سيظل المحرضون الممولون يتكاثرون مادام فكرهم يجد أرضا خصبة ينمو ويترعرع ويتمدد فيها، لأنها تستمد بقاءها من نفوذ مراكز قوى وقطط سمان لم تطلها سكاكين الجزارين، لابدّ أن تكون المواجهة معهم جادة وصارمة غير ناعمة، لقطع دابرهم يشكل الإرهاب الذهني، والشحن العقلي اللذان يزرعهما شيوخ التحريض، وفقهاء الإرهاب في عقول الشباب، الأرضية الخصبة للإرهاب الفعلي، فلا يجد الشاب أدنى غضاضة في حمل القنابل والأسلحة والأحزمة الناسفة، ليلقي بها هنا وهناك، فيقحم نفسه وبلاده في حروب الآخرين . لم يكن مواطنو «تمير» أول من شكا الذين يعبثون في عقول أبناء الوطن من شيوخ التحريض على الجهاد، ليقدموهم قرابين على مذابح القاعدة والدواعش وأحلاف الفجار المتكسبين بالدين ؛ فقبلهم جأر بالشكوى آباء مكلومون وأمهات ثكالى، خطف شيوخ التحريض أبناءهم في غفلة من الجميع، ومنهم أولئك الآباء والأمهات الذين استضافهم داود الشريان في برنامج الثامنة، فاتهمه المحرضون بفبركة اللقاء معهم، في غاية الاستهانة بآلامهم، والجرأة على التنصل مما اقترفته أيديهم الآثمة في حق أولئك الصبية وأهليهم. وقبل هؤلاء وأولئك، شكا بعض الآباء الذين تورط أبناؤهم في إرهاب القاعدة في بلادنا عبر الصحف، ومن هؤلاء ذلك الأب المفجوع بفقد ابنه الذي كان يحاول تفجير أكبر حقل للبترول في بلادنا، وكنت قد خصصت لذلك مقالا بعنوان : اللهم هل بلغوا ؟ اللهم فاشهد، في (19 مارس 2006 م). كنت أتساءل وأنا أشاهد تلك الأم التي انفطر قلبها بكاء على فراق ابنها في إحدى حلقات برنامج الثامنة، كيف وقع هؤلاء الشباب ضحية لعتاة المجرمين؟ كيف تمكنوا منهم حتى انتزعوهم من مرابع صباهم؟ كيف تركوا رفقة عاشوا معها أيامهم ولياليهم؟ كيف غادروا مدارسهم وجامعاتهم ؟ كيف هجروا قلب أم حنون، وصدراً عامراً طالما تلقاهم فرحاً بعودتهم، وودعهم داعياً وخافقاً بحبهم، قلباً يسكنونه ويجرون فيه مجرى الدم في العروق، قلباً ينبض فرحاً في وجودهم وينزف حزناً في غيابهم، قلباً لا يغمض له جفن قبل أن يتأكد أنهم نائمون في فُرشهم الدافئة، قلباً يفيق فجراً فيوقظهم بالحنان، ويقدم لهم الطعام مغموساً بالحب والدعاء، ويودعهم داعياً مبتهلاً إلى الله بأن يحميهم ويحفظهم .. كيف هان عليهم أن يغادروا كل هذا النعيم؟ كيف استطاعوا الاعتياد على عدم رؤية ذلك القلب صباح مساء، القلب الخافق بكل ما هو سامٍ ونبيل؟ كيف غادروا النعيم إلى الجحيم وباعوا أنفسهم للشيطان؟ كيف سوّل المجرمون لهم بأن يتركوا ذلك كله؟ ماذا زرعوا في عقولهم الصغيرة وأنفسهم البريئة؟ ماذا قالوا لهم ليغدروا بقلب أمهم ودفء صدرها ورقة صوتها وعذوبة حنانها وروعة لهفتها؟ ماذا قدموا لهم ليتركوا أباً ملهوفاً وإخوة جزعين وأهلاً وجيرة مشفقين؟ ما المقابل الذي قدمه حزب إبليس، وما الثمن الذي أغراهم به نسل الشياطين؟ كيف استطاعوا أن يشوهوا أرواح أولئك الصبية وطهارة ضمائرهم ونقاء سرائرهم؟ كيف لم يخشوا عقاب الله فيصيبهم في أبنائهم (الكثر) الذين يرتعون في أكنافهم آمنين؟ كيف لم يخشوا دعاء أمّ ثكلى في جوف الليل انتزعوا ابنها حبيبها صغيرها من بين أضلعها؟ كيف لم يرهبوا دعاء أب مكلوم خطفوا ابنه من بين يديه، أب يحبس دموعه حتى لا يؤذي باقي أبنائه، وحتى لا يضاف لآلام الأم الولهى، وفي صدره تتقد نيران لا تستطيع بحار الدنيا أن تطفئها، لا يطفئها إلا مرأى الحبيب عائداً وقد ثاب إلى رشده. طرح الأب المكلوم (الذي فقد ابنه وهو يحاول تفجير حقل بترول)، في اللقاء الذي أجراه معه محرر الرياض في(9مارس 2006)عدة قضايا بدأها بتساؤل مهم وهو قوله : (لماذا لا تخلو أغلب المواجهات الأمنية مع الإرهابيين وخلاياهم من مشاركة شباب من منطقة معينة ؟ هل ستستمر هذه المنطقة في ضخّ المزيد من الإرهابيين بعد حادثة بقيق ؟) تساؤل مهم طرحه ذلك الأب الذي تسبب خطف ابنه من قبل قوى الإرهاب في وقوفه على كثير من الأمور التي خفيت على كثيرين منا، فيطرح سؤالا آخر طالما تردد في أذهان عدد كبير من المواطنين والمتابعين للوضع الأمني في بلادنا، وهو: لماذا كان التحريض على الإرهاب مقصورا في الغالب على رجال دين منطقة دون غيرها من مناطق بلادنا؟ وهذا السؤال يثير قي ذهني أسئلة أخرى منها : ما العلاقة بين التدين والتحريض على الإرهاب في الوطن، وإقحام أبنائه في حروب الآخرين ؟ هل هناك فائدة يجنيها رجال الدين المحرضون على الجهاد، سوى توريط الوطن وأبنائه لحساب أناس يدفعون لهم ثمن ذلك ؟ ثم لماذا لم يُقبض على واحد ممن يسمونهم ليبراليين، وتغريبيين وزوار سفارات، متورطا في التحريض أو منخرطا في الخلايا الإرهابية ؟ ومن الأسئلة التي أثارها ذلك الأب قوله : لماذا كان معظم الإرهابيين ينحدرون من أسر معروفة وميسورة الحال، ولم يأتوا من شرائح مجتمعية فقيرة أو مهمشة؟ الأمر الذي يشرع الباب على كثير من التساؤل عن المجتمع الثقافي الذي ينتمي إليه هؤلاء سواء في المدرسة أم في المسجد، أم في الندوات والمحاضرات، أم في المخيمات الصيفية ومدارس تحفيظ القرآن، وما يسوده من خلل لا تخطئه الأعين. ومما يقوله الأب المكلوم في هذا الشأن : (المشهد الثقافي والاجتماعي.. مشحون ومعبأ في بعضه بكل ما هو ضد الدولة من كره وانتقاد وتكفير..). ويمكننا تلخيص صورة المشهد الثقافي والاجتماعي كما وصفه الأب بما يلي: (الحرية التامة في جمع عدد كبير من الناس في جمعية أو استراحة، وتهييجهم ضد الدولة وقراراتها وجمع تواقيع الشجب والاستنكار، دون أخذ إذن من الجهات المسؤولة، تحدي أنظمة الدولة بالاحتفاء بالإرهابيين الذين أطلق سراحهم، مناصرة بعض خطباء المساجد الذين أوقفوا بسبب تجاوزاتهم وقيامهم بالتحريض ضد الدولة وبعض فئات المجتمع). كان هذا يحدث في تلك المنطقة بشهادة أحد رجالها في صحيفة رسمية، وما زال يحدث على مستوى الأفراد والجماعات في معظم مناطق بلادنا، فهل تنبه أحد له ؟ أما ما يتعلق بالمستوى الرسمي - حسب قول الأب - فيتمثل في (تردي أداء بعض الدوائر الحكومية في المنطقة عن الردع والضبط والمحاسبة، وتبني بعض القيادات التربوية والدعوية الأفكار المتشددة، وتجاوز المحافظة عن المعلمين المتشددين الذين خالفوا التعليمات وجعلوا الطلاب يقنتون في طابور الصباح بدلا من تأدية النشيد الوطني). يقينا أن هذه الأمور لم تتفرد فيها تلك المنطقة، بل كانت وما زالت الأسلوب المتبع غالبا في التعامل مع المتشددين فكريا، فلم يحدث أن سمعنا أن معلما متشددا، أو معلمة، أو مسؤولا، أوقف عن العمل، أو تمت محاسبته أو مساءلته، حتى إن كثيرا ممن يوقعون على خطابات الاحتساب لهم صفة رسمية في الجامعات أو غيرها من المنشآت الحكومية، وبعض أولئك ما زالوا ينشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، شتما وتحريضا وتيئيسا ! لقد مرّ على هذا الكشف في منطقة واحدة أكثر من ثماني سنوات، فماذا فعلنا لمحاصرة ذلك الفكر التحريضي، وأربابه من المتكسبين بالدين الذين استشرى خطرهم بعد انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، وأصبح لكل منهم متابعون يبلغون الآلاف؟ الواقع يقول لم نفعل شيئا للقبض على رؤوس الأفاعي، فقد اكتفينا بملاحقة الذيول لاستئصالها، بينما الفكر الإرهابي ينمو ويترعرع ويتكسب بالدين، ويتاجر بالوطن وأبنائه، إلى أن وصلنا إلى داعش وأخواتها، وصار أبناء الوطن الأكثر نحرا وانتحارا متصدرين صفوف الإرهابيين في العالم، ولحقت بهم النسوة اللاتي احتللن مراكز قيادية في القاعدة، فهناك أميرة للقاعدة، وهناك سيدة لها، بل منهن من ذهبت لملاقاة فتى أحلامها الإرهابي الزرقاوي حتى هلكت معه، وتشرد أبناؤها. لقد فشلت جهود التحديث المتواضعة في إشغال الشباب، وإبعادهم عن محاضن الإرهابيين المحرضين، إنهم خوارج هذا العصر، وأرباب الإرهاب الأسود الذين لا تنهاهم صلاتهم عن فحشاء ولا منكر ولا إفساد في الأرض ، أولئك الذين ما زال في بلادنا من يتعاطف معهم ومع فكرهم التدميري . سيظل المحرضون الممولون يتكاثرون مادام فكرهم يجد أرضا خصبة ينمو ويترعرع ويتمدد فيها، لأنها تستمد بقاءها من نفوذ مراكز قوى وقطط سمان لم تطلها سكاكين الجزارين، لابدّ أن تكون المواجهة معهم جادة وصارمة غير ناعمة، لقطع دابرهم، وكيلا تتضاعف أعداد الآباء المكلومين والأمهات الثكالى، وأعداد كبيرة أخرى من الأرامل والأيتام!