اختتمت في العاصمة الكويت، أمس، الندوة الرئيسة لمهرجان «القرين الثقافي 20»، التي انعقدت تحت عنوان «أزمة التطور الحضاري في الوطن العربي.. إعادة تفكير»، وشارك فيها عدد كبير من الباحثين والمفكرين من مختلف البلدان العربية، إضافة إلى مجموعة من الشباب المهتمين بالقضايا الثقافية والسياسية. وناقشت الندوة، التي استمرت ثلاثة أيام، ذات المحاور التي ناقشتها الندوة الكبرى التي عقدت في شهر أبريل من عام 1974م، بالتعاون بين نادي الخريجين وجامعة الكويت، وحملت عنوان (أزمة التطور الحضاري قي الوطن العربي)، حيث تمثلت فكرة ندوة «القرين الثقافي 20» في إعادة قراءة أبحاث تللك الندوة قراءة نقدية متعمقة من قبل مجموعة من الباحثين والمتخصصين، وتقديم رؤية جديدة لها بعد مضي أربعة عقود. واستهل منسق الندوة الدكتور محمد الرميحي حديثه بالقول «نعود إلى تلك الوصايا والأفكار، وقد قطعنا أربعة عقود شاهدنا فيها غير المتوقع وغير المعقول!»، متسائلاً «هل نتفاءل وقد قيل كثير عندما ننظر إلى ما سطرناه قبل أربعة عقود أم نتشاءم؟»، إذ يرى الرميحي أن هناك أسئلة كثيرة حملتها الأعوام المنصرمة يجدر مناقشتها برؤى جديدة. وحاولت الندوة من خلال نقاشاتها الوصول إلى رؤية حقيقية إلى ما تسير عليه خطى التفكير العربي، ولكن الرميحي أثار أسئلة لم تجد لها إجابات أثناء جلسات الندوة في يومها الأول والثاني، وقال «كنا نعتقد أننا في ثقافة محصنة، فأصبحنا في ثقافة تتعرض للهجوم، كنا أكثر قرباً من فلسطين، فصارت أبعد، كنا أقرب إلى الديموقراطية فصارت أبعد، كنا نطمح إلى أمة، فصرنا شعوباً وقبائل وطوائف متطاحنة). من جهته، تساءل الكاتب والخبير الاقتصادي الدكتور عبدالعزيز الدخيل في حديثه خلال الندوة «هل إسلامنا الآن هو إسلام القرآن.. لا! إن 90% من إسلامنا اليوم ما هو إلا أقوال وآراء فقهاء، ولنا كل الحق في أن ننقدهم»، متابعا أن لنا الحق أن ننتقد وأن نتحدث وأن نقول هذا خطأ وهذا صواب، إلا أن هذه الحرية في الرأي غير موجودة مع الأسف»، وأضاف «بالتالي فإن هذه التركة المجتمعية المتشبثة في الفكر التقليدي هي نتاج لهذا التاريخ ، لأن الرأي العام يتبع الأقوى، لذلك نحن كأننا نحفر في الجدار، وعملية التوفيق والتلفيق فشلت مند بداية القرن العشرين، لذا لابد من فكر جديد، ومدخل جديد، من أجل الوصول إلى مستقبل مختلف، ولا نستطيع أن نلفق أو نرقع للماضي، بل لابد من نقد وترك الماضي، وهذا لا يعني ترك القيم الحميدة والتقاليد النبيلة.. الإسلامية بالدرجة الأولى». أما الكاتب والمفكر اللبناني رضوان السيد، فبدأ حديثه بتوجيه انتقاد لعنوان الندوة، مؤكداً أنه لابد أن يتناول «الثقافة والحضارة» وليس «التطور الحضاري»، وقال «أستطيع القول إن الهاجس الثقافي والتراثي كان يسيطر على المفكرين العرب الليبراليين والتقدميين منذ مطلع الستينيات، وتفاقم بعد هزيمة 67 ليتحول إلى هاجس