي بأن الأمر جاد، وخطير إلا حين يرى صوره تتداول في نشرات الأخبار في نفس اليوم، ويُقبض عليه، ويُتَّهم بأكثر من جريمة على الأقل منها: «إعاقة المسعفين، والتسبُّب بتدهور حالة مصاب، أو موته»، و»جرح كرامة المصاب بالتطفل على معاناته، وتصويرها، ونشرها دون إذنه». إذا ماتت المروءة في جسدك.. ولا تستطيع أن تنقذ، فأفسح الطريق.. على الأقل «خلِّ عندك شوية دم».