حين يُذكَر البحَّارة الذين تبدَّلَتْ حياتهم تبُّدلات جذرية فانتقلوا من عُمَّال كادحين يتعايشون مع أمواج ومخاطر البحار ومشاق العمل العضلي إلى مبدعين عالميين تفيض تلقائيتهم بأعذب الأساليب وأنضج الأفكار وأشد الإبداعات تشويقاً وإثارة سوف تظل الدنيا تتحدث عنهم وعن إنجازاتهم الإبداعية الباهرة والخالدة يأتي في مقدمتهم جوزيف كونراد وهرمان ملفل وحنَّا مينة... إن جوزيف كونراد لم يواصل التعليم النظامي وإنما واجه صعوبات الحياة مبكراً فأنضجتْه أيَّما إنضاج وعلَّم نفسه ذاتيًّا باهتمام تلقائي قوي مستغرق، فنجا من التأطير الأيديولوجي القامع وتَحَرَّر من التنميط المدرسي المغلق، فبقي منفتح القابليات متنوع المعارف متوثب الفكر. ا يصح أن يعتمد التعليم على إعطاء المعلومات بل لابد أن يعتمد طرح التساؤلات واستنفار القابليات وتأكيد البدائل والخيارات والتوجيه غير المباشر نحو مظان الإجابات وغرس الثقة والمسؤولية في الدارسين لكن التعليم في كل العالم مازال بعيداً عن هذا التحول الضروري فبقي سائراً في الطريق الخطأ على تفاوت شديد في درجات هذا الخطأ في أنظمة التعليم في العالم لقد كان نتاج ذاته فانطلق في الآفاق دون كوابح معيقة ولا مسلَّمات حاجزة فصار مبدعاً عالميًّا تهتم به الدنيا ويستمتع بإبداعاته القراء من كل اللغات.. إن هذا المبدع العالمي يمثل نموذجاً لظاهرة إنسانية لافتة تستحق أن تصير موضوعاً لدراسات علمية واسعة وعميقة بقدر ما هي محل اهتمام النقاد كظاهرة إبداعية وفكرية فهو ليس فريداً في الظاهرة الإبداعية وإنما يتكرر أن يظهر المبدعون من الأفراد الذين لم يخضعوا للتنميط المدرسي والأكاديمي فخلال سنوات تابعتُ وتتبعتُ حركة الإبداع في كل المجالات في آلاف المراجع وعند مختلف الأمم وعلى امتداد العصور فوجدتُ هذه الظاهرة شديدة البروز بشكل يضع ألف علامة استفهام حول ضرر التعليم الاضطراري وما ينجم عنه من إغلاق للقابليات وإطفاء للتساؤلات فلا تَعَلُّم إلا بتوفر حرارة الاندفاع التلقائي النابع من رغبة جامحة متجددة أو حاجة ذهنية وعاطفية ملحة.. إن هذه الظاهرة البارزة تؤكد تلقائية الإنسان وأنه يجب أن يستثار لتتفاعل وتنفتح قابلياته أما من دون هذه الاستثارة وتأكيد المسؤولية الذاتية ومن غير الطلاقة والمرونة وعدم التحديد فسوف يبقى التعليم عقيماً بل شديد الضرر لأنه يغلق القابليات ويطفئ الإثارة التلقائية.. وليس المبدع العالمي جوزيف كونراد سوى مثال يشهد على تأكيد ارتباط التعلُّم الناجع والإبداع والإنجاز بالاندفاع التلقائي فقد وثَبَ بعد سنوات طويلة من عامل كادح يستخدم عضلات جسمه، ومغامر يواجه المخاطر، ومستثار راغب مستمتع فوق ظهر سفينة تتدافعها الأمواج العاتية إلى مبدع مدهش يستخدم كفايات عقله بمهارة عالية في مجال مختلف كليًّاً بينما ملايين الناس من مختلف الشعوب يقضون أعمارهم في التعلُّم الاضطراري وتكون نهاية محصولهم محاولة ترديد واستخدام بقايا مالم يمحه النسيان مما حصَّلوه من معلومات فيأتي الاستخدام كليلاً متعثراً كأصداء باهتة لإنجازات المبدعين فيبقون في أحسن الحالات في مستوى مستخدمي المعلومات أو المعرفة أو ناقليها ومردديها وليسوا في مستوى منتجيها أو المبدعين في مجالات الفكر والعلم والأدب والاختراع والاقتحام والريادة.. إن الشعوب دفعت وما زالت تدفع ثمناً باهظاً على التعليم منذ أن