النخلة أبرز ملامح الأمس، والوفاء لأماكن الذكريات والقرى يجذبنا إليها صيفاً، ففيها المجال الرحب والأوسع للسياحة بين الأهل والمعارف والمكان المألوف والذكريات التي تتجدد برؤيتنا لتلك الأماكن والبقاع بعيداً عن المشقة قريباً من الارتياح الهدوء. يا نخلة البستان يا أم العوايد بالصيف نلقى بك طلوع جديدة ولا يزال يتجدد وفاء المجتمع مع أرضه والمكان الذي عاش فيه، ومن أهم ما ترتبط به ذكرياتنا هي قرانا ومزارعها ومحل نشأتنا، كما أن من أبرز الملامح الباقية من الأمس وتستحق الوفاء إضافة إلى تلك الدور والأطلال شجرة مهمة هي النخلة، فقد رافقت حياة السكان في الصحراء وقيظها طيلة سنوات مضت وهي غراس من أهم الأشجار مع نبات القمح تقاسمتا مؤونة السكان، فلم ينسوها من الرعاية والحماية والعناية، حتى مع تغير الأحوال الاقتصادية والاجتماعية إلا أن مكانتها لا تزال باقية عالقة في الذاكرة. نعود للوفاء منا للمكان كله وأهله، حيث نأتيه مشتاقين فنجده ملاذ الكثيرين رغم اشتداد الحرارة في فصل الصيف ورغم الجفاف وتقلبات الجو من صفاء وكدر وغبار وعواصف ترابية وانعدام السحب والأمطار، إلا أن حرارة الصيف لم تكن فيما سبق مصدر ضجر ولا مثار قلق ولا هي من دواعي التضجر والضيق ولا سبب في تفريق شمل الأهل والأقارب ولا يراها أهل الحضر وكذا البادية إلا داعية خير وصلة تجمع الأسر والقرابات والعائلات ويقدم في هذا الفصل الحار المسافرون الذين تركوا البلدة طيلة العام من أجل العمل، كما تكثر فيه الخيرات ويشبع الجائع وتزيد فيه العطايا حيث نضج التمر، فيجد فيه أهل كل بيت ما يقدمونه لضيوفهم من التمر لوفرته، حتى أن أهل البوادي الذين أمضوا فصل الربيع في ترحال وراء الكلأ وأبعدت بهم المسافات متفرقين وفي كل فترة هم في مكان آخر، يجتمع بعضهم إلى بعض ويتجاورون حول الموارد وقرب الحضر. يقول الشاعر واصفا حال انتظاره لمن يريد لقياه والاجتماع به: في ربيع وكل يوم في مكان وأتحرى القيظ يجلبهم عليّه فهم في الربيع كل يوم في مكان يرحلون أو يشدون وينزلون ومن الصعوبة وجودهم في مكان محدد، ولكن القيظ وحرارة الصيف تجمعهم حول موارد الماء، فهو ينتظر ذلك الوقت ويتحرى قدومه، والشاهد اجتماع المتفرقين ولم شمل العائلات صيفا. ولقد اختلف الوضع قليلا في وقتنا الحاضر، فعندما يحل فصل الصيف يضجر الكثيرون اليوم من حرارته رغم توفر وسائل التبريد وتغير الأحوال كلها عن الأمس من حيث كثرة الخيرات والميسرات المعيشية وعدم العمل في الشمس لساعات طويلة. وإن عدنا إلى الأمس القريب لم نكن كمجتمع عاش في صحراء شمسها حارقة وحرها لاهب وظروفها قاسية جدا نواجه هذه الظروف بتذمر أو شكوى ولا حتى ضجر ربما قناعة وربما يأس، وتعايشنا معها باعتبارها واقعنا، ولأننا نقلنا من أجيال سبقتنا طرق عدة تأثرنا بها وجعلتنا نسالم الظروف ولا نتصارع معها أو نعاديها ونعاندها، حتى وصلنا إلى أمر مريح وتوافق مناسب مع كل ظروفها التي تقابلنا كل فترة يوجه مختلف. عاش إنسان هذه الصحراء وهم آباؤنا وأجدادنا على أرضها وعشقوها، رغم أنها كانت صعبة المراس معهم، لكنهم أحبوا صباحها ولياليها، ونظموا القصائد في جمالها، واستغلوا الأوقات بحسن ترتيبهم لها. سامر إنسان هذه الصحراء النجوم بنظرات محبة ذات إحساس مرهف، واستمتع برؤية جمال سمائها وتمتع بالأنس في الليالي المقمرة وخاطب القمر بالنثر والشعر، حتى إن سواد الليل وظلامه لا يشكلان عنده خوفاً بل هو مصدر متعة، فوجد الراحة في هدوء وسكون الأجواء وعاش في معزل عما يقلقه. لقد أخذ ساكن الصحراء من اعتدال ساعات الجو المسائي ما يعوضه عن لهيب القائلة ولفح سموم وسط النهار، ونهل من الصباح ونسيمه ما يبهج خاطره و ما تلذ به نفسه في لحظات استقبل الصبا والهواء العليل والمنظر الجميل وإشراقة شمس كل صباح. كما حصر معظم نشاطه الميداني في ساعات معتدلة وجعل بقية