أما الإبداع فالأصل فيه أنه نادر وأنه استثنائي وغير مرتبط بالتعليم بل ربما يكون التعليم التلقيني مُطفئًا للقابليات الإبداعية ومُخْمدًا للخيال الإبداعي لأن الإنسان يعتاد الانطلاق الحر أو يعتاد الانقياد الأعمى فالسلوك ليس سوى منظومة من العادات لكن كثيرين يتوهمون أن الإبداع نتاج التعليم النظامي بينما أن الواقع يؤكد العكس تمامًا في العصور القديمة قبل تعميم التعليم لم يكن ينخرط في مجال طلب العلم سوى قلة من الأفراد يندفعون إليه تلقائيًّا فالتعلُّم كان اختيارًا فرديًّا محضًا لذلك كان المتعلم مدفوعًا إلى المعرفة بشغف تلقائي فيتيح له ذلك تكوينًا معرفيًّا واسعًا وعميقًا ومتنوعًا فأبو حامد الغزالي على سبيل المثال كان: فقيهًا وأصوليا وعالمًا باللغة وأديبًا وعالمًا بالمنطق ومستوعبًا للفلسفة وموغلاً في معارف واسعة وعميقة ومتنوعة فلم يأت للتعليم مضطرّا وإنما جاء برغبة ذاتية تلقائية متأججة فصار عَلَمًا من أعلام التاريخ فمؤلفاته مراجع مهمة لتخصصات متنوعة. أما في هذا العصر فإن الجميع يُدفَعون إلى التعليم النظامي دفعًا أو ينتظمون فيه اضطرارًا وليس عن رغبة ذاتية تلقائية فالتاريخ الحديث يتضح منه أن الهدف من تعميم التعليم هو توفير المتخصصين لأداء الأعمال المهنية المتنوعة التي طرأت على الحياة الإنسانية لذلك ينخرط فيه الجميع من دون رغبة أو تصور مسبق وإنما لأن الحياة صارت تقتضي التأهُّل المهني بواسطة التعليم النظامي إن التعليم الحديث بمراحله وشكلياته وأنظمته وشهاداته قد جاءنا مجلوبًا من الغرب ولكننا أخذناه من دون أن نعرف كيف نشأ وما هي التغيرات النوعية التي سبقته وما هي الظروف التي أوجبتْ نشأته لذلك فإننا نحن العرب قد استخدمناه عكس ما نشأ من أجله فحشدناه للاجترار وتكريس الواقع وليس لمواجهة المتطلبات الطارئة على الحياة البشرية. إن الانتظام في التعليم النظامي هو من أجل التأهُّل لعملٍ مهني فلا يلتحق به ويواصله حتى النهاية سوى الذين يسعون للحصول على مهنة أو لا يستطيعون السير وحْدهم وإنما يحتاجون إلى من يلقنهم ويقف معهم فهم مقلدون وليسوا مبدعين وتتعمَّق فيهم الإمَّعيَّة والتبرمُج على الانقياد الأعمى بمقدار امتداد مراحل التعليم فيبقون مرددين وناقلين ومؤطَّرين ذهنيًّا إن التعليم النظامي بمختلف تخصصاته ومستوياته يهدف إلى توفير المهنيين إنه طريق الذين يريدون الحصول على شهادة تتيح لهم دخول مجالات العمل فالشهادات صارت هي المدْخل المهني بما في ذلك العمل في مراكز البحث العلمي أو التدريس في الجامعة فلا تتاح عضوية هيئة التدريس في أية جامعة إلا لمن يحمل دكتوراه إنها شروطٌ مهنية وليست ذات دلالة إبداعية. إن تعميم التعليم جاء ثمرةً للإبداعات الفردية والريادات الخارقة وليس العكس فالتعليم النظامي لم يكن منتجًا للإبداع ولا للريادة بل هو بعضٌ من نتاجهما فنهضة الفكر في أوروبا في مستهل العصر الحديث قد أدَّت إلى تغيرات نوعية كبرى في الحياة البشرية وفي المعرفة وفي طرائق التفكير فحدثت في بريطانيا الثورة الصناعية بجهد المخترعين ورجال الأعمال من غير أن تُسهم في هذا الجهد المعرفة النظرية