البسطاء يستنجدون بالمزارع و«عيال النعمة» في مصايف «الطائف» و«أبها» يلوح بنظره إلى السماء من سطح منزله ويشاهد نجوماً متناثرة في ظلمة الليل، ويتتبع منازلها ليتحقق مما سمعه عن قرب دخول وقت الصيف من قبل جلساء المسامرة، ومن ثم يضع جنبه ليأخذ مضجعه من النوم، لينشط باكراً للذهاب إلى "أبو صالح" كبير المتبحرين بعلم الفلك والأوقات وما يسمى بعلم النجوم ومعرفة منازل القمر بالقرية؛ للتحقق مما سمعه بالأمس، ولمعرفة هل أصاب في الحساب وتتبع النجوم التي تدل على دخول الصيف، كي يعد العدة للاستعداد لهذا الضيف القادم، الذي يحمل معه السموم والرياح الحارة والنشطة، فقد اعتاد الناس قديماً أن يودعوا فصل الربيع الذي كان بهجة للنفوس استعداداً لفصل الصيف "اللهاب"، فتراهم يعدون العدة استعداداً للفصل الذي يحل ضيفاً ثقيلاً. زير الماء ثلاجة زمان يأتي أول استعدادهم لفصل الصيف بتأمين ما يحتاجونه من أعلاف للمواشي، التي هي عماد حياتهم، فمن هذه المواشي يشربون الحليب واللبن، ومنها يستخرجون "السمن البلدي" و"الأقط"، و"الزبدة"، إضافةً إلى لحومها وأصوافها، وقد يستخدمونها للحراثة أو ل"السواني"، التي تخرج الماء من البئر، فتراهم يخصصون غرفة في المنزل تكون في أسفل الدار لملئها بالأعلاف "الحشيش"، وما يحشونه من البر من نباتات تحب أكلها الحيوانات مثل "الثمام" و"العرفج" و"الرمث" و"العوسج" و"النصي" و"الخزامى"، حيث تيبس وتخزن في هذه الغرفة التي تكون بمثابة مخزن الغذاء لهذه الحيوانات، إذا ما أحرقت الشمس أوراق الشجر التي ترعاها في العادة في غير فصل الصيف، كما يشتري الناس "السمن" و"الإقط" - الذي يقل وقد يندر مع دخول وقت الصيف -، فتخزن هي الأخرى لاستخدامها في الطبخ ودهن الأيدي والأجسام والشعر. أحد شوارع حي دخنة وسط الرياض عام 1357ه شاهداً على حرارة الأجواء في العاصمة بداية فصل الصيف الثابت بأنّ دخول فصل الصيف يبدأ بظهور نجم "الثريا"، وأول نجوم فصل الصيف "القيظ"، ومدته (39) يوماً، وتظهر فيه نجوم "الشرطين" و"البطين" و"الثريا"، وكل نجم مدته (13) يوماً، وآخر نجوم الصيف هو "سهيل"، الذي تقول الناس عنه المقولة الشهيرة: "إذا دخل سهيل تلمس التمر بالليل، ولا تامن السيل"، وبعض الناس يعتمد في دخول الصيف على التاريخ الميلادي، الذي لا يتغير سنوياً خلاف التاريخ الهجري، ففصل الصيف يبدأ يوم 21/ 6 إلى 21/ 9 بالتاريخ الميلادي، على أن العديد من المهتمين والفلكيين رأوا خلاف في ذلك. قديما يتم تخصيص مكان في بيوت الطين لحفظ الطعام معرفة دخول الصيف نظراً لأنّ الحياة قديماً كانت قاسية، فإنّ الناس قد اعتمدوا على الاستعداد لكل فصل من فصول السنة بما يستحقه لمواجهة العناء، وكان خير دليل لهم في استعداداتهم هو الحساب الفلكي الذي توارثوا معرفته أباً عن جد، فترى جل حديثهم عن فصول السنة التي قسموها الى أيام، وصاروا بالتجربة والخبرة يعرفون ما يمتاز به كل فصل، وما يزرع فيه، وما يفيض فيه الماء أو يقل، وهكذا، وقد برع العديد منهم في هذا الفن، وصار مشهوراً به، بل كان مرجعاً في بلدته وعصره، فالناس تعتمد على قوله في ذلك خاصةً المزارعين. يحلو النوم فوق سطح المنزل إذا اعتدل الجو مطالع الجوم وقد اهتم أبناء الجزيرة العربية منذ القدم بمطالع النجوم والنظر فيها ومعرفه منازلها، وذلك لارتباطها بحياتهم اليومية في الليل والنهار، فهم يعرفون من خلالها دخول فصول السنة، ووقت نزول