قف بين مبنى الإدارة العامة للجوازات ومكتب العمل في جدة، وقبل أن تدخل لتنهي معاملة في أحد المبنيين تلفّت يميناً وشمالاً، ستجد في اليمين بائعاً يبيع العصائر المثلّجة، وعلى اليسار آخر يبيع البليلة الساخنة، والتفت خلفك تجد آخر يعدّ ساندويتشات في عربة متنقّلة، وغير بعيد عنه بائع خضار وفواكه ينادي على بضاعته بأعلى صوته، هذه المجموعة اللطيفة من البائعين كثّر الله رزقها هم من الأجانب المخالفين لنظام الإقامة، وليس لديهم أي بطاقة في مكتب العمل، هذا فضلاً عن أنّهم بالتأكيد لا يحملون رخص بلدية أو يطبّقون الاشتراطات الصحيّة، وهم وصلوا مرحلة من التنافس الشريف، حتى أصبحوا من معالم المكان، يمرّ عليهم مدير الجوازات ليلقوا عليه التحية صباحاً وهو غير منتبه لهم، ويمرّ عليهم مدير مكتب العمل ليتمنوا له يوماً سعيداً بعد الظهر وهو غير منتبه لهم، وبين المديرين تواصل سيارات الصحة والبلدية والدوريات الأمنية مرورها بينهم، وكأنّهم كائنات خفيّة. أمام مبنى مكتب العمل في الرياض، يصيح أبو عُمر، وهو سوري يعمل بطريقة غير رسمية منادياً على عصير التوت، وأمامه تبسط سيدة سعودية بسطتها لتبيع الفول والعدس، يساعدها عامل، وهؤلاء لا كفيل لهم ولا نظام يشملهم ولا رسوم تجديد رخص محلات تطالهم، ومنظرهم يبعث على التفاؤل والحياة، وقد سلّمهم الله من الرسوم والتجديدات والتراخيص والإيجارات، زادهم الله بسطة في الرزق وكثّر من أمثالهم. وفي ساحة مسجد الشعيبي الخلفية في جدّة، يتكرر منذ عام أو أكثر مضى ذات السيناريو، سعوديّ في السبعين يساعده عدد من الأجانب في بيع الخضار والفواكه، وقد تحوّلت مواقف السيارات على استحياء إلى حَلَقة خضار وفواكه تتسع شيئاً فشيئاً، ثمّ تداهمهم سيارات البلدية والدوريات الأمنية وتصادر بضاعتهم وتطاردهم وتزيل أخشابهم التي حولوها إلى دكاكين للعرض، ثمّ بعد أقلّ من 24 ساعة يعودون لإنشاء أخشاب أخرى ويرصون بضاعتهم ويطلبون رزقهم، ويستمرون على هذا الوضع شهراً أو أقلّ أو أكثر قبل أن تأتي البلدية والدوريات وتزيلهم من أماكنهم، ليعودوا بعد 24 ساعة وتتكرر العملية ذاتها، وهكذا. الأنظمة التجارية والعمالية في السعودية تتعامل مع ثلاثة أصناف من الناس، أحدهم يطبق ما تريد هذه الأنظمة ولديه القدرة على دفع رسومها وضرائبها وجباياتها فهو سالمٌ غانم صابرٌ مستسلم، وآخر أراد أن يطبّق هذه الأنظمة ولكنه لم يستطع ذلك فهو «مبتلِشْ» فيها وفي مراجعات دائمة، والثالث ضَرَب بها عرض الحائط فهو يعيش يومه كيفما اتفق مخالفاً ومتهرّباً ومراوغاً ومدافعاً. وقف السعودي المستجدّ في الأعمال التجارية أمام مكتب العمل يسأل العامل اليمني المخالف الذي يبيع العصائر عند الباب: لو سمحت فين يجددون رخصة العامل؟، ردّ عليه اليمني: يا عمّي لا تسأل تبلشْ !.