ثم امتدَّتْ الثورة الصناعية ونتائجها الكبرى المتنوعة إلى بقية القارة ثم إلى مختلف بلدان العالم كما نشأت الوزارات والأجهزة البيروقراطية التي تمارس نشاطات متنوعة وكلها لم تكن معروفة قديمًا وبذلك استجدت واتسعت الحاجة إلى الموظفين في مختلف القطاعات فتنوعت مجالات العمل وصارت الأوطان بحاجة إلى متخصصين يؤدون الأعمال المهنية المتنوعة وينفذون أفكار المبدعين في كل مجالات الأداء ويجيدون استخدام الأجهزة الحديثة المتطورة فالتعلُّم النظامي بات حتميًّا لأنه من دونه لا يمكن الحصول على وظيفة جيدة لذلك صار الجميع يلتحقون بالتعليم حتى ولو لم تكن لديهم الرغبة التلقائية في المعرفة ولا الشعور بالحاجة إليها وإنما يلتحقون بالتعليم اضطرارًا لأنه صار هو المدخل المهني الذي يؤهِّل للعمل ويسمح بالممارسة ويوفِّر لقمة العيش. أما الإبداع فالأصل فيه أنه نادر وأنه استثنائي وغير مرتبط بالتعليم بل ربما يكون التعليم التلقيني مُطفئًا للقابليات الإبداعية ومُخْمدًا للخيال الإبداعي لأن الإنسان يعتاد الانطلاق الحر أو يعتاد الانقياد الأعمى فالسلوك ليس سوى منظومة من العادات لكن كثيرين يتوهمون أن الإبداع نتاج التعليم النظامي بينما أن الواقع يؤكد العكس تمامًا وعلى سبيل المثال فإن أكثر الذين نالوا جائزة نوبل في الأدب وكانوا قممًا في الإبداع هم من الذين ساروا فرادى خارج التأطير المدرسي أو التقييد الأكاديمي لقد اعتمدوا على أنفسهم فنجوا من التنميط المدرسي وسلموا من التحديد الأكاديمي وبذلك صاروا متهيئين للتفكير الحر والعمل المبدع وعدم الانشغال إلا بما يهمهم تلقائيًّا ويتفق مع ميولهم فتكتظ قابلياتهم وتفيض إبداعًا وريادة. إن أديب الهند وشاعرها وفيلسوفها وحكيمها طاغور ضاق مبكرًا بالتنميط المدرسي فَهَرَبَ عنه وعلَّم نفسه فنال جائزة نوبل في الأدب وقد كَتَبَ بأنه وهو في العاشرة من عمره رافق أباه في رحلة دامت ثلاثة أشهر ويؤكد بأن هذه الرحلة البريَّة أثَّرَتْ فيه أثرًا كبيرًا ثم يقول: "في رحاب الطبيعة الطلقة تذوقت طعم الحرية التي كانت خارج جدران المدرسة ومن أجل ذلك تركت المدرسة نهائيًّا" هكذا أدرك طاغور أن التعليم النظامي تنميطٌ مُعيق للإبداع وأنه يطفئ الخيال ويئد النزعة الفردية ويقضي على التفكير الحر إن طاغور قد اكتشف مبكرًا الفرق النوعي بين التعلُّم الحر القائم على التجربة الذاتية والتفكير المنطلق والتأمل المفتوح.. والتعلُّم المدرسي الاضطراري الرتيب الممل فَتَرَكَ المدرسة مبكرًا واعتمد على نفسه فصار واحدًا من أبرز أدباء وحكماء العالم في القرن العشرين. ومثلما كان طاغور صانع نفسه ككل المبدعين فقد كان المبدع الروسي ميخائيل شولوخوف نتاج ذاته فلم يلتحق في التعليم وإنما واجه منذ طفولته قسوة الحياة وانغمس في هذه القسوة وواجه الظروف والتقلبات فتعلَّم منها الفهم والحكمة فنضج مبكرًا وأدمن القراءة بشغف واستمتاع فاكتظت قابلياته بالمعرفة ونضجت بالتجربة ففاضت إبداعًا زاخرًا أذهل النقاد وأمتع القراء فنال جائزة نوبل وراح العالم ينقل إبداعاته إلى مختلف اللغات وقد وصفه الفيلسوف الفرنسي سارتر بأنه: (أكبر