الأمطار، ووقت البرد والحر، ومن خلال حساب النجوم يعرف أهل القرى والمزارعون متى يحرثون أراضيهم، ومتى يبذرون استعداداً لنزول المطر، وأهل البر يعرفون مواسم الرعي والسفر، وأهل البحر يعرفون مواسم الصيد والسفر، وكان العرب في الصحراء يسترشدون أيضا بالنجم "سهيل" وهم يتوجهون صوب الجنوب، ونجم "الثريا" و"الجدي" نحو الشمال، وأهل نجد يستبشرون بدخول "سهيل"، حيث يعتبر إشارة على خروج فصل الصيف الحار وقرب دخول الوسمي. ومن أشهر من برع في معرفة حساب النجوم والمتبحرين بعلم الفلك والأوقات الشاعر "راشد الخلاوي"، الذي عاش في القرن الثامن ومطلع القرن التاسع الهجري، وله العديد من القصائد التي وظفها في ذكر فصول السنة، ووقت دخول كل فصل، ومدة أيام الوسم، ووقت نزول الأمطار، ومن نماذج شعره قوله في قصيدة: حسبت أنا الأيام بالعد كلها ولا كل من عد الحساب يصيب حساب الفلك بنجم الثريا مركب يحرص له الفلاح والطبيب فيلا صرت بحساب الثريا جاهل ترى لها بين النجوم رقيب إلى غابت الثريا تبين رقيبها ويلا اطلعت ترى الرقيب يغيب ولا قارن القمر الثريا بحادي بعد أحد عشر عقب القران تغيب وسبع وسبع عد له بعد غيبته هذيك هي الكنه تكون مصيب ومن بعدها تطلع وبها القيظ يبتدي وتاتي بروق ولا يسيل شعيب ويلا مضى خمس وعشرين ليلة ثقل القنا من فوق كل عسيب وتطلع لك الجوزا وهي حنة الجمل وتاتي هبايب والسموم لهيب والى مضى خمس وعشرين ليله يطلع لك المرزم كقلب الذيب والى مضى خمس وعشرين ليله يطلع سهيل مكذب الحسيب والى مضى خمس وعشرين ليله تلقا الجوازي طردهن تعيب تلقا الجوازي ما تناظر مقيله ليله نهار وتجتلد وتليب والى مضى خمس وعشرين ليله لا تامن الما صيبه صبيب تبريد الماء كان الماء البارد في فصل الصيف من أهم متطلبات الأسرة التي تسعى جاهدة لتوفيره، ويستخدم الناس "الزير" لتوفير الماء البارد في المنازل، وهي آنية فخارية مصنوعة من الطين المحروق، وشكله "مخروطي"، حيث تكون فوهته واسعة وأسفله ضيقاً، ويصنع له كرسي خاص، بحيث يكون مرتفعاً عن الأرض بمقدار ربع المتر تقريباً، لكي يسمح هذا الفراغ بمرور الهواء لتبريد الماء الذي بداخله، بعد أن ينضح الماء في سطحه الخارجي، فيبرد ويوضع له غطاء محكم من الخشب، ثقيل نوعاً ما، وعلى الغطاء "طاسه" للشرب، فإذا ما شعر أحد أفراد الأسرة بالظمأ توجه إليه، وشرب منه، وروى عطشه. الصيف فرصة للسباحة في العيون وكان الماء يجلب للزير من أحد الآبار القريبة من المنزل، وتتولى احضار الماء غالباً المرأة فبعد احضاره تضع قماشاً شفاف كقماش غطاء الوجه "الشيله" أو الغترة، وتغطي به فوهة "الزير"، ومن ثم تسكب الماء، فتعلق الشوائب بالقماش، وتنساب المياه الصافية إلى "الزير"، وكان أكثر الشوائب حشرة تسمى "العلق"، وسميت بذلك لأنّها تعلق في حلق من يشرب الماء فتؤذيه، وربما كبر حجمها، فتسبب له المرض الذي قد يؤدي إلى الممات، وكطريقة بدائية ناجحة لعلاج من علق في حلقه من تلك الحشرات شيء أن يغرف غرفة بيده من طينة ماء راكد آسن، قد اخضر ويسمونه قديماً "مغرب" أو "غرب"، ويضعها في فيه فترة قصيرة، مع إغلاقه فتشمه تلك الحشرة، فتخرج من حلقه، وتنغرس في ذلك الطين، فيخرجه ويلفظه فتخرج من حلقه وفمه، وقد يكرر هذه العملية حتى يحس بشفاء حلقه، كما كان هناك استخدام آخر للزير، فإنّ غالب الناس يعمد إلى فرش رمل ناعم نظيف أسفله، ويضع الخضار والفواكه أسفله لحفظها من لهيب الصيف الحارق، الذي