قد تفيض الدمعة عندما تعود بنا الذكرى إلى وقت مضى يوم كنا نسكن في دار بنيت من الطين واختير مبناها في موقع بين النخيل لتكون قريبة من المزرعة بل في المزرعة نفسها توفيرا للوقت والجهد الذي سوف يصرف في الإنتاج. والغريب أن تلك الدور الطينية تعجب حتى الشباب الصغار أيضا وهم لم يسكنوها مطلقا ولكن جاذبية البساطة لها دورها الفاعل، فكيف بمن سكنها وعاش عمره بين جدرانها وامتزجت ذكراها مع كل لحظاته، فعندما نستعيد بعضاً من تصورها وطرقات القرية ونخيلها وحركة الناس بها، والأماكن التي لعبنا فيها مختلف الألعاب مع أقران مازلنا نتذكرهم ونعيش ذكرانا معهم بل واقعنا اليوم أيضا معهم فلا شك تفيض الدمعة بالفعل لتشاركنا التعبير أو العبرة. نتذكر الأمس ونود أن نغفل عنه ما دام لن يعود، ولكنه ذا صبغة ثابتة في مخيلتنا كما قال الشاعر: أفكر فيه والتفكير في اللي فات طبع شين ولكن بعض الأشياء ذكرها يا كود نسيانه والحنين إلى الأمس قد لا يكون اختياريا منا بل يقتحم علينا وحدتنا وخلوتنا وحتى وقت مشاغلنا قسراً، يختطفنا من بين ذلك كله ويشاركنا أيامنا الحاضرة لينقلنا حيث كان الهدوء الفعلي والبساطة الحقيقية تسكن الأمس. وعند استقبالنا في صباح أيامنا الحاضرة هذه نسيم صباح يوم جميل يتيم لا يكاد إحساسنا به يبدا حتى يزول، نتذكر كم هي النسائم اللطيفة العديدة التي كنا نستمتع بها كل ساعة في أيامنا السابقة بوفرة وبالمجان حتى التخمة يوم أن كانت الدار وهي بلا تكييف كأنها مكيفة. والمزارع تحيط بها تحتضنها عن سموم القيظ ولهيب الصيف ورياحه الحارة، وفيها بيئة عملنا ولعبنا واستراحتنا وكل حياتنا مع أهلنا فلم نفارقها وبالتالي لا تفارقنا ذكراها. تذرف الدموع كلما هبت بوارح باردة لطيفة أو نسمة شمالية هادئة خففت شيئاً من حرارة الجو مما حولنا لأنها تعيدنا إلى شيء من حياة الأمس حيث الطبيعة وكل ما حولنا ينسجم وحياتنا معها من دون تكلف في شيء أو تطلع إلى غير ما توفر في بيئتنا، فلم تكن لنا يومها تطلعات لشيء بعيد عن بيئتنا والمكان، فبساطتنا تمتزج بالقناعة. لا شك أننا كلما حاولنا استعادة صورة الأمس عجزت الأقلام ووقفت العبارة تشكو قصورها عن تصوير البراءة في المجتمع والصفاء يلفه والألفة بين قلوب الجميع تجعل من أصحاب تلك القلوب نسيجاً اجتماعياً يتمتع في داخله بالمعنى الصحيح للسعادة، إنه زمن مضى قد لا يتكرر بكل مكوناته ولكنه ليس بمستحيل تواجد بعضه. يقول الشاعر أحمد الناصر: هاك الحين الأوادم ما تشكك والقلوب صحاح وتالي الوقت كل شانت طبوعه ونياته ولكي نلمس شيئا من بساطة الأمس وأهله ودار الطين وما يحيط بها من نخيل وما في داخلها من هدوء وجو لطيف، نبقى مع الشاعر: محمد العمار من أهالي إقليم الوشم، في قصيدته التي تعيدنا إحساساً وشعوراً لطفولة مضت كأحلى أيام عشناها، وفي الوقت نفسه تكبلنا بحسرة حيث لا عودة. يقول من قصيدة طويلة: حمام الورق يومه ناح ذكرني بيوت الطين بيوت في البلد طاحت وعصر راحت أزمانه وإلى مني ذكرته فاضت الدمعة على الخدين حسايف من عقب عز جرى له طاح بنيانه سكنا يوم كنا صغار بيت الطين مرتاحين وإلى جا الحر كن مكيف التبريد في اركانه يحيط بنا النخل والاثل والسدر هو والتين وحيطان كثير زرعها خضراء وريانه حتى قال سقى الله بالحيا دار سكناها لها بابين على جال السطر تدخل علينا بعض عسبانه ذكرت الباب أبو حلقة وبطن البيت وادرجتين مع المصباح والمصطاح والروشن وحيضانه وعنز عندنا وش هديها سميتها أم قرين نسرحها مع الراعي تجي في الليل شبعانه وذيك الجصة وبيت الدرج وصفافنا الثنتين وذاك المجلس اللي نقشوا بالجص جدرانه