روائي روسي معاصر) وهذه الأهمية هي التي دفعت أربعة من المثقفين العرب ليحتشدوا مجتمعين لترجمة رائعته الشهيرة (الدون الهادئ) في مجلداتها الأربعة وكان على رأس مجموعة الترجمة المبدع العراقي علي الشوك. إن الانتظام في التعليم النظامي يعني الانتظام في السائد والالتزام به واستنكار تجاوزه أي أنه يعني الاستظهار والتكرار والترديد والاجترار أما الإبداع فيعني التوقف عن المسايرة ورْفض الامتثال والخروج على السائد والاتيان بجديد إبداعي غير مألوف إن هذا هو ما كان يؤمن به المبدع الامريكي وليم فوكنر فهو لم يواصل الدراسة النظامية وإنما خلا إلى ذاته وسار منفردًا لأنه يرفض التمدرس ويأبى التنميط ويحسُّ بفرديته النابضة بالحرية فأبدع وطارت شهرته وصارت إبداعاته موضوعات لدراسات واسعة وأطروحات أكاديمية كما نال جائزة نوبل في الأدب. أما الأديب الفرنسي الأشهر اندريه جيد.. فقد نشأ كارهًا للتمدرس نافرًا من التنميط وظَهَرَتْ إبداعاته وهو في العشرين من عمره وظل ثائرًا على القيود المدرسية والاجتماعية والثقافية ومنحته جامعة اكسفورد الدكتوراه الفخرية ثم نال جائزة نوبل ومن شدة نفوره من التنميط والتقييد فإنه يؤكد بوضوح بأن: "القيمة الحقيقية للكاتب هي قوته في المعارضة.. إن الفنان العظيم هو بالضرورة ذو شخصية تختلف عما اعتاد عليه الناس ولا بد له من أن يسبح في مواجهة تيار عصره" هكذا هم المبدعون يسيرون وحْدهم ولا يقبلون الذوبان في المجموع أو الاندفاع مع القطيع دون مراجعة أو فحص أو توقف أمام طوفان السائد. الأديب الألماني الكبير جونتر جراس هو مثالٌ للمبدع العصامي لقد ترك مواصلة التعليم وراح يبني نفسه بنفسه بمهارة وثقة واستقلال حتى صار أشهر كُتَّاب ألمانيا وكما يقول الدكتور محمود السمرة بأن إبداعات جراس: "كانت نقطة تحول انتقل فيها الأدب الألماني من التقليد إلى الأصالة" ورغم الضجة التي أثيرت حوله بسبب مواقفه ضد اسرائيل فقد نال جائزة نوبل في الأدب. إن أصحاب النزعة الفردية الطافرة لا يطيقون البقاء مسمَّرين على المقاعد الدراسية والإنصات البليد لما يقوله الآخرون الذين يرددون إبداع غيرهم وينقلون للدارسين ما أنجزه سواهم فالمبدع الأمريكي جون شتاينبك التحق بالجامعة لكن شغفه بالمغامرة دفعه إلى ترك الدراسة وقد واصل بناء ذاته بذاته فانجلى هذا البناء الذاتي عن قدرات إبداعية تجسَّدَتْ في أعمال طارت في الآفاق فتلقاها النقاد باهتمام واستقبلها القراء بحفاوة وصار مقروءاً في مختلف اللغات فنال جائزة نوبل في الأدب. المبدع التركي أورهان باموك.. التحق في كلية الهندسة لكنه أحسَّ بأنه لم يُخلق ليكون مجرد صاحب مهنة فترك الدراسة وغرق في القراءة واهتمَّ بالأدب والفكر والفن لقد غضب عليه أهله وعارضوا قراره في ترك الدراسة كما استغرب عارفوه أن يتخلى عن مجال مهني واعد فالهندسة مهنة مغرية لكن تفكيره كان مغايرًا للسائد فلم يهتم بآراء الناس ولا بمعارضة أهله فتخلى عن مواصلة الدراسة وتفرغ للأدب وحين اكتظت قابلياته فاضت إبداعًا فنال جائزة نوبل وتُرجمت إبداعاته لمختلف لغات العالم. أديب المكسيك وشاعرها ومفكرها أوكتافيو باث