إن أولئك الصغار حين تطالع صورهم في الصحف تخالهم إخوتك أو أبناءك أو جيرانك أو أقاربك، فوجوههم مألوفة لا تُرى عليها سحنة الإجرام، صغار بالكاد فارقوا مرابع الطفولة وملاعب الصبا، تكاد تلمحهم وهم يحملون بالأمس القريب حقائبهم خلف ظهورهم ذاهبين إلى مدارسهم إنهم فتية آمنوا برؤسائهم، شياطينهم فزادوهم شططاً، شياطينهم الذين جعلوا لهم الموت حياة والقتل جهاداً، والجريمة أقصر طريق للزواج بالحور العين . القائمة تشمل إلى جانب المواطنين أجانب عاشوا بيننا وقابلوا الإحسان بالإجرام، أما المواطنون فبعضهم أشرف على الأربعين أو تجاوزها بسنوات، هذه السن التي يفترض أن من بلغها قد تجاوز سنوات الطيش ونزق الشباب، فالأربعون هي السن التي يبلغ فيها الإنسان أقصى درجات الرصانة ورجاحة العقل، وهي السن التي خصها الله سبحانه بالذكر في قوله :{حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين}. الأحقاف (15). ويذكر المفسرون أن المقصود بقوله (أشده) أي كمال قوته وعقله ورأيه، وأقله ثلاثون سنة أو ثلاث وثلاثون، هذه السن التي لا يتوقع من صاحبها الإقدام على حماقة من الحماقات التي تحدث من الناس في مألوف تصرفاتهم وأحوال معاشهم، فما بالك بالإرهاب والقتل وترويع الآمنين والانخراط في زمر المجرمين وعصابات العالم السفلي، الرجل في هذه السن يكون في الغالب زوجاً وأباً ورب أسرة ولا يتوقع منه أن يقوم بعمل يبعده عن أسرته، بل إنه قد يضحي بأشياء كثيرة مقابل أن يبقى إلى جانبهم لينعموا بحبه وحنانه ورعايته، هذه العلاقة هي التي تجعله يدرك مشاعر أبويه وما لقياه في تربيته والسهر عليه وعلى إخوته، لهذا فلا يقدم رجل في هذه السن على ما أقدم عليه بعض هؤلاء إلا لأن وسوسة الشيطان وإغواءه أكبر بمراحل من شعوره نحو أسرته وأبنائه، ففعْل أولئك المحرضين من القتلة والمجرمين قوي بدرجة كبيرة لايستطيعون مقاومته بل إنه يرسخ في اعتقادهم أن ما هم مقدمون عليه أكثر أهمية من بقائهم إلى جانب أبنائهم وذويهم الذين هم في أمس الحاجة إلى بقائهم معهم، ذلك أنه لدى الإرهابيين منافذ يستطيعون من خلالها التغلغل إلى نفوس المغرّر بهم، يأتي على رأس ذلك الوعد بالزواج من الحور العين، وقد ذكر والد أحد الإرهابيين الكويتيين قول ابنه الذي غرروا به «جعلوني أرى نفسي في الجنة مع الاثنتين والسبعين حورية اللاتي سأتزوج بهن». وقصة الحور العين التي يدلسون بها على الشباب لا ينفك شيوخ الإرهاب يرددونها ليجعلوا الشاب المسلم يصدق أنه سيكون حقا شهيداً بعد ارتكاب جريمته، ومن ذلك ما صرح به محامي الإخوان المسلمين منتصر الزيات بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر من قوله «والله كأني أرى شباباً من شباب الجنة تحلق أرواحهم بين الحور العين» وإغراء كهذا لابد أنه أكثر قوة من أي مشاعر أبوية، ومن أي قدرة على التفكير وإعمال العقل حتى لا يستطيعون التفريق بين القتل والجهاد، الكفر والإيمان، الحلال والحرام، الصديق والعدو، فقد تداخلت هذه المفاهيم في عقولهم تداخلاً عجيباً، وإن كنا نلتمس بعض العذر للصغار الذين لم تساعدهم أعمارهم الصغيرة وقلة تجاربهم على معرفة ذلك، فما هو عذر من تجاوزت أعمارهم ضعف أعمار أولئك الصغار الذين حوت القائمة أسماء خمسة عشر منهم تتراوح أعمارهم الآن بين الحادية والعشرين والخامسة والعشرين، مما يعني أنهم في فترة التجنيد كانوا أصغر عمراً بما لا يقل عن سنتين إلى أربع ! إن أولئك الصغار حين تطالع صورهم في الصحف تخالهم إخوتك أو أبناءك أو جيرانك أو أقاربك، فوجوههم مألوفة لا تُرى عليها سحنة الإجرام، صغار بالكاد فارقوا مرابع الطفولة وملاعب الصبا، تكاد تلمحهم وهم يحملون بالأمس القريب حقائبهم خلف ظهورهم ذاهبين