جرى تعميمه فصارت الشهادات الدراسية معياراً للكفاية المهنية ومَدْخلاً لابد منه للوظيفة والعمل وتأمين الرزق. إن مئات الملايين من الصغار والكبار في مختلف بلدان العالم ينتظمون فيه منذ بلوغهم السادسة من أعمارهم ويظلون يواصلون الدراسة غالباً بملل وتأفُّف وعُسْر قرابة ربع قرن وربما أكثر في بعض الحالات ورغم طول المدة وضآلة النتائج فإن العالم لم يجد وسيلة أخرى كمعيار للكفاية أو التأهيل ومن هنا فإن نظرية التلقائية تقترح تجاوز هذا الكلال باعتماد مبدأ عدم التحديد ومبدأ المسؤولية الفردية ومبدأ الإثارة ومبدأ المبادرة كعوامل أساسية لابديل عنها للتعلُّم الناجع... إن شواهد لاحصر لها ودراسات مستفيضة في كل العالم تؤكد بأن التعليم يسير في اتجاه مضاد للطبيعة البشرية وكما قال الناقد الانجليزي الشهير السير هربرت ريد :(بأن تقاليد التعليم والمحيط الإجتماعي قد أعاقت النبوغ لدى أبناء هذا العصر وكبَتْتْه) وهذا النقد الحاد موجَّهٌ للتعليم في المجتمعات المزدهرة ذات الثقافات المفتوحة أما أوضاع التعليم في الثقافات المغلقة فهي أوضاعٌ مأساوية فالنتائج تأتي في مستوى الفجيعة... إن الإنسان كائنٌ تلقائي فهو لايستسيغ ما يُفرض عليه فرضاً ولا يتمثَّل ذهنه ما يضطر إليه اضطراراً فتكوين الذات تكويناً مفارقاً للتلقائية البليدة لايتحقق إلا بوثبة قوية كافية تنعتق بها الذات من الانتظام التلقائي الأعمى في السائد لتبدأ الانطلاق في تكوين الذات تكويناً إبداعيًّاً مستقلاً. إن هذا الانعتاق الذهني من الانتظام التلقائي لايأتي اختياراً وإنما يبدأ باستثارة صادمة غير عادية فيبدأ الفرد يبحث باندفاع قوي في مجال الإشكال فيستغرق فيه إلى أن تهدأ نفسه إن هذا الاستغراق المتوقد الذي هو الشرط المبدئي لتتفتَّح قابليات الذات للاستقبال والتمثُّل ولتتكامل طاقاتها للتدفق والعطاء لايأتي بالإلزام وإنما هو ثمرة ظروف ملائمة مرنة ومفتوحة ومثيرة تتنافس فيها الأفكار المتعارضة وتتجادل فيها الاتجاهات المختلفة تَستنفر العقل وتستفز العواطف وتنفتح بها القابليات وتتفاعل بها الطاقات فالأصل في قابليات الإنسان أنها تتبرمج تلقائيًّاً في الطفولة من دون اختيار فتتطبَّع الذات بهذا التبرمج ثم لاتتقبَّل المغاير له إلا في حالات استثنائية نادرة لايكون انفكاكها من التطبُّع اختياراً وإنما هو بمثابة انكسار للتلقائية وانفكاك الفرد من الانتظام التلقائي فيندفع في آفاق الاستقلال والتفرد... إن الإنسان يتبرمج بما ينضاف إليه تلقائيًّا أو بما يندفع إليه تلقائيًّا أما إذا اضطر إلى تجرُّع موادَّ دراسية وهو لايشعر بالميل إليها ولا يحس برغبة جارفة نحوها فإنه يتحيَّن الفرصة للانعتاق منها وكما يقول المبدع الناقد تشالز مورجان: ((نحن (الكتَّاب) عنيدون فدروسنا المدرسية وكتبنا المدرسية ومكافآتنا وعقوباتنا المدرسية لاتكاد تعنينا آخر الأمر قد نوجِّه عيوننا إلى المُدَرِّس ولكن مانريد في أعماق قلوبنا أن نعرفه هو العالم خارج هذا الفصل الدراسي فالشخص الذي نحبه ونذْكره ليس هو ذلك الذي يرمينا بتخطيطه المتْرب لما يعتبره الحقيقة العليا ولا هو ذلك الذي يرسم خريطة السماء على السبورة ويصبُّ علينا سوط العذاب بل هو ذلك الذي يزيح الستار عن نافذة الفصل ويَدَعُنا نرى سماءنا نحن بعيوننا نحن وتمكين البشر من هذه الرؤية هو ما أعتقده وظيفة التربية الحقيقية )). فلا يصح أن يعتمد التعليم على إعطاء المعلومات بل لابد أن يعتمد طرح التساؤلات واستنفار القابليات وتأكيد البدائل والخيارات والتوجيه غير المباشر نحو مظان الإجابات وغرس الثقة والمسؤولية في الدارسين لكن التعليم في كل العالم مازال بعيداً عن هذا التحول الضروري فبقي سائراً في الطريق الخطأ على تفاوت شديد في درجات هذا الخطأ في أنظمة التعليم في العالم غير أنه بوجه عام لازال العالم غير قادر على تجاوز حالة الضياع في الأعمار والاستنزاف للأموال والهدر في الطاقة البشرية والهزال في النتائج لأنه لم يتعامل مع الإنسان على أنه كائنٌ تلقائي وأنه لا يتفاعل في ذاته ولا يؤثر في تكوينه إلا ماتسلَّل إلى قابلياته تسلُّلاً بالبرمجة التلقائية أو بالإثارة والاندفاع الذاتي التلقائي... إن التجليات الإبداعية في كل المجالات وعند مختلف الأمم تقيم ألف برهان على أن الطبيعة التلقائية للإنسان هي التي تتحكم به إيجاباً وسلباً فالعلم لايمكن حقنه في الأذهان وإنما أقصى مايمكن هو تهيئة البيئة لإيقاظ العقل وإثارته ثم الاستجابة لما تنجلي عنه الاستثارة من ريادات إبداعية وكما يقول تشالز مورجان : ((ليس لنا أن نفرض آراءنا على الفنان .. من حقه (الفنان) أن يُعَبِّر عن آرائه لكن الويل له إن لم يتجاوز فنُّه تعليمَه ويحمله بعيداً عنه )) فالتعليم في كل العالم هو ترديد للجاهز من العلوم والفنون واستخدامٌ رتيبٌ وممل لما هو متوفر من الإنجازات الإبداعية فالذي يقف عند هذا المستوى لايمكن أن يكون مبدعاً ولا أن يقدم أية إضافة وإنما هو واحدٌ من المرددين أو المنشدين فالمعلِّم في المدرسة هو في الغالب يشبه مأمور المبيعات أو موظف التسويق إنه يحاول تقديم معلومات أنجزها مبدعون في مختلف المجالات إلا أنه غالباً أقل حماسة من مأمور المبيعات وأكثر رتابة أما المعلمون والأكاديميون المبدعون فلم يكن إبداعهم نتاج الوضع التعليمي أو الأكاديمي وإنما هي خصائص فردية بل إن انشغال الأكاديمي بالواجبات الوظيفية يستنزف طاقته ويشغل وقته ويستغرق اهتمامه ما يحرمه من الانطلاق الإبداعي حتى لو كان يملك قابليات إبداعية... ومع أن هذا المبدع العالمي الذي علَّم نفسه (كونراد) كاتبٌ شديد التأثير فكريًّا رفيع المكانة إبداعيًّا واسع الانتشار عالميًّا يقرؤه المعجبون الكثيرون من الأدباء والفلاسفة والعلماء في كل اللغات، وينشغل بدراسته الباحثون والأكاديميون في مختلف الجامعات ويستمتع بقراءته عامة القراء من مختلف الأمم وتُترجم إبداعاته إلى معظم لغات العالم إلا أنني لا أكتب عنه لهذا السبب وإنما أكتب عنه لتأكيد بعض الأفكار والنظريات التي توصَّلتُ إليها فهو نموذجٌ لعبقرية الاهتمام التلقائي كما أنه شاهدٌ لنظرية أن (الإنسان كائنٌ تلقائي) فهذا المقال لن يضيف الكثير لجوزيف كونراد فأمامي مئات المراجع تتحدث عنه فمثل هذا المقال لن يأتي بإضافة مهمة للتعريف به فهو معروف بامتياز وشهرته تطبق الآفاق ويكفي أن نعلم أنه قد فَتَنَ بإبداعاته الفذَّة فيلسوفاً كبيراً مثل برتراند راسل وهو الذي من النادر أن يعجبه أحد فما أندر من ينال إعجابه لكنه وَجَدَ في كتابات كونراد ماشدَّه إليه وأوجد فيه رغبة قوية بأن يلتقيه فقد قرأ جميع رواياته وقصصه وكل ماكتبه قراءة دراسة وتمعُّن واستمتاع لقد قرأه بفتنة وإعجاب واستيعاب فظل سنوات وهو يرغب في لقائه لكنه كان