أدرك مبكرًا أن التعليم المدرسي ينمط العقل ويقتل الخيال ويحدِّد مجال التفكير ويُعَوِّد على الانقياد الأعمى فلم يواصل التعليم وإنما استقلَّ بنفسه وأطلق خياله وعقله وطاقاته ليجوب آفاق الفكر والفن والأدب فصار واحدًا من أقدر وأشهر أدباء العالم فنال جائزة نوبل في الأدب وبات معدودًا من حكماء الإنسانية. الأديب الشاعر المناضل التشيلي بابلو نيرودا ترك مواصلة التعليم فلم يلتحق بالجامعة وإنما دخل الحياة الفكرية والأدبية والسياسية مبكرًا فنال جائزة نوبل في الأدب وكان واحدًا من أبرز أدباء القرن العشرين ولكن آلة الغدر اغتالته حين حصل الانقلاب على سلفادور الليندي أو هكذا يقال حيث مات في ظروف غامضة. إن المبدع الأسباني كاميلو خوسيه ثيلا لم يُطق الحجْر التعليمي فقد التحق في كلية الطب ولم يجدْ نفسه فيها فتركها إلى الفلسفة ولكنه ماكاد يبدأ حتى اشتعلت الحرب الأهلية الأسبانية في النصف الأول من القرن العشرين ولما انتهت الحرب سجَّل في كليه الحقوق ولكنه أيضا لم يُطق التقييد فترك الدراسة كليًّا وغرق في القراءة الحرة المتنوعة فأبدع وطارت شهرته ثم نال جائزة نوبل في الأدب فهو في طليعة مبدعي العالم. توماس مان من أشهر أدباء ألمانيا بل من أشهر أدباء العالم.. لقد ترك التعليم القسري مبكرًا وغرق في قراءة ما يهواه ويستمتع به ويميل إليه فلما امتلأت قابلياته فاضت إبداعًا فنال شهرة واسعة وتقديرًا عالميًّا كما نال جائزة نوبل في الأدب. جورج برنارد شو لم يكمل في التعليم النظامي حتى المرحلة الابتدائية ولكن شهرته وتأثيره وإبداعاته قد امتدت إلى كل العالم فهو مبدع وفيلسوف وناشط اجتماعي وسياسي وقد مُنح جائزة نوبل في الأدب لكنه رفض قبولها وكان أول أديب يرفض جائزة نوبل. الأديب البرتغالي خوسيه ساراماغو نشأ فقيرًا فعانى في طفولته وكابد مبكرّا شراسة وقسوة الحياة لكن ذلك لم يمنعه من الاعتماد على نفسه في التعلُّم فبنى نفسه بنفسه بمقدرة هائلة فأبدع وأنجز وصار ذا شهرة عالمية ثم نال جائزة نوبل في الأدب وهنا لا بد من التذكير بالخطأ التربوي السائد الذي يستبعد الأطفال عن الاحتكاك بمشكلات الحياة فينشأون ساذجين مغموسين بالنعومة والهشاشة فيصيرون غير قادرين على تحمل أعباء المسؤوليات أو مواجهة تقلبات الحياة. أديبة السويد سيلما لاجيروف.. لم تتلق تعليمًا نظاميًّا لكن أباها كان عاشقًا للفكر والأدب ودفعه شغفه التلقائي بالمعرفة إلى تكوين مكتبة خاصة ضخمة فعاشت سيلما بين الكتب ونَجَتْ من التنميط المدرسي وسلمت من التحديد الأكاديمي فكوَّنت نفسها تكوينًا حُرًّا رائعًا وفاضت الحصيلة إبداعًا أهَّلها لجائزة نوبل فكانت من أقدم الذين فازوا بها. الروائية البريطانية دوريس ليسيسنج لم تتلق سوى تعليم بسيط لكنهاكانت ذات فردية قوية واستقلال في التفكير فثقفت نفسها بعمق ثم أبدعت فنالت جائزة نوبل في الأدب. الأديب الفرنسي الأشهر أناتول فرانس بدأ مبكرًا في تكوين نفسه بنفسه لذلك تنطبق عليه مقولة (عَلِّمْه القراءة ثم دعه يعتمد على نفسه) فهو لم يتلق تعليمًا يُذْكر وإنما عاش حُرّا واعتمد على نفسه في التعلُّم والتأمُّل فراح يقرأ بنهم ويطلع من غير قيود فأنتجتْ هذه الرحلة المعرفية الحرَّة مفكرًا عميقًا وأديبًا مبدعًا فنال جائزة نوبل في الأدب واحتلَّ مكانة عالية بين المفكرين والأدباء في فرنسا وفي العالم فصار واحدًا من أبرز أدباء العالم في القرن العشرين. المبدع الأمريكي إرنست همنجواي زهد بالتعليم النظامي وكفَّ عن مواصلته لأنه رآه يعوقه عن الانطلاق الحر فعمل مبكرًا في الصحافة وغامر كمراسل حربي ثم اتجه إلى الإبداع القصصي والروائي وأنجز إبداعات لفتت إليه الأنظار وجعلته من أبرز مثقفي العالم ثم نال جائزة نوبل. الأديب الكولمبي الشهير جابرييل جارثيا ماركيز التحق في كلية الحقوق لدراسة القانون لكنه تخلَّى سريعًا عن مواصلة الدراسة النظامية وأطلق العنان لعقله وخياله وطاقته فمارس الكتابة الصحفية ثم انهمك في الإبداع الروائي فنال شهرة عالمية وصار في طليعة المبدعين العالميين ثم نال جائزة نوبل في الأدب فشهرته سبقتْ الجائزة. إن المطلعين يعرفون بأن هيرمان هيسَّه من أشهر أدباء العالم وكما قال أحد النقاد: "يُمَثِّل هسَّه قمةً من قمم الثقافة الألمانية على مر العصور كأديب وفنان تشكيلي أيضا" ثم يقول: "لم يتلق هسَّه تعليمًا مدرسيًّا ولكن عالم الكتب و المعرفة جذبه باكرًا" ومن نصوصه المعبِّرة عن فلسفته قوله: "ينتُج الشعور باليأس عندما يسعى الإنسان أن يَعْبُر حياته آخذًا مُثُلَ الفضيلة والعدالة وتَفَهُّم الآخرين بجدية مفْرطة ومحاولاً تطبيق هذه المُثُل على سلوكه اليومي فتكون مكافأته في النهاية أن يصبح مُفْرطا في نقطة الضمير هذه تتملكه مشاعر اليأس من كل مَنْ حوله ويعيش خلف جدار عالٍ.. في تلك الأثناء يبقى كل الآخرين على الجانب الآخر أطفالاً " لقد منحته جامعة برن في سويسرا دكتوراه فخرية وفاز بعدد من الجوائز في ألمانيا وفي سويسرا كما مُنح وسام الشرف في العلوم والفنون في ألمانيا ثم مُنح جائزة السلام للكتاب الألماني كما نال جائزة نوبل في الأدب. المبدع الصيني مو يان.. لم ينل تعليمًا نظاميًّا يُذكر وإنما أبْحر وحده في محيطات المعرفة وأمعن التجديف في بحار الأدب والفكر والفن ففاض إبداعًا جعله في طليعة أدباء العالم فرغم العزلة التي كانت تعيشها الصين فإن العالم قد انتبه لهذا المبدع فتُرجمتْ إبداعاته إلى مختلف اللغات الأوروبية والعالمية ثم نال جائزة نوبل في الأدب. إن الإبداع في القصة القصيرة يُعَدُّ من أصعب وأدق فنون الإبداع فالقدرة على تكثيف حدث عادي واستخدام الكلمات لتجسيد حالة إنسانية عادية بصورة إبداعية مثيرة وممتعة هي قدرة نادرة وتتطلب استعدادًا استثنائيًا ومرانًا طويلا وهكذا كانت أليس مونرو القاصة الكندية التي علَّمت نفسها فصارت كما قيل: "أفضل مَن كتب القصة القصيرة في العالم" لقد استحقت التمجيد كما نالت جائزة نوبل في الأدب. الكاتب المسرحي الشهير يوجين أونيل الذي يوصف بأنه مبدع المسرح الأمريكي وبأن هذا المسرح وُلد على يديه كان متململاً من التعليم النظامي فلم يتحمل أن يواصله في أي مجال تعليمي فتنقَّل ولم يستقر في أي اتجاه ثم انصرف عنه واعتمد على نفسه لقد قرأ بشغف إبداعات النرويجي سترندبرج وتأثَّر