قضية السرقات الشعرية هي القضية النقدية الوحيدة التي استطاعت على مدى قرون الاحتفاظ بجاذبيتها، ولم تفقدها السنين قدرتها القديمة على إثارة الجدل وخلق السجالات التي تختلف في درجة عنفها وفي نتائجها، وقد أشرت في مقال سابق إشارةً سريعة إلى إعجابي بالسرقات -كقضية نقدية لا كمُمارسة- وبما أثمرت عنه تلك السجالات الطويلة والمستمرة حول سرقات الشعراء من أحكام ومصطلحات نقدية ومؤلفات أثرت حركة النقد العربي، وأعتقد أن العامل الذي ساعد قضية السرقة على التجدد هو الاختلاف بين الناس في تقدير السرقة بحسب ثقافتهم ووعيهم بمفهوم السرقة واطلاعهم على ما كتب عن سرقات الشعراء. لا يكاد شاعر من شعراء العرب الكبار يسلم من تهمة السرقة من أشعار سابقين أو معاصرين له، بل إن هناك من بالغ في الحديث عن سرقات الشعراء العرب الفحول وقال: "وما فيهم إلا وجد سارقًا مغيرًا على من تقدَّمه"، وروي عن الأصمعي أيضًا أنه قال: "تسعة أعشار الفرزدق سرقة، وكان يُكابر، وأما جرير فما علمته سرق إلا نصف بيت". ومع أن كل شاعر حرص على تبرئة نفسه من التهمة وعلى شجب ظاهرة السرقات، كما فعل طرفة بن العبد الذي يُقال بأنه أول ذم السرقات الشعرية في قوله: ولا أُغيرُ على الأشعارِ أسرِقُها عنها غنيتُ وشرُ الناسِ من سرقا إلا أن المؤلفات التي خصصها مؤلفوها لنقد سرقات الشعراء الكبار لم تتوقف عن الصدور، ولا يكاد يمر أسبوع إلا ونقرأ عن سرقات شعرية بعضها صريح وواضح وضوح الشمس، وبعضها يوصف بأنه سرقة لمجرد وجود تشابه طفيف بين ألفاظ الشاعرين، أو وجود اشتراك بينهما في الموضوع أو الصور الشعرية. من مواقف القدماء النادرة في التسامح عند الحديث عن قضية سرقات الشعراء موقف أبي حيان التوحيدي الذي قال في سياق حديثه عن اتهام أبي تمام بسرقة شاعر آخر: "ما أكثر أن يُقال: أخذ فلان من فلان، وأغار فلان على فلان، والخواطرُ تتلاقى وتتواصل كثيرًا، والعبارة تتشابه دائمًا، ومن عرف خواص النفس وقوى الطبيعة وأسرار العقل لم يستنكر توارد لسانين على لفظ، ولا تسانُح خاطرين على معنى حاضر، وباطنه ظاهر". من الأمور التي تلفت النظر أن المواقف التي تحتذي موقف التوحيدي في التسامح مع السرقات الشعرية ما تزال نادرةً جدًا ولا تُرى إلا حين يكون السارق من المشاهير، ففي حالة كون السارق شاعرًا مشهورًا تصبح لغة النقد عند بعض النقاد أو الكُتاب لطيفة وخفيفة، وتتحول السرقة بقدرة قادر لتوصف بأنها مجرد "تناص" شعري أو توارد خواطر، وهذا ما لا يحدث عندما تتعلق تهمة السرقة بشاعر مغمور. أخيرًا يقول عبدالله المحيني: خايف من اللي جرا واللي بعد ما جرا ولا تغيرت لكن غيرتني الجروح أمشي وقدامي الدنيا وأطالع ورا ما ودي أرجع ورا، أرجع ورى وين أروح؟