الشعر - كما اللغة - تفاعل وتطور وتراكم أيضاً.. فالمبدع من الشعراء لا ينضج إلا بعد قراءة ألوف الأبيات لكبار الشعراء ثم يشق طريقه الخاص.. وقد استشار شاب موهوب أبا تمام قائلاً: كيف أبدع في الشعر؟ فقاله له: احفظ مئة ألف بيت من جيد الشعر ثم انسها.. والشعراء أكثر من يقرأ للشعراء برهافة، بما في ذلك شعراؤنا الشعبيون، يتجلى هذا في (تضميناتهم) المباشرة للشعر الفصيح، وانعكاس كثير من المعاني القديمة في أشعارهم.. إن المبدع ينجذب لروائع الإبداع كما تنجذب الفراشة لنسيم الحدائق، أو لنقل كما تنتقل النحلة بين أنواع الزهور ثم تخرج لنا العسل المُصَفَّى.. إنه لايُوجد شيئاً من العدم إلا الله جل وعلا، أما الآداب والفنون والعلوم - وكل الإنتاج البشري - فهو يعتمد على مخزون التراث وتجارب الآخرين وتراكم المعاني والصور، ولكن المبدع حقاً هو من يجعلها تلبس ثوباً جديداً متميزاً.. وقديماً قال الجاحظ ما معناه إن المعاني مطروحة في الطريق والفضل للأسلوب.. وإذا استعرضنا شعرنا الشعبي وجدناه (يتناص) مع الشعر الفصيح في المعاني والصور والألفاظ فضلاً عن الأغراض، مع تركيزه أو تفرده الطبيعي بظروف عصره ومستجدات بيئته، ولكن اللغة ظلت رابطاً أعظم رغم شيوع اللحن، فهو - اللحن - لاينقص المشاعر ولاالصور ولكنه يضعف السيرورة والانتشار، أما الشعر فهو (موهبة) توجد عند المتعلم والعامي والموهبة صفة، فالكرم مثلاً يوجد عند العامي والمتعلم جداً، والبخل كذلك، والمواهب تتغذى عبر ثقافة متواصلة متوارثة وكل موهوب ينتقي منها - بشعور أو بدون - ما يعجبه ويرطبه ويناسب موهبته، ولهذا نجد قصائد الشعر - فصيحة كانت أم عامية - تشبة (الفسيفساء) ذات التراكيب والألوان المختلفة، ولكنها لو فككت لعادت إلى أصولها فهما تكن موهبة الشاعر متفردة فلا غنى له أبداً عن تراثه وموروثه ليستطيع التواصل والتوصيل بل والإبداع أيضاً بشخصية متفردة في شكلها العام مبعثرة في جزئياتها كما الفسيفساء إذا تم تفكيكها.. حين يقول حميدان الشويعر: ( أنا أدري بعلم اليوم والأمس بما جرى وباكر بغيب والأمور وقوع) فإنه (يتناص) مع قول زهير بن أبي سلمى: (وأعلم عِلم اليوم والأمس وقبله ولكنني عن علم ما في غد عمي) والمعنى يدركه الجميع وإنما الفضل للصياغة، وقول حميدان (والأمور وقوع) أقوى من قول زهير (.. عن علم ما في غدٍ عمي) لأن فيه إضافة المفاجآت للقادم.. وإذ يقول محمد القاضي: (إلى حصل لك ساعة وأنت مشتاق فاقطف زهر مالاق، والعمر ملحوق) فإنه يتناص مع قول الإمام الشافعي: (إذا هبت رياحك فاغتنمها فإن لكل خافقة سكون) ونظرية (التناص) في النقد الأدبي نشأت حديثاً، وكانت أكثر تسامحاً - أو لنقل دعيا بالإبداع - من قاعدة (التضمين) الواردة في كتب البلاغة القديمة، أو كتب النقد القديمة التي اتهمت معظم الشعراء بالسرقة، حتى إن بعض النقاد - أو الحساد على الأصح - أعاد جميع أبيات المتنبي لغيره من الشعراء والحكماء والفلاسفة بما فيهم أرسطو وأفلاطون معتقداً أنه ينتقصه ويجرده من الشاعرية بهذا التصرف الأحمق.. مثلاً أعاد قول المتنبي: (وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام) لقول ارسطو (إذا كانت الشهوة فوق القدرة كان تلف النفس دون بلوغها)! وأعاد قول أبي الطيب: (وما الحسن في وجه الفتى شرفاً له إذا لم يكن في لفظه والخلائق) إلى أن أرسطو رأى رجلاً حسناً فاستنطقه فإذا هوعيي فقال (نعم البيت لو كان فيه ساكن)! أما قول المتنبي: (من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام) فيراه مسروقاً من حكمة أفلاطون «النفس الذليلة لا تجد ألم الهوان والعزيزة يؤثر فيها يسير الكلام»! وهكذا بشكل متكلف ممجوج، ولكن ماذا كان جواب المتنبي على هؤلاء وأمثالهم: «أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي واسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء عيوني عن شواردها ويسهر الخلق جرّاها ويختصم» لقد (سرق) باب السرقات الشعرية جهود الكثير من نقادنا القدماء فضاعت سدى، ولكن فيهم من يفهم (التناص) فعيد أكثر من ذلك إلى توارد الخواطر و(وقوع الحافر على الحافر) كما يعبرون.. أما القزويني - فمع اعتداله النسبي - يعتبر أخذ المعنى مع تغيير الأسلوب (سلخ) أما أخذه مع بعض اللفظ فهو (مسخ) (التلخيص 409) ولكنه يعتبر التضمين من البلاغة وهو (أن يضمن الشعر شيئاً من شعر الغير مع التنبيه عليه إن لم يكن مشهوراً عند البلغاء) ص424.. ولعل التضمين بهذا يدخل في نظرية التناص في النقد الأدبي ولكن من الذاكرة الواعية لا العقل الباطن.. فقول الشاعر الأندلسي: (جاءك الغيث إذا الغيث هما يا زمان الوصل في الأندلس) ضمنه شاعر شعبي مجيد لا يحضرني اسمه الآن فقال «يا حمام من على السدرة لعا هيض الأشواق وأنا بمجلسي جر صوته ثم جريته معا واشتعل منا المحيط الأطلسي للوليف اللي لمحبوبه رعى ما يبي ذكرى المحبة تفلسي إن ذكرته قلت للي يسمعا: (يا زمان الوصل في الأندلس)» وكبار شعراء العربية يدخلون في نصوصهم - عمداً - نصوصاً مشهورة منسابة كأنه جزء من النص الأصلي لولا وضعها بين حاصرتين.. لمن لا يدركها.. وهو عند الجواهري كثير، كقوله في وصف حياة الشعراء: وعيشاً إذا استعرضته قلت عنده: (كفى بك داء أن ترى الموت شافيا) ومضمناً جزءاً من بين أبي الطيب: «كفى بك داء أن ترى الموت شافياً وحسب المنايا أن يكن أمانيا» وقوله: ولما كنت كالفجر انبلاجاً (وكالعنقاء تكبر أن تصادا مشيت بقلب ذي لتد هصور (تعاند من تريد له عنادا)) مضمناً بين المعري: «أرى العنقاء تكبر أن تصادا فعاند من تطيق له عنادا» ولا يعجز الجواهري - وهو الشاعر الفحل - أن يكمل الشعر بصور من عنده، ولكن التضمين هنا يمنح شعره القوة.. ويصله بتراثه العريق..