يذبلها ويفسدها، ومن هذه الفواكه "الحبحب" أو "الجح" و"الشمام" و"الجراوه"، بحيث تنساب عليها قطرات باردة منه تحفظها باردة وطازجة لعدة أيام. رفيق درب المسافرين بما إنّ الزير كان مورداً عذباً بارداً لأهل الدار فقد كان من الضرورة توفير ماء بارد للمسافرين والعاملين خارج المنزل في حرارة الصيف، فمن غير المعقول نقل الزير معهم؛ لكبر حجمه وثقله وخطورة المشي به، فقد ينكسر، لذا كان من الطبيعي أن يتوجه التفكير الى شي آخر لتبريد الماء خارج المنزل، فكانت الحاجة هي أم الاختراع كما يقولون، فتم صنع "القربة" لهذا الغرض من جلود الحيوانات، خاصة الصغيرة كالضأن والماعز، حيث يعمد إلى جلد الحيوان بعد سلخه بدون قطع بالسكين، فيكون الذي يسلخ كمن يفسخ الثوب فقط، وبعد سلخ جلد الحيوان المليء بالصوف يقلبونه ويجعلون الصوف داخلاً، ثم يضعون بداخله تمراً، فيغطى، ويكتم - وهذا يسمى تمار الجلود -، ومدة ذلك يوم أو يومين حتى يفسد التمر، ثم يخرجون التمر وإذا بالصوف يزول، ويخرج مع التمر بكل يسر وسهولة، فيصبح داخل الجلد كخارجه ليس فيه صوف أو لحم، ثم يأتون بهدب شجر "الأرطى" اليابس، فيطبخونه بالماء، ثم يسكبون الماء على الجلد والماء فاتر، فيكون سمكه رقيقاً ليبرد الماء، ولكن تبقى بعض الثقوب الصغيرة في القربة، التي ربما لا ترى بالعين المجردة وهي التي ينضح منها الماء فإذا مر به الهواء يبرد ما بداخل القربة من ماء، فتكون خير رفيق للمسافر الذي يجد بها حلاوة الماء البارد، فيعلقها على "بعيره" أو حصانه، وإن كان ماشياً فيعلقها على طرف عصاه التي يوسطها أحد كتفيه، ممسكاً طرفها الآخر بيده أثناء المسير، كما قد يستعملها المزارعون أثناء حرث الأرض أو زراعتها وحصدها، فيعلقها على نخلة أو شجرة ظليلة، وقد قال الشاعر "عبدالله بن سبيل": لا تاخذ الدنيا خراص وهقوات يقطعك عن نقل الصميل البراد لك شوفة وحده وللناس شوفات ولا وادي سيله يفيض بوادي ولا ينفع المحرور كثر التنهات ولايسقي الضامي خضيض الورادي بيوت الطين راعى الناس قديماً عند بناء البيوت العمل على تكيفها مع مواسم السنة المختلفة، وحاجة الناس الى الدفء في ليالي الشتاء القارسة والبرودة في أيام الصيف الحارقة، فكانت مادة الطين الأساس الذي حقق ذلك، وبالفعل كان بناء البيوت الطينية هو الحل الأمثل لمواجهة ذلك، فكان بناء الطين عملاً متقناً يوفر كل ما يحتاجه المرء، فعندما تدخل أحد البيوت الطينية في عز الظهيرة تتفاجأ بتيار هواء بارد يلاقيك، فتخطيط تلك البيوت كان بعناية فالمجلس سقفه مرتفع، وبأعلى جداره فتحات متعددة على شكل مثلثات تسمح بمرور الهواء من جميع جهاته؛ مما يوفر البرودة، كما أنّ هذه الفتحات يستفاد منها شتاءً عند شب النار في الوجار، فيتصاعد الدخان إلى أعلى ويخرج فلا يؤذي الجالسين، أما في أسفل البيت، فقد عملت مصابيح ذات سواري وهي مفتوحة على "الحوي" - بطن البيت -؛ مما يسمح بمرور تيار الهواء فيبرد المكان. img src="http://s.alriyadh.com/2013/06/07/img/704013336218.jpg" title=" يحلو السمر والسهر في أجواء "أبها" الباردة «أرشيف الرياض»" يحلو السمر والسهر في أجواء "أبها" الباردة «أرشيف الرياض» ليالي مقمرة وعند اشتداد الحر وعند الصيام خصوصاً فإنّه لابد من استخدام أدوات تبريد، كاستعمال "المهفة" المصنوعة من جريد النخل وخوصه، فيحركها الشخص يمنة ويسرة لإستجلاب هواء منعش بارد يخفف لوعة الحرارة، كما يرش البعض أرضية