صاروا يبحثون له عن مخارج.. الآن وبعد ما يزيد على نصف قرن صرنا نتساءل كيف يمكن لنا أن نتجاوز هذا التحليل الذي يقع في أصل الهزيمة، ثم ظل مسيطراً على حركات التغيير العربية حتى عام 2011م، باعتباره واقعاً لأصل التخلف». وعن محاور الندوة، قال السيد «برزت أفكار المثقفين العرب الأوائل حول الحضارة الإسلامية تحت وطأة المستشرقين والاستعمارين الفرنسيين منهم والبريطانيين.. وذلك في السبعينيات والثمانينيات، أي في القرن التاسع عشر، وتكونت لديهم قناعة لا نعرف في الحقيقة من أين ظهرت، تقول إن هناك ألف عام من الانحطاط العربي والإسلامي ينبغي الخروج منها، ولنخرج منها؛ تقسّمت الآراء، فيرى البعض أن علينا تبني الأطروحات الغربية والأجنبية، وآخرون يرون الخروج منها من خلال تجديد الدين والدولة، إضافة إلى آخرين دعوا إلى الخروج من الانحطاط من خلال النهوض الذاتي، وهؤلاء دعوا إلى الاجتهاد وتحطيم التقليد، إذ يرون ضرورة العودة لما قبل التقليد، وبناء على هذا الطرح تحالف مع هذه الفئة الإصلاحيون في المشرق والمغرب العربي، مثل تيار محمد عبده، وتيار عبدالحميد بن باديس، لأن منهجهم كان ضد التقليدية، فهم يرونه ممانعاً للأطروحات الجديدة ضد الانحطاط، وضد القادمين من أوروبا»، وأضاف «لذلك نجد أن أوائل الكتب في السبعينيات والثمانينيات كانت رداً على المفكرين العرب المنتمين للمستعمر، كما نجد أيضاً عدة ترجمات للكتب التي تدعو للمدنية». وأضاف السيد في حديثه «في المحور الثاني للندوة نجد أن هؤلاء المفكرين الممانعين والمنتمين لتيار النهوض الذاتي هم من تصدى لجميع التيارات، وامتدوا إلى أيام الدولة الوطنية، ما بين حقبتي المستعمر والحكام العرب، كما نلاحظ أن المنتمين إلى الأزهر في مصر والزيتونة في تونس ومقاصد الشريعة في لبنان تبنوا هذه الأفكار التي دعمت المشاريع الجديدة لتشجيع المشروع السياسي والإسلامي، وهذا لم يكن في تلك الفترة أمراً سهلا، كما تم توظيف الدين في كل الأمور على اختلاف الرؤية العثمانية والمصرية والآسيوية للمارسات الدينية. من ناحية ثانية، اعتبر الباحث عبدالله القويز أن الأوراق التي قدمت حول التخلف السياسي خلال الندوة التي عقدت قبل أربعة عقود لامست القضايا التي كانت سائدة في ذلك الوقت، ومنها هزيمة 67 ودور القائد في الأمة والزعيم، وقال «نلاحظ أن تلك الندوة كانت مسيسة حسب الرؤية السائدة في ذلك الزمن، وقد لامس المشاركون فيها مشكلات تلك المرحلة»، مستدركا بالقول إن التساؤل الذي يجدر طرحه في هذه الندوة «هل التخلف السياسي ناتج عن التخلف التاريخي والاجتماعي أم العكس؟». وأضاف القويز «في تلك الفترة كان موضوع الوحدة العربية مسيطراً على الفكر السياسي، والسؤال: هل الوحدة حتمية؟ ..