به بقوة كما قرأ نيتشه وغيره من الفلاسفة والمبدعين لقد انطلق يقرأ في الفكر والأدب والمسرح دون قيود ولا حدود وهكذا علَّم نفسه فأنتج بغزارة وأبدع بمستوى رفيع استحق عليه أن يُعَدَّ من أهم رواد المسرح في العالم ومعلومٌ أن المسرح من أرفع الفنون وأقواها تأثيرًا وقد نال أونيل جائزة نوبل في الأدب. هنريك بونتو بيدان.. مبدعٌ من الدانمارك التحق في كلية الهندسة لكنه وَجَدَ أن التقييد التعليمي لا يناسبه فتخلى عن مواصلة الدراسة وتفرغ للأدب وقد وُصف بأنه: "كاتب متمرد" على القيود إنه يعشق الحرية لنفسه وللآخرين كما أنه كان ينشد العدالة للناس أجمعين وقد عبَّر عن أفكاره في أعمال إبداعية قصص وروايات كما عبَّر عنها في مذكرات ضخمة تقع في أربعة أجزاء بعنوان (في الطريق نحو ذاتي) ونال جائزة نوبل في الأدب. جراتسيا ديليدا.. مبدعة إيطالية لم تتلق تعليمًا منتظمًا ولكنها عشقت القراءة فشغفت بالأعمال الإبداعية لمبدعين من مختلف الأمم فاستوعبت إبداعات تولستوي ودوستويفسكي وغيرهما من الأدباء الروس كماشغفت بإبداعات هيجو وبلزاك وغيرهما من الأدباء الفرنسيين فنمت لديها القدرة الإبداعية كما نما عندها الحس الإنساني الرفيع وكانت تتطلع إلى ارتقاء الإنسان في تفكيره وسلوكه وعلاقاته وأخلاقه وأفرغت كل ذلك في سيل من القصص والروايات فصارت من أغزر المبدعين إنتاجًا فنالت جائزة نوبل في الأدب. كارل شبتلر.. مبدع سويسري.. علَّم نفسه فصار شاعرًا وكاتبًا وصحفيًّا وروائيًّا ومبدعاً في مجال القصة القصيرة لقد تنوعت إبداعاته فنال جائزة نوبل في الأدب. المبدع الفرنسي كلود سيمون.. لم يواصل تعليمه.. لقد اتجه للرسم في البداية ثم تحول إلى الأدب فأبدع بغزارة ونال جائزة نوبل في الأدب. بوريس باسترناك.. أديبٌ روسي شهير كان يضيق بالتنميط ويأنف من التقييد فاتجه في البداية لدراسة الموسيقى ثم انصرف عنها إلى الفلسفة لكنه لم يستمر في الجامعة سوى بضعة أشهر ثم تركها وتفرغ للإبداع الأدبي فنال جائزة نوبل في الأدب. الأديب النرويجي كنوت هامسون.. عاش عُسْر الحياة وشقاء الفقر فلم يتلق تعليمًا لكن الشقاء أنضجه مبكرًا فَثَقَّفَ نفسه وأبدع وجاءت روايته عن (الجوع) في قمة إبداعاته فنال جائزة نوبل في الأدب. كارل جيلروب.. أديبٌ من الدانمارك.. ثَقَّفَ نفسه بشغف فتأثر كثيرًا بالفيلسوف الألماني كانط والفيلسوف الانجليزي سبنسر والألماني شوبنهاور وغيرهم من عمالقة الفكر والأدب فنال جائزة نوبل في الأدب. إن الحيِّز المتاح للمقال لا يتسع للمزيد من الأسماء فنختم بالمبدع الروسي إيفان بونين.. فهو مبدعٌ لم يتلق تعليمًا منتظمًا وإنما ثَقَّفَ نفسه فصار في طليعة المثقفين الروس كما صار في مقدمة المبدعين العالميين فنال جائزة نوبل في الأدب. وهكذا يتضح أن الإبداع شأنٌ مختلف كليا عن الشهادات الدراسية مهما علَتْ إن حامل الشهادة قد يبدع ولكن بانفصال عن التنميط الذي خَضَع له طوال ربع قرن أو يزيد إن الفرد قد يواصل التعليم الاضطراري حتى النهاية ثم يفيق فيدرك أن لديه قابليات عظيمة وأنه ليس مجرد كائن مهني فيندفع لإعادة بناء ذاته إلى أن يتدفَّق إبداعًا.