بطن "الحوي" وما حول المصابيح بالماء لتبريد المكان، وقد يعمد البعض إلى غمر قطعة من قماش في الماء ويتدثر بها وينام، ويحلوا في فصل الشتاء النوم في سطوح المنازل ليلاً، حيث تفرش فرش النوم قبل أذان المغرب، فاذا ما جاء وقت النوم وجدها المرء باردة جداً؛ مما يساعد على سرعة النوم والهناءة فيه، ومن الأشياء الجميلة التي تميز فصل الصيف عن غيره من فصول السنة هي الليالي المقمرة التي يحلو فيها السمر على ضوء القمر، وعادةً ما يستغلها الناس في الاجتماعات العائلية والأفراح. القيلولة.. نظراً لكون نهار الصيف أطول من الليل على عكس فصل الشتاء؛ فإنّ معظم الناس لا يأخذ كفايته من النوم ليلاً، خصوصاً لمن يستيقظ من ساعات الفجر الأولى للعمل في المهن التي تستلزم ذلك، فعندما يرتفع النهار وتتوسط الشمس كبد السماء فإنّ الحر يبلغ ذروته، فيستكنون في بيوتهم وينامون "القيلولة"، من بعد صلاة الظهر إلى قرب وقت صلاة العصر، فتكون وقت راحة واستجمام للجسم من العناء والتعب، ومن الأماكن التي يلجأ الناس اليها للقيلولة عند اشتداد الظهيرة "الخلوة"، وهي التي تبنى في خلف المسجد تحت الأرض، ولها باب من سرحة المسجد، وهي عجيبة جداً، فهي باردة جداً في فصل الصيف، ولا غرابة أبداً حين يلجأ لها المزارع لقضاء قيلولته فيها، وعلى العكس تماماً فهي دافئة للغاية في فصل الشتاء، وهي تُبنى في الغالب لأجل الشتاء، وتحديداً لأداء صلاة الفجر فيها، وقد أتى العلم الحديث ليؤكد فوائد القيلولة في زيادة إنتاجية الفرد، ويحسن قدرته على متابعة نشاطه اليومي. فراق حر.. وسياحة الغالبية العظمى من الناس تعاف الحر وتهرب من جحيم نيرانه، ومنهم راعي "المقانيص" الذي يجد فيه سجناً له، كما يصور ذلك أحد القناص في قصيدة قال فيها: لاشفت لي نو ابروقه ترفي نويت اجهز موتري للتكاليف القيظ كله جالس ومتعفي برد المكيف نشف الدم تنشيف متى سموم القيظ عنا تقفي وسهيل قبل يعمد الفجر قد شيف والنار يصلح شبها للتدفي البرد نوجس من نسيمه هفاهيف على أنّ الكثير من الناس في القرى قديماً تهرب من لظى الحر إلى المزارع القريبة، لتستظل تحت الشجر والنخيل التي يحفها الهواء البارد العليل رغم شدة الحر، بينما البعض القليل من الموسرين يؤم المصائف مثل "الطائف" عروس المصائف، ومصيف المملكة الأول في تلك الحقبة من الزمن، و"أبها" و"الباحة" و"النماص"، ويسافرون على سياراتهم القديمة وغير المكيفة، وذات الصندوق الذي يحمل العفش مع بقية أفراد العائلة التي يقطعون فيها المسافة، من "نجد" أو الشرقية أو الشمال، ربما في يومين أو ثلاثة، وهم فرحون بمفارقة الحر، وربما يرددون بيتاً من أحد القصائد المغناة في تلك الفترة مثل: هبت رياح الصيف وتغير الجو وأنا وليفي ما يداني سمومه فإذا ما وصلوا قضوا معظم فصل الصيف، وربما صادف حر الصيف شهر رمضان، فصاموا في تلك المصائف في الأجواء الباردة، وربيع الطبيعة البكر الخلاب، بينما الآخرين من الذين لا تسعفهم الحال ينتظرون أن تنطفي شدة الحر متمثلين بتلك الأبيات للشاعر "بدر الحويفي الحربي": متى على الله تنطفي جمرة الصيف ويهب من صوب الشمال البرادي ونشوف بيض المزن بالجو تصافيف وميض برقه مثل قدح الزنادي لا هلّ سيله بالحزوم المجافيف أقعد جمال الأرض عقب الرقادي وصار الثرى مابين حبران وطريف زلٍّ مزخرف فاق صنع الأيادي هناك أبستأنس ويكمل لي الكيف مع رفقةٍ يمشون غاية مرادي أهالي في رحلة إلى مصيف الطائف