ربط مقتل الطالبة بالابتعاث، ليس له ما يبرره، فذلك الاعتداء الآثم كان يمكن أن يحدث لأي واحدة استفز مظهرها ذلك العنصري البغيض، سواء أكانت طالبة مبتعثة، أم سائحة، وسواء أكانت سعودية، أم أي امرأة مسلمة، فلا فرق عند ذلك الإرهابي، ثم ألا تتعرض بعض النسوة في بلادنا لحوادث قتل من أقرب الناس إليهن ؟ لمّا كانت جامعاتنا تعاني من اختلالات كثيرة أثرت في مخرجاتها، وعدم قدرتها تخريج أجيال قادرة على دفع عجلة التنمية، والسير بالوطن نحو مدارج الرقي والتقدم، اللذين لا يتحققان إلا بالتعليم الحديث القائم على العلوم والتقنيات، بعيداً عن التخصصات النظرية التي كرّست قيم التخلف والعجز، وساهمت في تخريج أجيال جاهلة هشة راكمت أعداد العاطلين والعاطلات، كما ساهمت في إيجاد بيئة خصبة للبطالة المقنّعة ! جاء برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي، إيمانا منه – حفظه الله - بأن الاستثمار في بناء الإنسان أعظم استثمار يعود على الوطن والأجيال المقبلة بالخير العميم، وقد سبقتنا إلى ذلك دول كاليابان والصين وكوريا منذ عقود؛ ولما عاد أبناؤها ساهموا في تطوير بلدانهم، التي حققت تطورًا علمياً مذهلاً، أدى إلى ارتفاع الناتج القومي فيها ارتفاعاً تفوقت فيه على كثير من الأوطان الأخرى! إنّ التحولات التي شهدها العالم خصوصاً بعد عصر الثورة التكنولوجية، وظهور التكتلات الاقتصادية الكبرى لغربي أوروبا وشرقي آسيا، وبروز نظام العولمة، أدت إلى نشوء مجتمع كوني جديد يقوم على رأس المال البشري، الذي يعتمد على العقل والبحث العلمي وصناعة الأفكار والمعلومات، وهذا هو الذي يجعل الجامعات المستودع الحقيقي للمعارف، لاسيما جامعات أمريكا وأوروبا وبعض دول الشرق كاليابان والصين، التي تعتمد على تكنولوجيا المعلومات والاتصال، في التعليم وإنتاج البحوث ورعاية الإبداع والابتكار، وإدخال نظام الجودة وإدارتها، والاستفادة من تقنيات التقدم العلمي، في توليد الأفكار وبناء المعرفة والعلم وربطهما بسوق العمل، فهل من الخطأ أن تسعى بلادنا إلى اللحاق بذلك الركب بابتعاث الطلاب والطالبات؟ وهل كان عليها أن تستجيب لأولئك المحبطين الذين يعيشون في ردهات الماضي، ويصرون على أن يجعلوا الوطن كله مغلولا إليهم؟ منذ أن بدأ برنامج الملك عبدالله للابتعاث الخارجي – وعلى الرغم مما حققه من نجاح، وإقبال أعداد كبيرة من الطلاب والطالبات على الالتحاق به – فإن أعداء التغيير الذين يصرون دوما على تغليب رؤاهم الضيقة ومخاوفهم غير المبررة، أنصار الراهن الساكن الذي فيه يرتعون، ظلوا يهاجمون البرنامج، ويلصقون شتى التهم بالمبتعثين والمبتعثات، فمن قائل إنه حرام ومدعاة لفسادهم دينا وخلقا، إلى مروّج لقصص وأكاذيب عن انحرافهم، إلى مطالب بإجراء فحص لدمائهم عند عودتهم للتأكد من خلوها من آثار المخدرات، حتى بلغ تنفيرهم من الابتعاث حداً جعلهم يفردون له باباً في أحد مقررات الثانوية تحت عنوان : " الابتعاث، خطره وأحكامه وآدابه ". فالغاية التي هي إجهاض برنامج الابتعاث، تبرر كل الوسائل التي يتخذها المتربصون بالبرنامج. لهذا فهم لا يتركون فرصة تسنح لهم، إلا وأعادوا شحذ سكاكينهم، وتأليب غوغائييهم لتمرير أهدافهم ؛ بشن حملة جديدة ضد البرنامج، تشويها وتأليبا للبسطاء على عدم إرسال أبنائهم، حماية لهم من الأخطار (الموهومة) التي لا يوجد من هو أكثر مهارة منهم في تأليفها، ونسج القصص والأكاذيب عن