تقف الألباب عاجزة عن استيعاب وتفسير بعض المعالجات التي يظن المتصدي لها أنها تُعالج خللاً ما يُعاني منه المجتمع ، ولكنه يكتشف من خلال ردود الأفعال السلبية أنها لا تعدو إلَّا أنْ تكون إثارة وتأليباً لفئة على أخرى ، وكل ذلك على حساب المصلحة الوطنية ! والأغرب أن تأتي في هذا الوقت – بالذات - الذي تتلاطم أمواجه وتُنذر بمزيدٍ من المِحن والأخطار التي تواجهها أمتنا ويكتوي بلهيبها وطننا الغالي ، والأدهى والأمَّر إذا صدرت من شخص له وزنه ومكانته العلمية والدعوية كالشيخ محمد العريفي الذي عُرف عنه الطرح الجاد والمعالجة الموضوعية. هذا التعاطي السلبي يقوض الجهود التي يقوم بها خادم الحرمين الشريفين في التقريب بين وجهات النظر بين أتباع الأديان ، فإذا كان ولي الأمر – يحفظه الله – يدعو هذه الدعوة الإنسانية العالمية ويأتي أحد الرعية ويعمل عكس تيار وتوجه القيادة ، ومع مَنْ ! مع شخص مُوحِّد - نعم نختلف معه جملة وتفصيلا في مذهبة ومرجعيته الدينية - إلا أن التعايش السلمي أضحى ضرورة حتمية بين جميع أتباع الأديان ناهيك عن أبناء الدين الواحد وتحديداً الوطن الواحد ، بعد التراجع الإيجابي للغة الإقصاء التي ألقت بظلالها الواهنة ردحاً من الزمن على حراكنا الثقافي التنويري ، ولم تُحقق إلا مزيداً من الانكفاء على الذات والانقطاع عن مشارب الفكر المتجدد الذي يحاول زرع القيم الإنسانية واجتثاث قيم العنف ومصادرة الحريات. إن قيام الأفراد – أياً كانت مكانتهم – بأدوار يُفترض أن تكون من مهام مؤسسات الدولة أو مؤسسات المجتمع المدني تعكس وجود فكر أُحادي متغلغل في بُنية المجتمع يجنح إلى تشويه صورته التي تعمل القيادة وبمساندة من أصحاب الفكر المعتدل على تنقيتها من الشوائب التي علقت بها نتيجة لهذه الممارسات الفردية التي تفقد المشروع الوحدوي الذي أرسى بُنيانه الملك عبد العزيز – رحمه الله – مِيزته التنافسية ويحوُّله من مجتمع مُتجدد ينظر إلى التغيير المُخطط كأداة للتعايش إلى مُجتمع مؤدلج فاقد للنظرة الثاقبة المتوثبة للمستقبل. من هذا المنطلق أرى أن عصر تصفية الحسابات من على عتبة المنابر ولى ، ويجب ألاّ يعود إلى سطح المشهد الدعوي السعودي بأي حال من الأحوال ، بل يجب أن تكون المنابر لهدف أسمى من ذلك فبدلاً من أن تكون وسيلة للإثارة واستعداء الآخرين ينبغي أن تكون أداة لتثقيف الناس في أمور دينهم ودنياهم ؛ فالمجتمع تتقاذفه تقلبات أخلاقية ويعج بكثير من المشكلات التي تحتاج إلى معالجة عقلانية تتجاوز الأشخاص بأسمائهم إلى سبر أغوار المشكلة ذاتها والبحث في مكامن مسبباتها تمهيداً لطرح الحلول العملية لها. شخصياً – أنا - من مؤيدي الاختلاف وليس الخلاف ؛ ولكن ضابط تأييدي هو التوجيه الإيجابي له والقدرة على توظيفه توظيفاً منطقياً لخدمة القضية المُختلَف فيها ؛ لأنّ هذا الاختلاف الإيجابي – حتماً – سيولِّد حِزمة من الأفكار والرؤى – نتيجة لوجهات النظر المتعددة ومن أكثر من زاوية - والتي ستؤدي في النهاية إلى حلول ناجعة لهذه القضية ، مُستندة على البناء الذاتي المبني على الرؤية المنفتحة إلى الثقافات الأخرى ومواءمتها – قدر الإمكان – مع طموحاتنا دون الإخلال بالثوابت التي تحكم المجتمع عقدياً وعُرفياً ، بينما تكون المواجهة السلبية مُعول هدم وترسيخ للإفلاس الفكري المتنامي في المجتمعات المهزوزة ، أما استغلال سقف الحرية المعطى في إذكاء آفة الطائفية على حساب ترسيخ قيمة الوطنية فلا يتماشى إطلاقاً مع مدلول الحرية الموضوعي الذي يؤكد على عدم الانتقاص من الآخرين وتسفيههم مهما كانت المُبررات. لذا كان من الواجب أن يطغى صوت العقل المبني على الاستدلالات المنطقية على فعل الحماسة والعاطفة المرتبط بالانطباعات الشخصية الذي حصرته في إطار ضيق لا يبتعد كثيراً عن سعة الأفق الذي يُنظَر من خلاله عند معالجة قضية بهذه الحساسية. لقد أحدثت تداعيات هذا الموقف – المُستغرب – من فضيلة الشيخ والذي تناقلته وسائل الإعلام ردود فعل متوقعة في الوقت الذي لم يصدر عن فضيلته بيان يوضح فيه وجهة نظره حيال ما أفضت إليه خطبته. وأخيراً أتمنى أن يكون ما حدث كبوة جواد أصيل يعود بعدها - فضيلته - لالتقاط أنفاسه للركض المُتزن الذي تعودناه منه في ميدان الدعوة تأسِّياً للتوجيه الرباني الذي أمرنا أن تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة مع الأخذ في الاعتبار عدم الزج بها في دهاليز السياسة . [email protected]