يظل الحديث عن مراحل البناء والتأسيس مرتهن بالحديث عن رجالات القرن المنصرم، حيث شهد الآباء والأجداد أطوار العمل الدؤوب في كافة مرافق ومؤسسات الدولة وأعمالها الميدانية والإدارية، ولعل إطلالة سريعة على حقبة البناء التي شهدتها الدولة -منذ توحيد البلاد عام 1351ه- كفيلة باستعراض تلك السير الرائدة في حياة كثير من رجالات المجتمع والدولة، الذين اختلفت أعمالهم باختلاف مهامهم الموكلة لهم، والذين كان من بينهم الوجيه ورجل الأعمال والدبلوماسي الشيخ "إبراهيم بن عبدالله المعمر" -رحمه الله-، الذي عكست لنا أعماله وتعدد مهامه حجم الثقة الممنوحة له من قبل الملك المؤسس -رحمه الله- ثم أبنائه من بعده، حيث عمل الشيخ "إبراهيم" وزيراً مفوضاً ووكيلاً لوزارة الخارجية ورئيساً للديوان الملكي، ومن ثم قائم مقام مدينة جدة. الشيخ "إبراهيم بن محمد بن عبدالله بن إبراهيم بن سيف المعمر".. سليل أسرة آل معمر أمراء العيينة قديماً، ولد وتربى في الكويت، حيث كان والده هناك يمارس التجارة ويعمل في ضروب الاستثمار التجاري مع عدد من التجار ورجال الأعمال. وقد ولد قرابة عام 1878، وأمضى طفولته في الكويت كما تلقى علومه الأولية فيها، ثم سافر وتنقل بين عدد من بلدان الخليج والهند، ومنها اكتسب مهارة التحدث بأكثر من لغة كالإنجليزية والأردية والفارسية، حيث درس بعضها وبعضها حصل عليها من خلال الممارسة والعمل المشترك، كما تردد على عدد من الدول الأوروبية والعربية والآسيوية وحتى الأفريقية، وهو وإن تميّز بكثرة أسفاره وتنقلاته إلاّ أنه لم ينفرد بهذه الميزة عن غيره، بيد أنه برز عن أقرانه وأبناء زمانه بسعة وتعدد الدول التي مارس فيها أعماله التجارية، وقد أكدت ذلك كتابات بعض الباحثين الذين اعتنوا بتراجم أعلام القرن المنصرم من رجالات التأسيس والبناء لبلادنا. يذكر أن "الشيخ إبراهيم" -رحمه الله- استقر فترة من الزمن في مصر، وبعد دخول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى الحجاز أرسل له الملك رسالة مفادها أنه في حال رغبته المجيء إلى السعودية فإن الملك يرحب به ليعمل لديه، فعلاً رحب "ابن معمر" بخطاب الملك ووصل إلى الحجاز في رجب 1344ه، يناير 1926م، وعين فور وصوله رئيساً للديوان الملكي، وأدى عمله خير قيام لعدة سنوات، ومن ثم استقال من منصبه، وكان الملك يريده إلى جانبه فعينه وزيراً مفوضاً له في بغداد، وقدم نفوذه ووجاهته للنجديين الذين كانوا يعيشون في العراق آن ذاك، حيث كان بعضهم يعاني من التفرقة وبعض المضايقات، وحينها بذل "ابن معمر" جهوده لخدمة مواطنيه مما أزعج السلطات العراقية، فطلب ملك العراق من الملك عبدالعزيز إبعاده عن العمل بالعراق؛ فاستجاب الملك لرغبة ملك العراق على مضض وتردد، ونقل "ابن معمر" ليعمل قائم مقام لمدينة جدة، وبعد نهاية فترة عمله أقام في مدينة جدة إلى أن توفي -رحمه الله-. استدعاه الملك عبدالعزيز بعد دخوله الحجاز وعيّنه رئيساً