إلى مدارسهم، تراهم في الشوارع والأسواق والحدائق والملاعب، لا يختلفون عن أيّ من الشباب الذين نراهم في كل مكان بيننا، تحاول عندما تراهم أن تقنع نفسك بأنهم إرهابيون قتلة مجرمون، لكنك لا تستطيع فصغر أعمارهم وملامح البراءة التي تكاد تنطق بها وجوه بعضهم تقول لك إنه طفل، طفل كبير، غرر به حفنة من القتلة والمجرمين، فهجر بيته، ترك فراشه، غادر صدر أمه الذي يتفجر ألماً، غاب عن عيني أبيه اللتين تغالبان الدمع كلما جاء ذكره، أمه التي يخفق قلبها مع فتح كل باب وإغلاقه، ومع كل رنة هاتف، ومع مرأى كل قادم عله يحمل خبراً عن الحبيب الغائب، عن الصغير الذي أقصى أمانيها أن تراه وتضمه إلى صدرها وتلصقه بقلبها، أن تقبل رأسه ووجهه ويديه وشعره كما كانت تفعل وهو طفل صغير يلعب حولها ويلقي بنفسه في حضنها! إن الأسئلة التي تضج وتصرخ في كل الأنحاء كثيرة وموجعة، إذ كيف وقع هؤلاء الصغار ضحية لعتاة المجرمين؟ كيف تمكنوا منهم حتى انتزعوهم من مرابع صباهم؟ كيف تركوا رفقة عاشوا معها أيامهم ولياليهم؟ كيف غادروا مدارسهم؟ كيف هجروا قلب أم حنون وصدراً عامراً طالما تلقاهم فرحاً بعودتهم وودعهم داعياً وخافقاً بحبهم، قلباً يسكنونه ويجرون فيه مجرى الدم في العروق، قلباً ينبض فرحاً في وجودهم وينزف حزناً في غيابهم، قلباً لا يغمض له جفن قبل أن يتأكد أنهم نائمون في فُرشهم الدافئة، قلباً يفيق فجراً فيوقظهم بالحنان ويقدم لهم الطعام مغموساً بالحب والدعاء، ويودعهم عند خروجهم داعياً مبتهلاً إلى الله بأن يحميهم ويحفظهم ... كيف هان عليهم أن يغادروا كل هذا النعيم؟ كيف استطاعوا الاعتياد على عدم رؤية ذلك القلب صباح مساء، القلب الخافق بكل ما هو سامٍ ونبيل؟ كيف غادرواالنعيم إلى الجحيم وباعوا أنفسهم للشيطان؟ كيف سوّل المجرمون لهم بأن يتركوا ذلك كله؟ ماذا زرعوا في عقولهم الصغيرة وأنفسهم البريئة؟ ماذا قالوا لهم ليغدروا بقلب أمهم ودفء صدرها ورقة صوتها وعذوبة حنانها وروعة لهفتها؟ ماذا قدموا لهم ليتركوا أباً ملهوفاً وإخوة جزعين وأهلاً وجيرة مشفقين؟ ما المقابل الذي قدمه حزب إبليس، وما الثمن الذي أغراهم به نسل الشياطين؟ كيف استطاعوا أن يشوهوا أرواح أولئك الصبية وطهارة ضمائرهم ونقاء سرائرهم؟ كيف لم يخشوا عقاب الله فيصيبهم في أبنائهم (الكثر) الذين يرتعون في أكنافهم آمنين؟ كيف لم يخشوا دعاء أمّ ثكلى في جوف الليل انتزعوا ابنها حبيبها صغيرها من بين أضلعها؟ كيف لم يرهبوا دعاء أب مكلوم خطفوا صغيره من بين يديه، أب يحبس دموعه حتى لا يؤذي باقي صغاره، وحتى لا يؤلم الأم الولهى وفي صدره تتقد نيران لا تستطيع بحار الدنيا أن تطفئها، لا يطفئها إلا مرأى الصغير الحبيب عائداً وقد ثاب إلى رشده. ٭ ٭ ٭ ينقسم حزب إبليس هذا إلى ثلاث فرق تعمل في غاية التنظيم والانسجام، كل فرقة تقود إلى التي بعدها، الفرقة الأولى فرقة الوسواس الخناس وهم الذين يفتون بالجهاد وينادون بجوازه، الذين يزرعون في أذهان الشباب أن الأعداء يتربصون بالإسلام وأنهم هنالك في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي وأن عليهم أن يبادروا للدفاع عن شرف الأمة وعن دينها، فقهاء الدم هؤلاء كثر تطالعنا صورهم على القنوات الفضائية التي صاروا نجومها حتى باتوا ينافسون نجوم الموسيقى والغناء لكثرة ظهورهم فيما كانوا يحرمونه وينادون بمصادرته فسبحان مغير الأحوال! هؤلاء هم الذين يقدمون الجرعة الأولى من جرعات السم الزعاف إلى شباب هذه الأمة . الفرقة الثانية من حزب إبليس هم الحركيون وهم فرقة التعبئة النفسية والذهنية والعاطفية الذين يتباكون في أشرطتهم ومطوياتهم البعيدة عن أعين الرقابة، الذين يتصيدون أولئك الصغار في محاضراتهم ومنتدياتهم ومجالسهم