أن تسمع سباباً أو «شتيمة» في الشوارع الخلفية للمدن «الموبوءة» بالتخلف والمرض والفساد.. فهذا أمر ممكن! وأن تسمع ألفاظاً بذيئة وتشاهد عراكاً بالأيادي على «القهوة» في الحارات التي يقل عند أهلها التعليم والأدب فهذا أمر محتمل! أما أن تسمع سباباً ولعنات على الشاشة وفي برنامج حواري المفترض أنه يناقش النخب، ويستضيف مفكرين ومثقفين ومنظرين فهذا لا يجوز ولا يُحتمل. قد أبدو منفعلاً بعض الشيء في هذا المقال، لأنَّ ما شاهدته على الشاشة يجعلني هكذا، وأندم على تلك المُشاهدة، وأتأسى على رجال تجاوزوا الستين، وأحدهم يدافع عن الدين وتبدو عليه علائم التدين وقد تجاوز حد المعقول والمنطق وخالف كل قيم البث التي نحاول أن نغرسها في عقول أولادنا ونعلمها للمذيعين الجدد وضيوفهم. فحلقة حوارية بُثت قبل فترة على قناة «المحور» لا يجوز أن ينزلق ضيفا المذيعة المسكينة إلى هذا المنزلق، ويكيلا السباب والاتهامات والتحقير لبعضهما بعضا، كان أسهلها أن يقول «المتدين» للضيف الآخر: أنت حاقد، أنت قليل أدب، أنت منشق، ليقوم الآخر بالرد عليه: «أنتم لستم مسلمين، بل أنتم خارج الملة والدين، وأنتم خونة لتعاليم الدين». ثم يقوم «المتدين» بقذف الماء من الكوب على الضيف الآخر. ولقد «حمى» الحوار بين الرجلين إثر قيام أحدهم باتهام «الإخوان المسلمين» «برعاية الإرهاب» داخل مصر والوقوف خلف العمليات الإرهابية في سيناء!؟ نحن هنا لسنا طرفاً في القضية المثارة بين الرجلين، التي لم تستطع المذيعة «المسكنية» ضبط إيقاعها، ما حدا بالمخرج أن يوعز لها بأخذ فاصل، لكننا نناقش الأخلاقيات التي يجب أن يتحلى بها كل من يخرج على الرأي العام في المحطات الفضائية، ونعترف أن هنالك كلاما أكثر «دناءة» خرج من بعض الفضائيات ويخجل الإنسان أن يذكره. فالضيف الذي لا يستطيع كبح جماح غضبه، أو التحكم في أعصابه -مهما كان صاحب قضية- لا يجوز له تعريض شخصه إلى هذه المواقف، وتعريض الضيف الآخر لمهانات لا يجوز قبولها على الشاشة. كما أن القائمين على المحطات الفضائية التي تبث مثل هذه البرامج بقصد «الإثارة» وجذب المشاهدين، لا بد أن يتحملوا مسؤوليتهم الاجتماعية في حماية المجتمع من تلك الألفاظ والتصرفات التي تتناقض مع قيم المجتمع المتحضر والدين وما يتم تدريسه في الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد. فكيف نريد لشبابنا أن يتحصنوا من الألفاظ غير المقبولة التي يسمعونها في «الشارع» ونحن نراهم يشاهدون مثل تلك البرامج الحوارية المتشنجة التي تصل إلى حافة الإسفاف، وأن يقوم مذيع «مخضرم» بالردح على الهواء ليصف من يعارضهم بأنهم -حاشاكم الله- «زبالة» و«وساخة»؟! ألهذا الحد وصل الأمر بالإعلام العربي الذي عُقدت من أجل تهذيبه مئات الاجتماعات، وكتبت من أجل ترويضه آلاف أوراق العمل، تحت شعارات براقة مثل «نحو إعلام عربي ناجح»، أو «إعلامنا العربي والمسؤولية الاجتماعية»، أو «إعلامنا العربي وتحديات العولمة» ، أو «القيم الإعلامية في عصر ثورة المعلومات»، وغيرها من الشعارات. أين ذهب كل ذلك الكلام؟. وكيف سيتعلم المقدمون المبتدئون عندما يشاهدون «المخضرمين» ينزلقون إلى كلام «الفهلوية» من رجال العصابات في الأفلام العربية. أبهذا الكلام نواجه عقول الشباب وأفكارهم ونواجه العالم؟. وهل بالصراخ تتبلور الأفكار وتنضج الرؤى؟ ثم ما هي الفائدة من بث برامج تحرّض على الكراهية وتُمعن في تحقير الآخر، وهو مواطن من نفس البلد ونفس الدين؟. وهل من مصلحة أحد أن تتحول الشاشات إلى «أوكار» لتفاذف الاتهامات والاعتداء بالأيدي؟ إن المرء ليخجل أن يسمع مثلما يسمع هذه الأيام ويشاهد ما يشاهده من قذف لكؤوس الماء أو الكراسي من ضيوف متخصصين، يُفترض أنهم يعلّمون المشاهدين «أدب الحوار». ولكن يبدو أن بعض برامج الحوار استمرأت حوارات بلا أدب!