إن كنت من مواليد السبعينيات أو ما قبلها ومن هواة القراءة فلا شك أنك قد مررت بمرحلة الشغف بأجاثا كريستي في شبابك؛ تلك الأجواء الأرستقراطية المتأنقة، والشخصيات الإنجليزية المهذبة وجرائم القتل الغامضة التي تُرتكب في تكتم وتعقيد. ثم الأبطال الأذكياء الذين يفكون طلاسم الجريمة ويقدمون المجرم للعدالة، السيد «بوارو» ذو الشارب الكثيف أو الآنسة «ماربل» العانس التي تدس أنفها في شؤون الآخرين، كلاهما يتمتعان بذكاء حاد يجعل متابعة مغامراتهما متعة لا تضاهيها متعة. منذ رحلت أجاثا كريستي لم يأت كاتب له ذات النكهة الأرستقراطية المميزة والقبول الشعبي من القراء حول العالم في ذات الوقت. ظلت تلك المعادلة عصية على الحل حتى ظهر «دان براون»! قد يبدو الربط بين دان براون وأجاثا كريستي متعسفاً بعض الشيء، خصوصاً وأن الأول اشتهر برواياته المثيرة للجدل كَ «شفرة دافينشي» و«ملائكة وشياطين» وغيرهما التي دارت معظمها في عوالم الرموز والمؤامرات والمنظمات السرية التي تخفي أسراراً عبر التاريخ، ويهمها أن تظل مدفونة في السراديب العميقة، سواء كانت سراديب الفاتيكان أو اللوفر أو حتى البيت الأبيض. لكن لو تأملت الصورة بعمق أكبر واستبعدت قليلاً ذلك الثوب الفاقع للرموز والمنظمات السرية فسنجد ذات التركيبة الأساسية التي صنعت نجاح أجاثا كريستي، فستجد في روايات دان براون ذات البطل المثقف الأنيق وهو هنا بروفسور التاريخ في هارفارد «روبرت لانجدون» الذي يمتلك ذكاء عالياً وخلفية ثقافية واسعة تجعله قادراً على فك رموز وطلاسم الألغاز التي يواجهها، وهو كما في روايات أجاثا كريستي لا يملك مهارات بدنية عالية سوى مهاراته العقلية فقط، ويظل يدور في فلك الغموض حتى الصفحات الأخيرة التي ينجح فيها في حل المعضلة، براون كما أجاثا كريستي وفيٌّ للونه الخاص بالتشويق فلا يقحم الحب أو العاطفة في رواياته وإن كان يميل كثيراً للاستعراض وسرد المعلومات عن الأماكن والأحداث التي يمر بها بطل روايته. ولعل روايته الأخيرة «الجحيم» خير مثال على ذلك التقارب بينه وبين أجاثا كريستي، ففي الرواية يتواضع المؤلف ويخلع ثوب المؤامرات العالمية المزعوم، ويقدم بطله المحبوب البروفسور لانجدون في إطار رواية حركة بوليسية مليئة بالإثارة والغموض، يتتبع فيها خيوط لغز صاغه عالم مجنون قبل انتحاره ويحاول هو فك طلاسمه قبل أن يفوت الوقت. رواية ممتعة سلسة وجذابة ولا تخلو من وصف ممتع لمعالم وآثار ولوحات فنية في مدن عدة بين فلورنسا والبندقية وإسطنبول واستعراض مشوق للكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي وصاغ العالم المجنون رموز لغزه على أبياتها. إن كنت تبحث عن رواية بوليسية ممتعة تعيد لك نكهة وذكريات الروايات البوليسية التي كنت تقرأها أيام شبابك فقد وجدت بغيتك الآن… قراءة ممتعة يا صديقي.