للديوان الملكي ثم وزيراً مفوضاً في بغداد.. وأخيراً قائماً لمقام جدة أسرة آل معمر من المعروف أن «آل المعمر» هم أمراء مدينة العيينة وكذلك مدينة سدوس في شمال غرب مدينة الرياض الحالية، ويتردد اسم هذه الأسرة التميمية النسب عند كثير من المؤرخين، لا سيما حين بدايات دعوة الشيخ «محمد بن عبدالوهاب» في منتصف القرن السابع عشر، كما عرف عدد كبير من أبناء هذه الأسرة كرواد في كثير من المجالات وتقلد عدد كبير منهم مهامَّ رفيعة في دواوين ومؤسسات الدولة السعودية في مختلف أطوارها وأزمنتها، تتبعها بعض الباحثين والمؤرخين حتى من أبناء أسرة «آل معمر» ذاتها حيث ألّف «عبدالمحسن بن محمد بن عبدالعزيز المعمر» في عام (1995) كتاباً يحكي تاريخ أسرة «آل معمر» وإمارتهم السابقة في العيينة في القرن السابع عشر. رحلة التأسيس الشيخ «إبراهيم» أحد رجالات الدولة السعودية ممن رافق مراحل البناء والتأسيس الإداري والسياسي، لا سيما في الفترات الأولى من بناء الدولة وتوحيدها، وهو يعد من أولئك القلائل من بين الشخصيات التي نالت حظاً وافراً من التعليم الحديث خارج منطقة نجد، حتى أنه طاف العالم كتاجر ومستثمر إلى أن استقر في بلاده وعايش تأسيس مراحل الدولة السعودية، وقيام مؤسساتها الدستورية والإدارية، وأصبح فيما بعد من كبار مستشاري الملك عبدالعزيز. ويؤكد «د. عبدالرحمن الشبيلي» -كاتب وباحث- أن هناك جوانبَ من محطات حياته ما تزال بحاجة إلى توضيح، ولذا فالمرجو أن يتمكن الباحثون من تحقيق رحلته الطويلة في عالم التجارة والدبلوماسية والإدارة مدة تزيد عن ستين عاماً؛ لكونه شخصية لافتة للأنظار، سواء فيما يتصل بثقافته العلمية في مقياس الفترة التي عاشها، أو فيما يتعلق بالمسؤوليات والمناصب الرفيعة التي تولاّها. كتُب المؤرخين وكتب عن الشيخ «إبراهيم آل معمر» -رحمه الله- العديد من المؤرخين والباحثين في جذور التاريخ، ومن أولئك المحدثين «حمد الجاسر» -رحمه الله -، و»محمد المانع»، و»عبدالله فيلبي»، و»أمين سعيد»، و»محمود بشير المدني»، و»وليام فيسي» -الذي أرّخ وأعد كتاباً عن مدينة الرياض-، كما ورد ذكره كثيراً في الوثائق الأجنبية التي تتحدث عن تلك المرحلة التي عاشها «ابن معمر». الأديب والشاعر كان للشيخ «إبراهيم آل معمر» كتابات ومشاركات متعددة في صحف سعودية وعربية كان من أهمها مقالاته التي كان يكتبها في بعض الصحف المصرية إبان إقامته هناك، كما يذكر له كتابات في الصحف السعودية ذكر منها الباحثون مقالين نشرهما عام 1926 في الجريدة الرسمية (أم القرى) واصفاً الرحلة الأولى للملك عبدالعزيز من مكةالمكرمة إلى المدينةالمنورة، كما نشر أبياتاً شعرية يصف فيها تلك الرحلة في الجريدة نفسها (العدد 110 يناير 1927)، وعليه فقد عُرف عند بعض الباحثين بقلمه الذي تميّز بنهجه وأسلوبه الحديث المعاصر، لا سيما في مقالاته ورسائله المنشورة التي عكست حجم ثقافته ومعرفته بقضايا عصره. حياته السياسية