أرى أنها غير حتمية؛ لأن العرب لن يكونوا متوحدين إلا في فترات قليلة معدودة من تاريخهم، لكنها مطلوبة لتحقيق أهداف عسكرية واقتصادية وعلمية». في حين اعتبر القويز أنه منذ ذلك التاريخ الذي تنادى فيه العرب للوحدة، وعلى الرغم من إنشاء مراكز تدعم الوحدة العربية، إلا أنه لم يتحقق شيء ملموس على أرض الواقع، وقال «الذي أود التأكيد عليه من خلال تجربتي المتواضعة أن موضوع الوحدة يعد موضوعاً معقداً وشاقاً وطويلاً ويأخذ في طريق تحقيقه فترات طويلة جداً، ولابد أن يكون عبر تفاوض بين أطراف متكاملة»، مشيراً إلى أنه لاحظ من خلال مداخلات الندوة الأولى عام 1974م أنها تركزت في رؤية بناء الدولة، وقال «حينما تكون هناك دولة وطنية متكاملة يمكن للوحدة أن تبدأ». ولفت الباحث القويز إلى أن الهدف من إنشاء الجامعة العربية عام 1945م، لم يكن بناء الوحدة حينها، وإنما كان هدفها حماية بعض الدول العربية من تعدي بعضها الآخر، وبالتالي حافظت الجامعة على استقلالية الدول العربية المنتمية لها عن بعضها، وقال «إذا أريد لهذه المؤسسة أن تتحول إلى مؤسسة للوحدة فينبغي أن تتغير سياستها»، وأضاف «ربما أقول أكثر من ذلك: إن المؤسسات المنبثقة التي أنشئت من خلال الجامعة العربية، سواء أكانت اقتصادية أم صناعية أم زراعية، جميعها أنشئت في السبعينيات وبداية الثمانينيات ليس لتحقيق الترابط بين الاقتصاديات العربية، وإنما لهدف التبادل بين الدول الأعضاء، لذا كان ينبغي لهذه المؤسسات أن تكون فاعلة في تكامل الرؤية الوحدوية». إلا أن القويز بدا متفائلاً مما تعيشه الدول العربية من أزمات سياسية وأمنية، وصفها بالأوضاع الخانقة، معتبراً ذلك سبباً في انتقالها من التعاون إلى الوحدة، مستنداً فيما ذهب إليه على خلفيات نشأة الاتحاد الأوروبي وقيام الوحدة الأوروبية، التي قال إن المشاركين في الندوة الأولى عام 1974م لم يتطرقوا لها بسبب عدم اكتمال صورتها في تلك الفترة، وأضاف «نلاحظ أن هذه الوحدة الأوربية نشأت بعد حروب واضطرابات شهدتها أوروبا، ولعلي متفائل في أن وضع هذه الأزمات العربية سيجعلنا نضع أرجلنا على بدايات طريق الوحدة، لأنها هي وحدها ما سيدعم استقلال واستقرار الدول العربية». وتحدث القويز عن التحديات التي ستواجه الدول العربية في سعيها إلى الوحدة، معتبراً أول هذه التحديات هو الطبيعة الديمغرافية، وذلك بسبب زيادة كثافة السكان والزحف السريع من القرية إلى المدن في معظم الدول العربية، وقال «لعل ذلك يعد أحد العوامل الإيجابية إذا ما استغل في توفير العمالة الشاقة لأي برامج اقتصادية يمكن أن تكون في البلد ويمكنها أن توفر سوقا خاصا بها.. ضمن مطامحها في الحصول على مكاسب أكثر». وأضاف «في اعتقادي أن التحدي الأساسي القادم هو الطاقة التي أثبتت خلال الأربعين سنة الماضية أنها السلعة الوحيدة والفكر الوحيد الذي أعطى للوحدة العربية معنىً اقتصادياً وصناعياً، لأنها الوحيدة التي ظلت قادرة على تمويل جميع برامجنا التي نحتاجها، بينما نجدها الآن مهددة عن طريق الوقود الصخري أو برامج الطاقة