في خضم الأحداث الجسام التي أصيبت بها مجتمعاتنا العربية راح الجميع على اختلاف ميولهم الثقافية ومشاربهم الفكرية إلى البحث عن الحلول التي تضمن لتلك المجتمعات مسايرة ركائب المجتمعات الأكثر تحضرا وتمكينا من خلال إبرازهم للتجديد كمطلب ملح وضروري ينبغي تبنيه فكرا وهدفا واستراتيجية عمل وبناء. إن الأمم والشعوب تمر بمراحل عديدة في حياتها، فكل مرحلة من هذه المراحل تحتاج إلى أسلوب جديد يناسب واقع الأيام وظروفها، وهذا هو التجديد والذي لا يعني بالضرورة الانسلاخ عن الأفكار والمبادئ التي قامت عليها حضارة تلك المجتمعات، بل على العكس من ذلك، فأي حضارة كونية منذ أمد التاريخ لا تستقيم ولا تبعث ولا تتمكن إلا من خلال فكرة روحية تكون الوعاء والقالب الأساس الذي يستوعب كل تلك الحضارة، فالفكرة العقدية أو الروحية هي الشرارة التي توقد الأمم لتبدع وتسيطر وتستحوذ من التاريخ على صفحات بيضاء تبقيها خالدة مدى الأيام، إذن لا مناص من أن التجديد يبقى ضرورة ملحة لإبراز ما خفي أو أخفي من مكنونات تلك الفكرة الروحية التي قامت على أساسها تلك الحضارة. إن من أسباب تأخرنا كمجتمعات عربية وإسلامية ديمومة نخبنا الفكرية على نسق واحد من الرتابة والتقليدية التي أورثتنا وأورثت أجيالا كثيرة تعاقبت مللا وسآمة، بل ربما أوصلت البعض إلى مسالك واتجاهات متطرفة ذات اليمين وذات اليسار، وكلا النقيضين يرى نفسه من خلال موقعه وفكره أنه الأقرب لوسطية كانت وما زالت وستظل منطقة الكل يدعي الوصول إليها وامتلاكها تاريخا وحاضرا ومستقبلا. إن الوسطية كهدف وعقيدة قامت عليها حضارتنا الإسلامية تقتضي الوصول إليها وعيشها واقعا صحيحا، وأن نبذل السبل الكفيلة لتحقيقها من خلال التمسك بالثوابت وإبرازها في صور عصرية تناسب الواقع ومتطلباته وهذا هو التجديد الذي نعنيه ونريده. إن إقرار التجديد في كل شؤون حياتنا سيخرج نظمنا الإدارية والاقتصادية والتعليمية من بؤر الرتابة والروتين التي باتت تقتل كل صور الإبداع والتميز، فلو أخذنا نظمنا الإدارية المعمول بها حاليا نجدها في جل صورها استنساخا لنظم عربية مجاورة تم إقرارها قبل عشرات السنين، وللأسف ما زلنا نمارسها أسلوب عمل واستراتيجية بناء، فكان مخرجها ما نشاهده من تجليات للفساد الإداري في صور باتت مألوفة لنا جميعا، وبالمثل نظامنا التعليمي، ورغم تزايد الدعوات الإصلاحية لتحسينه وإخراجه من نمطياته المعهودة وعلى الرغم من أنه يحظى بدعم كبير من حكومتنا الرشيدة إلا أنه ما زال يسير على خطى واقع قديم رسمه أناس الكثير منهم غيبهم الزمان وحكمه. واقعنا الاجتماعي الحالي استطاع من خلال نمطيته المعهودة أن يسير كثيرا من واقعنا الحياتي بجعله تابعا له في كل أموره وهذا يظهر ويتجسد في صور كثيرة، منها انسياق كثير من نخبنا الفكرية وراء هذا المجتمع ومتطلباته، وهذا الانسياق أورث كثيرين منهم سلبية واضحة أخذتهم للاندماج في هذا المجتمع والتعايش معه بأسلوبه وطريقته دون أن يكون لهم دور واضح وصريح في تغيير كثير من نمطيات هذا المجتمع وسلوكياته الخاطئة وهذا يرجع لخوفهم من ردات فعل ذلك المجتمع بنخبه التقليدية التي أصبح تأثيرها يتزايد وأسهمها ترتفع في ظل خفوت أصوات علمائنا ومفكرينا الذين آنسهم الانزواء والتهميش خوفا من غلبة تيار المتنفذين والتقليديين في تلك المجتمعات. إن التجديد يظل واجبا وضرورة يمليها علينا الدين ومتغيرات الحياة، والتجديد لا يكون كما أسلفت بالانسلاخ من الأصول ونبذها بل هو دعوة للتمسك بتلك القواعد والأسس وتأطير كل جوانب حياتنا بتلك المفاهيم والمعتقدات ولكن بأسلوب عصري يتماشى مع الواقع وظروفه وأولوياته.