والإدارية ويشير «د. عبد الرحمن الشبيلي» إلى أن الشيخ «إبراهيم آل معمر» بدأ انطلاقته الأولى في حياته العملية العامة والسياسة لخدمة وطنه ومليكه.. مبتدئاً بديوان الملك عبدالعزيز. وذكر أن حياته السياسية مرت بعدة مراحل ومحطات استثنائية، ومن أبرزها: أنه كان من ضمن المستشارين السياسيين الأوائل حول الملك عبدالعزيز من جيل «أحمد الثنيان»، و»د. عبدالله الدملوجي»، حيث تشير الوثائق إلى أنه كان سكرتيراً بالديوان الملكي، ومكلفاً بملف الاستخبارات السياسية الخارجية بحسب ما جاء في الوثائق المتوافرة السعودية والعربية والأجنبية، كما أن من أدواره الإعلامية البارزة تلك الرحلات التي كان فيها مبعوثاً من الملك عبدالعزيز -رحمه الله- إلى أوروبا وبعض البلاد العربية.. وبعد أن استقر في مصر أكمل مسيرته الإعلامية وتوضيح حقيقة أهداف الحكم السعودي الجديد في الحجاز (1925)، ودحض الافتراءات والشبهات التي كانت تنشرها الدعايات المناهضة له، وقد كتب «المعمر» خلال إقامته تلك في مصر عدداً من المقالات السياسية والرسائل. ويضيف «د. الشبيلي» انه كان يضيف لقب (النجدي) إلى اسمه إبراهيم بن محمد بن معمر، وأنه كان يقطن في الحلمية، ثم في الزيتون في ضواحي القاهرة، كما أنه وبعد عودته من مصر عاد إلى عمله سكرتيراً مقرباً من الملك عبدالعزيز قبل تعيينه رئيساً للديوان، وذلك بدليل ما نسبه إليه الصحافي الألماني (ولفجانج فون) الذي زار المملكة عام 1927م، لقد عرف «المعمر» خلال تلك الفترة بكثير من المواقف الإنسانية والاجتماعية النبيلة، ذلك أن منصباً بهذا المستوى يتيح لشاغله أن يذكر بالخير في مجتمعه طالما بقي في خدمة الناس وتلبية احتياجاتهم. حضر توقيع اتفاقية «صداقة وحسن جوار» مع العراق على متن «الطرّاد البحري».. وشارك في معركتي «السبلة» و«القرعة» وكان ممن ذكره بذكر حسن في تلك الفترة العلامة «حمد الجاسر» الذي سجل معي -والحديث للدكتور الشبيلي- في ذكرياته أن «المعمر» سهل له الالتحاق بالبعثة في مصر عام 1939م. يذكر أن الملك عبدالعزيز -رحمه الله- اختاره رئيساً للديوان الملكي خلفاً للشيخ «الطيب الهزازي» بحسب (جريدة أم القرى)، العدد 87 أغسطس 1926. توقيع اتفاقية كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- قد أوفد الشيخ «إبراهيم بن معمر» إلى الكويت للاجتماع بوزير خارجية العراق «ناجي شوكت» في الكويت تمهيداً لعقد المؤتمر الذي تم على الطراد البحري (لو بين) عام 1930م بين الملك عبدالعزيز والملك فيصل بن الحسين ملك العراق، بمشاركة المندوب السامي البريطاني، وأسفر عن توقيع اتفاقية صداقة وحسن جوار بين البلدين (أبريل 1931). معركة السبلة والقرعة حضر الشيخ إبراهيم آل معمر الموقعة المسماة (السبلة) التي وقعت عام 1347ه، مع (الإخوان) في روضة قريبة من مدينة الزلفي (250 كم شمال الرياض)، وذكر «محمد المانع» في كتابه (توحيد المملكة العربية السعودية) أن «المعمر» كان