البديلة، وعلينا أن نكون على استعداد لهذه المتغيرات». ولفت إلى أن من التحديات التي تواجه الوحدة هي الحالة الاقتصادية، لافتا إلى أن العالم يتجه حاليا إلى تحالفات التجارة الحرة، وتوقيع الاتفاقيات العالمية، وذلك لصالح منظمة التجارة العالمية، التي يمكن أن تتقلص من خلال توقيع الاتفاقيات الثنائية بين الدول العالمية دون العودة إلى المنظمة وخارج إطارها، مضيفا أن الوجود الإسرائيلي ما زال ضمن التحديات التي تواجه الدول العربية من خلال تقدمها تكنولوجيا وصناعياً دون أن تخسر جنديا واحدا، كما تشكل إيران أحد أبرز تلك التحديات أيضا، وذلك منذ بداية ثورتها عام 1979م، وإيجاد مراكز لها من خلال تسليح وتمويل واختراق معظم الدول العربية. أما الدكتور معجب الزهراني فرأى أن موضوع التطور الحضاري يمثل مشكلة تطرح باستمرار، وقال «لا أشك أنها ستطرح أيضا بعد مرور أربعين سنة أخرى مقبلة، وبنفس العنوان.. ولكني أشير إلى ظاهرة يبدو لي أنها مؤشر على الأزمة، في نفس الوقت الذي عززت وعمقت فيه الأزمة، وهي العودة المعمّمة إلى الثقافة التقليدية». وقال الزهراني «الثقافة التقليدية في العالم العربي بشكل عام هي ثقافة سلفية، سواء أكانت قبلية أم قومية، سنية أم شيعية، أم غيرها»، وأضاف «لا يعنيني خيار الأفراد والمجتمع، ما يعنيني هو خيار النخب الفاعلة في ذلك المجتمع، فالعودة للمفاهيم القديمة خطر جداً فيما أرى، لأنها مثل الأدوات القديمة ولا يمكنها أن تمنحنا رؤية للتفاهم أو التوصل إلى حلول حديثة لمواجهة التحديات العالمية المعاصرة، فجميع تلك المفاهيم المعممة تورطنا في التزامات تؤدي إلى فوضى في الفكر وفوضى في العمل». من جهته، قال الدكتور الصادق بخيت «نحن في حالة مراوحة مستمرة بين ماضٍ نتخيله زاهراً بصورة مطلقة، وبين حاضر نتحدث عنه دائما بأنه منعطف خطير»، مشيراً إلى أن كلمة «منعطف خطير» لم تغادر الفكر العربي منذ أمد بعيد، وأنها أصبحت اليوم أصح وأصدق مما قيل في الأمس. واعتبر الدكتور بخيت أن مشكلات ندوة 1974 ليست هي مشكلات 2014، وقال إنه على الرغم من التشابه بين جميع الأزمات إلا أن الفارق كبير بين الحالتين، مؤكدا أن تلك الحالة كانت تصحبها كثير من المبشرات، بينما «لا نجد الآن كثيراً من المبشرات وإنما نجد كثيراً من الإحباطات»، حسب رأيه، مشيراً إلى الإحباطات السياسية والأنماط الاقتصادية الجديدة، حتي في الأماكن التي لم تشهدها طفرات اقتصادية. وقال «ليس كل ما ذكر في 74 يغطي ما نراه اليوم بعد أربعة عقود، فقد تبددت حتى الروح التضامنية العربية خلال الفترة الماضية، فنحن نجد بأن الحالة الإيجابية شكلت كثيراً من الرؤى لندوة 74، حيث كان التطلع لغد أفضل سائدا في ذلك الوقت، تلك الفترة كانت تنظر إلى بشرى حل تلك الأزمات، أما اليوم مع المتغيرات التي حدثت، جعلت الأزمات تتعقد بشكل أكبر، وستظل آثارها إلى أمد طويل في تاريخ المنطقة».