نشاطه في أماكن ذات ظل محمية كالمزارع والدور والأماكن المظللة. لهذا لا نجد الأنشطة تتركز في وسط النهار، وإنما في الصباح وساعاته المبكرة ففي البكور بركة وفي أول النهار قدرة على النشاط مع برد الصباح. لكن في الآونة الأخيرة واجهنا الصيف بالهروب منه ناحية المصايف أو بالبقاء متذمرين طيلة أيامه، في حين قابله آباؤنا وأجدادنا بالفرح والسرور والاستبشار بقدومه، فهو أهون عليهم من فصل الشتاء، ولم يكثروا حوله عبارات التذمر كما فعلوا مع فصل الشتاء حيث وصفوا الشتاء بأنه [وجه ذيب] بسبب تعبهم فيه ومشقتهم مما يصيبهم من البرد والمطر وتلف المزروعات واجتياح العواصف لممتلكاتهم، وحاجة الشتاء إلى الكثير من الكساء والغذاء. ويبدو أن الناس في الصحراء صارت لديهم قابلية للتعامل مع الحر وسموم القيظ أكثر من قدرتهم على برودة الشتاء بلا شك، ولعل مما يعلل هذا التآلف والقبول لفصل الصيف رغم كره جيل اليوم له ونفورهم منه، أن الناس في زمن مضى ولمدة عقود كان فقراؤهم أكثر من الأغنياء وكانت قناعتهم غالبة على طمعهم، وبالتالي فالقنوع والفقير عادة لا يجد غليظ الملابس وما يدفئ به جسده من قطن أو صوف، بالإضافة إلى قلة غذائه، ومثل هذا لا يقوى على مقاومة برد الشتاء، بينما يكون الصيف وحرارته أسهل وهو عليه أقدر كما أن باستطاعة الكثيرين العمل صيفا لزيادة الدخل حيث يتوفر العمل. وهذا لا يعني أن الصيف بهذه الميزات صار ضيفا خفيفا عليهم، وإنما مقارنة بالشتاء فقط، ومن المعلوم أن قائلة وسط النهار حرها لا يطاق ولكن برودة الليل واعتدال جوه يعوض عن حرارة وسط النهار وقائلته. يقول الشاعر محمد الدحيمي : من ذاق حر القايله يعشق الليل ومن شب ضوه ليلة البرد يدفا وفي هذا الوسط اللاهب والبحث عن ميزات تحبب لنا الصيف نتذكر النخلة التي نالها نصيب من قسمة الوفاء والحب، فما قدم أحد للقرية ومكان النشاط الزراعي الذي عشنا فيه في وقت مضى إلا تذكر النخلة وظلها وما أعطته في وقت عز فيه الغذاء وقل وشح فيه كل شيء، لهذا صيغت حولها العبارات الطيبة والأشعار والقصائد التي تعترف بأهميتها. فهذه أبيات للشاعر حمدان العديم الشمري في حوار مع النخلة وما أصابها من ظروف تغير معها ما كان معتادا فيما مضى يقول فيها: يا نخلة البستان يا أم العوايد بالصيف نلقى بك طلوع جديدة نلقى شماريخك سواة القلايد وغصونك الخضرا تكامل مديده تلعب نسانيس الهوى بالجرايد وتومي ويومي كل غصن وجريدة واليوم أشوف الشكل ماهو جوايد ما ادري مرض والا بلاوي عديدة ياالله عسى ما شر يا أم الحمايد أبي على قولي كلامٍ يفيده قالت بلاي الوقت والوقت كايد من ناطحه خسران ما له شريده بلاي ما تحويه كل القصايد وهناك أمورٍ حلها بالقصيدة وإهمال النخيل في كثير من القرى والأرياف وترك الفلاحة التقليدية التي كانت سائدة في تلك الأماكن نتيجة التغيرات الاقتصادية والوظائف، جعل تلك النخيل تبدو أماكنها موحشة بعد أن كانت أماكن تعج بالحركة والأنس وتزرع بين الدور والمساكن، وصارت الغالبية من المزارع قفر وتهدمت جدرانها، وما بقي فيها سوى القليل من أشجار الأثل ومقاصير المباني الطينية التي تساقط كثير منها، وما بقي منها من أطلال يعلن لنا كم كانت حركة حياة الأمس في تلك المزارع دؤوبة والنشاط فيها متنوع، ما بين زارع يحرث وآخر يسقي وثالث يعتني بالأغنام وآخر يتفقد البساتين، والأصوات في كل الأرجاء تعمر المكان كله. وإذا كانت الصورة الواقعية قد زالت ولم يبق سوى خيالنا لها أو الاحتفاظ بصورة في أذهاننا باعتبارنا عشناها واقعا لا يمكننا نسيانه، إلا أننا نستمتع كثيرا بروية ولو بقية من تلك الأماكن وإن كانت خلت من أهلها أو تخلو عنها، كما أن متعتنا أن نتجول في تلك الأماكن ونعيش في أرجائها مصطحبين أثناء ذلك ذكرياتها السابقة وفاء لها واستمتاعا بتقليب صفحات من الماضي كان لنا يوما من الأيام معه إشراقة لا تنسى.