على رأس مفرزة الرشاشات والمدافع، كما شارك في موقعة «القرعة» التي جرت بعدها في الدبدبة شمال شرقي المملكة. وزير مفوض ولكفاءة الشيخ «إبراهيم» وثقة الملك عبدالعزيز في قدراته فقد عينه وزيراً مفوضاً للمملكة لدى العراق (يونيه 1933) بعد فترة وجيزة من افتتاح المفوضية، وفي واحدة من أهم العواصم العربية المؤثرة في مصالح السعوديين (بغداد)، إضافة لكون المنطقة تضم جالية سعودية كبيرة كانت قد هاجرت إلى العراق، وأن قبائل وعشائر عربية كانت تنتشر على المناطق الحدودية بين البلدين، وهو ما يذكر بأهمية الموقع، فضلاً عن إشرافه على تطبيق اتفاقيات الحدود الموقعة حديثاً بين الدولتين، وعلى تطبيق إجراءات الحج للراغبين فيه، وقد أشرف «المعمر» خلال عمله في بغداد على تنظيم الزيارة الأولى التي أداها ولي العهد الأمير (الملك) سعود عام 1936. الشيخ إبراهيم بن محمد بن معمر ابن معمر.. رجل دولة بامتياز الحضور وتحمل المسؤولية قائم مقام جدة تم تعيين «إبراهيم بن معمر» قائم مقام مدينة جدة (1937)، وكان من أبرز من شغل هذا المنصب في نهاية العهد الهاشمي وبداية العهد السعودي «عبدالله علي رضا»، الذي اجتمع مع الملك عبدالعزيز حين دخوله إلى مدينة جدة، ثم خلفه بعد وفاته عبدالعزيز بن معمر (أمير الطائف فيما بعد)، ثم خلفه محمد عيد الرواف، الذي نقل إلى بغداد بمجرد تعيين «إبراهيم المعمر» الذي شغل هذا المنصب حتى وفاته -رحمه الله-، وخلال توليه منصب قائم مقام جدة كلف إلى جانب عمله بعمل وكيل وزارة الخارجية (بالنيابة عن فؤاد حمزة الذي تغيب لأسباب صحية في 3 مارس 1938)، حيث ورد في الوثائق البريطانية والفرنسية عدة مخاطبات بتوقيعه، من بينها على سبيل المثال خطابه المّوجه بتاريخ 17 أبريل 1938 إلى السفير الفرنسي بجدة، يعبّر فيه عن شكر وزير الخارجية السعودي (الأمير فيصل) بمناسبة وصول طائرة فرنسية مهداة إلى الملك عبدالعزيز، إضافة إلى مهامه لترتيب زيارة ملك أفغانستان »محمد ظاهر شاه» إلى المملكة عام 1949، والتي تمت قبل وفاة الملك عبدالعزيز بنحو أربع سنوات، وقد خصص «إبراهيم الحسون» في كتابه (خواطر وذكريات) (3 أجزاء 2003) حيزاً كبيراً تطرق فيه إلى اسلوبه وخصاله نظراً لكونه عمل سكرتيراً خاصاً له في قائم مقامية جدة. وفاته كانت وفاة الشيخ «إبراهيم بن محمد بن معمر» في إحدى مستشفيات بيروت عام 1378ه-1958م، والقارئ لسير وتراجم وأعلام القرن الهجري المنصرم في بلادنا، يلحظ كثرة من توفي من أولئك الأعلام في مستشفيات العاصمة اللبنانيةبيروت، حيث عرفت لبنان آنذاك بوفرة مراكزها العلاجية وتقدمها في المجال الصحي، وكان الشيخ «إبراهيم» -رحمه الله- قد ترك من الأبناء كلاً من عبدالله وعبدالعزيز وعبدالرحمن وأحمد وسعود ومن البنات نورة وفاطمة وشعيّع ومنيرة. رحم الله الشيخ عبدالعزيز رحمة واسعة. ابن معمر مع الإمام أحمد ملك اليمن الشيخ إبراهيم بن معمر قريب من الناس وتلمس احتياجاتهم