المبتعثين . أما الفتيات فينالهن النصيب الأكبر من التشكيك بأخلاقهن، وتنفير أوليائهن من ابتعاثهن. ولذا فقد سارعوا من هذا المنطلق إلى استغلال مقتل إحدى المبتعثات من قبل رجل عنصري يملؤه الشر والحقد (رحمها الله، وألهم أهلها الصبر والسلوان) إلى التحريض على برنامج الابتعاث، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، والصحف الإلكترونية، بعضهم استخدم اسمه الصريح، وبعضهم الآخر تمترس خلف اسم مستعار، دون أن تأخذهم رحمة بالفتاة التي لم توارَ الثرى، ولا رأفة بأهلها الذين ما زالوا يتجرعون مرارة الحزن، ولمّا تجف دموعهم بعد. لقد اتخذ التحريض وسائل عدة، يأتي على رأسها التنفير من الابتعاث وخاصة ابتعاث الفتيات - مادام في بلادنا جامعات كثيرة تغني عنه – متجاهلين الوضع التعليمي المتردي في جامعاتنا بلا استثناء، لاسيما في برنامج الدراسات العليا، الذي يستعين في الغالب الأعم بالأساتذة أنفسهم الذين يدرسون في مرحلة البكالوريوس، ناهيكم عن الجامعات الجديدة التي تستعين بأساتذة من دول عربية مجاورة (من خريجي جامعات الأرياف والأقاليم)، هذا إن سلمنا بخلو الجامعات الجديدة من حملة الشهادات المزورة، الذين يتكالبون على بلادنا. وتبع ذلك التحريض أصوات نشاز شنت حملة على الفتاة التي تغادر بيتها لتلتحق بالدراسة في بريطانيا، وذلك بأسوأ العبارات، التي تكشف عن سوء الطوية، وعدم الرأفة، والركون إلى الفحش في القول، يقولون هذا في الوقت الذي أثبتت فيه الصور أن الطالبة كانت في غاية الحشمة والتستر - وربما هذا هو الذي أغرى المجرم بالاعتداء عليها – إضافة إلى أن شقيقها كان مرافقا لها في دولة الابتعاث. الأمر الذي يجعلنا نتوقع أن يلصقوا بالفتاة أقذر التهم لو لم تكن على تلك الهيئة من الاحتشام، وكان محرمها لا يقيم معها في المدينة نفسها، كما يفعل بعض الأزواج أو الأشقاء الذين يرافقون شقيقاتهم، فيضطرون للالتحاق بجامعات أخرى في مدن قريبة. وحسب أحد المغردين، فإن هؤلاء أصحاب فكر مريض وتطرف، ففي الوقت الذي يحرضون فيه (الشباب والشابات على الجهاد والإرهاب في دول العالم بحجة الاستشهاد، هم أنفسهم الذين يحرّمون ذهابهم لطلب العلم). وإمعانا في التنفير من البرنامج، زعموا أن الطالبة أجبرت على الابتعاث، وهُددت في حال عدم التزامها بتحويلها إلى وظيفة إدارية، ولذا فالجامعة تعتبر مسؤولة عن موتها! وعليه ينبغي محاسبة الجامعة، وكل من يجبر الطلاب والطالبات على الابتعاث. وحتى لا أتهم بالانحياز إلى الجامعات في هذا الموضوع، أنقل ما علق به القراء في موقع إحدى الصحف الإلكترونية (المعروفة بانحيازها إلى فكر التشدد) : فأبدأ بالتساؤل : هل الابتعاث إجبار أم اختيار في الجامعات السعودية ؟ وجدت بعض التعليقات التي تؤكد أن ( الابتعاث في الجامعات السعودية بالإجبار، وطريقته أن توقع الطالبة عند التعيين على ورقة تعهد بالالتحاق بالبعثة، وإلا فإنها لا تعين)، (ةإذا عينت ولم تتقدم بطلب الابتعاث، تفصل أو تحول إدارية وغير ذلك من الاجراءات التعسفيةة)، (كلما ابتعثت واحدة في القسم، يضغطون على الباقيات دون مراعاة للظروف، سواء أكانت متزوجة، أم عازبة، أم لديها عشرة أطفال)، (صارالابتعاث إجباريا للمتفوقين الذين يعينون في الجامعات، حتى تخصص اللغة العربية يجبر فيه المعيدون والمحاضرون على الابتعاث لأوروبا وأمريكا، من قبل بعض جامعاتنا). وعلى الجانب الآخر جاءت تعليقات أخرى