ويقومون بالتحريض على القتل والجهاد المزعوم فيما يذرفون دموع التماسيح وتتهدج أصواتهم وتنتفخ أوداجهم ليكون تأثيرهم قوياً لا رجوع بعده، أولئك هم أعداء الحياة ومحبو الموت، الموت الذي لا ينالهم ولا يطال أبناءهم . وهؤلاء هم الذين يتولون تقديم الجرعة الثانية من السم الزعاف وهي أكثر سمية لا تخطئ هدفها بل تقضي عليه على الفور حيث يُزج سمّ الأفاعي في حلوقهم دون أن يشعروا ؛ ولذلك فإن دور هؤلاء هو الدور الأساس الذي تعتمد عليه كل العصابات من لدن سيد قطب . الفرقة الثالثة وهم المجرمون والقتلة عصابات العالم السفلي الذين يعملون في الميدان فيتلقفون الصغار بعد أن يطمئنوا إلى أن مشايخ الفتاوى ونجوم الفضائيات وتجار الأشرطة والمطويات ومواقع الإنترنت قاموا بما توجب عليهم خير قيام، وتأكدوا من تناولهم لجرعتي السم الأوليين، حتى استكانوا فأقدموا طائعين خانعين، فيقدمون لهم الجرعة الثالثة والأخيرة من السم الزعاف ثم يسوقونهم سوقاً إلى هلاكهم لينفذوا ما طلب منهم، ما هَمَّ إن كان الضحايا أهلهم أو جيرانهم أو أبناء وطنهم أجمعين أو ليسوا كذلك فهم سينتهون شهداء وسيزفون إلى الحور العين؟ لقد أصبح هؤلاء الأغرار لقمة سائغة سهلة المنال لأرباب الإرهاب، لأنهم يتكئون على مقولات الدين فيشرعنون لهم كل شيء حتى يضمنوا استجابتهم . هؤلاء الشباب لا غيرهم وقود هذه المحرقة المجنونة التي أشعلها ابن لادن كبير القتلة والمجرمين، ابن لادن الذي يدفع بأبناء الناس ويبقي أبناءه إلى جانبه وفي كل عام يزوج واحداً منهم زوجة أو أكثر من الأفغانيات والعربيات المقيمات في كهوفه، أما الحور العين فهن للصغار المغرر بهم من أبناء العرب المسلمين فياله من إيثار! هؤلاء لا يدفعون بأنفسهم إلى أتون المعارك لأنهم يدعون أن بقاءهم على قيد الحياة يعني بقاء القضية برمتها، وكذا لا يدفعون بأبنائهم ولن ننسى كيف جُنَّ جنون أحدهم عندما ظن أن ابنه ذهب إلى إحدى بؤر القتال . سيكون هؤلاء الشباب شهوداً عليهم يوم القيامة، شهوداً على ما اقترفته أيديهم الآثمة، سيشهدون بأيّ بشاعة وأيّ دناءة وأيّ لؤم وأيّ خسة خدعهم هؤلاء القادة، سيُحاسب كل هؤلاء عما اقترفوه وسيُسأل كل من أعان وكل من شجع وكل من حمّس وكل من موّل وكل من فخخ وكل من سلّح وكل من أثنى وترحم على القتلة، وكل من برر والتمس لهم الأعذار وكل من نادى بالحوار معهم . هؤلاء هم المجرمون الحقيقيون هم مصاصو الدماء ينبغي الأخذ على أيديهم، ينبغي عدم التسامح والتهاون معهم . وتؤكد الوقائع الأخيرة كلها أن الإرهاب مستمر بين ظهرانينا وأن التعبئة مستمرة وأن العصابات السفلية التي ظننا أنها كامنة ما زالت نشطة، والخلايا التي ظننا أنها نائمة ما زالت مستيقظة، إنهم يعملون بدأب لا مثيل له لأن هناك وعلى السطح من يعمل لهم، من يساعدهم من يمدهم بما يحتاجونه من مال وبشر وتعبئة ذهنية ونفسية وشحن ديني لتبقى نار الإرهاب متقدة، يجب أن نتعامل مع هذه الظاهرة بكثير من الحزم وعدم التهاون، ينبغي إيجاد آلية جديدة لإنقاذ الشباب من الوقوع في براثن تلك العصابات، ينبغي تطوير برامج الشباب وتنويعها وإشغالهم بما يجنبهم سهولة الانقياد لتلك العصابات، يجب مراقبة كل ما له علاقة بعالم الشباب وتنقية أجواء التعليم من كل ما يقود إلى فكر الإرهاب والإرهابيين، ومراقبة كل ما يقدم للشباب في المخيمات الصيفية وتنويع انشطتها وانتقاء من يتولون القيام عليها، أما أهل هؤلاء الضحايا فليس أقل من أن يدعوا لدى جمعية حقوق الإنسان ضد من غرر بأبنائهم وساقهم إلى حتوفهم، السكوت ليس مجدياً والحقوق لا تمنح بل تنتزع انتزاعاً، والدعوى ضد هؤلاء حق ينبغي المسارعة إلى أخذه {وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون}.