للاستفزاز كمفهوم حديث طويل يمكن اختصاره في أنَّه سلوك متعمد يهدف لاستثارة الآخر، هذا التعريف يرجَّح أنَّ الفعل إرادي يقوم به الشخص برغبةٍ وبقصدٍ منه، غير أنَّ الإثارة في حقيقتها ليست محصورة في الفعل المتعمد، فقد يقوم شخص من حيث لا يشعر بسلوك يستفز الآخر، هذا الفعل لا يعتبر ضمن نطاق الاستفزاز الذي ينص عليه التعريف فيما نتيجته هي ذات الأمر، هنا يبدو الفرق بين التعمد وغير التعمد هو المحدد لما إذا كان طرف ما يُريد بالفعل خلق مشكلة مع الآخر أو غير ذلك، أما الطرف الذي يعجبه ممارسة التأليب والفتن فهو يسعى في كل حال لتفسير أي سلوك على أنَّه محاولة استفزاز متعمدة ليحاول بالنتيجة صناعة رأي عام ضد الشخص أو الجماعة التي مارست الفعل. الاستفزاز في حقيقته عنوان نسبي ينظر له بعضٌ بسعة مفرطة بحيث تشكل أدنى درجات الاختلاف استفزازا له، فيما يضيق هذا المفهوم ليصل إلى فئة لا تجد في أي اختلاف فكري أو ديني سببا للاكتراث فضلا عن الاستفزاز، انطلاقاً من ذلك تبدو اليوم المجتمعات التي عاشت لسنوات طويلة صراعات عقدية وحروبا ضارية، أكثر أُلفة ومودة حينما أسست فكراً يقوم على أنَّ أي مستوى من الاختلاف الفكري والعقدي ليس مسوغاً لانتهاك حقوق شخص أو فئة. في اعتقادي أنَّ التجربة التي مرَّ بها الغرب جعلتهم يدركون أنَّ الحل الأفضل لهذه المشكلة هو ترسيخ التعددية كفكرة تعني أنَّ الدين والمعتقد والرأي هي حقوق اختيارية ليس لأحد أو جماعة سلبها من الآخر، أو جبره عليها، فيما الوطنية كهوية جامعة هي ما ينبغي التأكيد عليها دون أن يمنح شخص نفسه الحق في حصرها في الفئة الفكرية أو المذهبية التي ينتمي إليها، هذه الطريقة في تربية المجتمع جعلت الأجيال تلو الأخرى تأتي وهي تنفض تدريجياً غبار الكراهية الفكرية، حتى أصبحت بلدانهم آمنة لكل أحد بما في ذلك أولئك الذين يكفرونهم ويعتقدون أنَّ الجهاد ضدهم واجبٌ شرعي. هناك من يعتقد أنَّ التعايش يعني إزالة موارد التضاد بين المختلفين بحيث لا يجد الناس في فكر غيرهم ما يجرح مشاعرهم، في اعتقادي أنَّ طرفاً ما لا ينبغي أن يتنازل عمَّا يمثل له ثابتة من ثوابت فكره، ما ينبغي هو أن ينظر الإنسان للآخر المختلف على أنَّ رأيه ودينه وعقيدته من الأمور الشخصية التي ليس لأحد الحق في تحديد كيفيتها وحدودها، في هذا السياق يبرز مفهوم (التعالي الفكري) كأحد أسباب هذه الرغبة، التعالي هو أن يظن الإنسان أنَّه فقط دون غيره يملك رشداً منطقياً واستدلالياً بحيث يكون هو المعيار المحدد لمنطقية الآخرين، فمن اتفق معه كان منطقياً ومن اختلف أصبح شخصاً أهوائياً يرفض المنطق والدليل، هذا النوع من التعالي يجعله يعيش أزمة مع نفسه أولاً قبل الآخر، لأنه يظن أنَّ الناس ينبغي أن تشاطره ذات الأفكار وإذا ما اختلفت فالإجبار هو الحل، ولأنه غير مبسوط اليد فينزل أسوأ الألفاظ القبيحة في علماء الآخرين ويكفرهم ويزندقهم فيما يُسبغ على العامة لفظ الجهلة لأنهم أطاعوهم، حينما يصل الإنسان لهذا المعنى فإنَّه يكاد يصبح قنبلة موقوتة تنتظر فقط الفرصة لتحرق الأخضر واليابس، ظناً منه أنه بذلك الفعل قد أنقذ الأمة من أزمتها، أما قبل ذلك فمنهجه في كل مقالٍ أو خطبةٍ أو برنامج تليفزيوني هو التأليب والشحن الطائفي واستدرار العواطف من الخطر المحدق الذي هو وحده من صنعه في عقله، فأصبح مريضاً لا يريد إلا نشر عدواه على الآخرين.