تنفي الإجبار، وتبرئ ساحة الجامعة بالقول إن (جامعة الجوف تخير المعيدة إما أن تبتعث، أو تكون إدارية، والتي تبتعث تكون هي التي اختارت)، (كل وظيفة لها متطلبات لشغلها، وجامعة الجوف مشكورة تهدف إلى تطوير كادرها، ومن الجهل اتهامها بالتسبب في قتل الطالبة)، (ةليس صحيحا أن الابتعاث بالإجبار، أنا مبتعثة من الجامعة نفسها، والابتعاث اختياري، لمن يتقدم بالطلب فقط)، (لم تتفرد جامعة الجوف بذلك، بل كل الجامعات في المملكة هذا نظامها، حيث يوقع المعيد أو المعيدة على تعهد للابتعاث الخارجي)، (لا يوجد إجبار من الجامعات على ابتعاث الفتيات، إذا ولي أمرالطالبة لم يوافق، أو ليس معها محرم يصحبها لبلد الدراسة، فلن تبتعث)، (من المعروف أن الجامعات السعودية تفضل الابتعاث للخارج لقوة المخرجات، لكنها لا تجبر أحدا عليه، خاصة في مرحلة الماجستير، أنا عملت معيدة أربع سنوات ولم تجبرني الجامعة على الابتعاث إلا بعد أن تقدمت بطلبي)، (ما قيل فيه تجنٍ على الجامعة ؛ حيث إن نظام تعيين المحاضرين والمعيدين يلزمهم الحصول على قبول لدراسة الشهادات التي تلي شهاداتهم خلال مدة محددة، أو يحولون إداريين، وهذا ليس ابتزازاً ولكنه النظام، وهو بلا شك أمنية كل من قبل بهذه الوظيفة ). والذي أعرفه من خلال عملي في جامعة الملك سعود، وعضويتي في لجنة المعيدين والمحاضرين والمبتعثين، سواء على مستوى الكلية، أو القسم لم يحدث أن أجبرت معيدة أو محاضرة على الابتعاث، نظرا لظروف المرأة التي تختلف عن ظروف الرجل، الذي قد يُجبر على الابتعاث، بل إن بعض المعيدات (في عدد من الجامعات) يلجأن إلى الاحتيال فتوافق الواحدة منهن على شرط الابتعاث، لكنها عندما تعين معيدة أو محاضرة، ترفض الذهاب بحجة أن ظروفها لا تسمح، فلا تجبر، ولا تحول إدارية، لكن يشترط عليها الانضمام إلى برنامج الدراسات العليا في جامعتها، أو تبتعث إلى إحدى الجامعات بعثة داخلية. أما استغلال الحادثة للهجوم على برنامج الابتعاث، وتجييش الأهالي ضده، فهو الغاية من التعليقات، وليس الترحم على الفقيدة، كقول أحد الإخونج في حسابه على تويتر : (لماذا تجبر الفتاة تحديدا على الابتعاث، إذا كان هناك برنامج للدراسة العليا في جامعات المملكة)! وقال آخرون : (هذه نتائج ابتعاث السعوديات للخارج، حتى التي لا رغبة عندها يجبرونها على البعثة، ليكون مصيرها القتل)، (يجبرون بناتنا على الخروج لدول تعادي الإسلام بحجة الابتعاث)، (النساء لسن كالرجال، مواصلتهن للتعليم داخل البلاد، أصون وأحفظ)، (رسالة للمسؤولين، ألم نكتف من الابتعاث؟ بقيمة الابتعاث نقدر نفتح مئات الجامعات)، (نرجو من الدولة أن توقف فورا إلزام النساء بالابتعاث)، (يجب إيقاف الابتعاث للخارج ؛ لأنه يعلم أبناءنا العلمانية والليبرالية والإلحاد) . أخيرا إن ربط مقتل الطالبة بالابتعاث، ليس له ما يبرره، فذلك الاعتداء الآثم كان يمكن أن يحدث لأي واحدة استفز مظهرها ذلك العنصري البغيض، سواء أكانت طالبة مبتعثة، أم سائحة، وسواء أكانت سعودية، أم أي امرأة مسلمة، فلا فرق عند ذلك الإرهابي، ثم ألا تتعرض بعض النسوة في بلادنا لحوادث قتل من أقرب الناس إليهن ؟ أو لا يتعرض بعض مواطنينا في دول الجوار العربية لحوادث مماثلة ؟ لذا على الذين يربطون الحادثة بالابتعاث أن يقولوا خيرا أو يصمتوا، وما يفعلونه للهجوم على البرنامج يجعلهم: كناطحٍ صخرةً يومًا ليوهنَها فلم يضرْها وأوهى قرنَه الوعلُ