متهيباً من اللقاء إلا بوسيط يُعَرِّفه عليه وعن ذلك يقول : (تعرَّفت بجوزيف كونراد عن طريق صديقتنا المشتركة الليدي أتولين موريل وقد كنت معجباً بكتبه ولكني لم أكن أجرؤ على التعرف به دون أن يقدمني أحدٌ إليه وكان أول انطباع تركه في نفسي هو الدهشة فقد كان يتكلَّم الإنجليزية في لكنة أجنبية واضحة للغاية). ويقول راسل أيضا : (كانت علاقتي بجوزيف كونراد تغاير أية علاقة تربطني بأي إنسان آخر كنا نتقاسم نظرة معينة للحياة الإنسانية وللمصير البشري نظرة ربطتْنا منذ البداية بوشائج متينة للغاية). إن مبدعاً استطاع أن يستحوذ على إعجاب هذا الفيلسوف الكبير الذي من الصعب نيل إعجابه لهو إنسانٌ استثنائي ولن أحتاج إلى قول أكثر من ذلك لأشير إلى ظاهرة إنسانية أخرى مهمة فرغم أن لغة كونراد الأُم هي اللغة البولندية ورغم أنه غادر بولندا في نهاية مرحلة الطفولة فعاش في وسطٍ انجليزي معظم سنوات عمره إلا أن تلقائية الإنسان تستبقيه محكوماً بالأسبق إلى قابلياته فقد تشرَّب اللغة البولندية تشرُّباً تلقائيًّا أما اللغة الإنجليزية فقد تعلَّمها تعلُّما ورغم المعايشة الطويلة والجهد الخارق لإتقان اللغة الإنجليزية والتكيف معها إلا أنها بقيتْ غريبة عليه رغم أنه كاتبٌ مبدع فاللغة هي أداته لتكوين ذاته وللتعبير عنها فهو غارقٌ في اللغة طول وقته وهنا يظهر الفرق بين ما هو ذائب في الذات، وما هو ملصَق إلصاقاً مهما بلغت قوة التثبيت.. إن جوزيف كونراد بولندي الأصل فهو مولود في بولندا ومن أسرة بولندية وأمضى مرحلة الطفولة كلها في بولندا ثم تعلَّم اللغة الإنجليزية خلال عشرين عاماً من العمل بحَّاراً في الأسطول التجاري البريطاني ثم حصل على الجنسية البريطانية وعاش في بريطانيا كل عمره تقريباً فصارت اللغة الإنجليزية هي لغة الحياة ولغة القراءة ولغة الإبداع وكَتَبَ فيها كل إبداعاته وعاش مع هذه اللغة الطارئة عليه مجموع عمره باستثناء فترة طفولته ومع ذلك بقي يتكلمها بنبرة نافرة تدل على أنه طارئ على اللغة الإنجليزية وأنه بقي أجنبيًّا لغويًّا في بريطانيا.. إن هذه الواقعة بدلالتها القوية تقوم شاهداً قويًّا على أن الإنسان كائنٌ تلقائي وأن الأسبق هو الذي يحتلُّ قابلياته فيصوغ عقله وعواطفه ولسانه ويبقى مشدوداً إلى المكان الذي أمضى فيه طفولته مهما كان قاحلاً ومحروماً من مقومات الحياة... إن الإنسان يولد بقابليات فارغة جاهزة لاستقبال أية مؤثرات تتشكل بها.. إن هذه التلقائية المفتوحة تهيئه لأن يصوغه الأسبق إليه فيتحكم بعقله وعواطفه ولغته ولهجته وآليات تفكيره فرغم أن جوزيف كونراد خُلق محبًّا للمغامرة عاشقاً للمجهول مقداماً في أفكاره وأعماله وأنه قد عاش كل عمره في بيئة بريطانية باستثناء مرحلة طفولته إلا أنه رغم كل ذلك ظل يشعر بالغربة اللغوية والثقافية والمكانية، وكانت أحاديثه وإبداعاته وكتاباته تنطق بهذه الغربة فبقي يلازمه طول عمره إحساسٌ عميق بأنه مجتَثٌّ من بيئته ومغروسٌ في بيئة غريبة عليه وهذا يحمل دلالة أخرى عميقة بأن الإنسان محكومٌ بالأسبق، وأن تحريره من هذا الأسبق هو بمثابة الاقتلاع التام وإعادة التكوين وكما يقول براتراند راسل : (والشيئان اللذان يبدو أنهما يشغلان كونراد أكثر من أي أمْر آخر هما : الوحدة والخوف مما هو غريب ولَكَم عجبتُ لمقدار ما كان كونراد نفسه يشعر به وهو يعيش بين الانجليز من وحشة يحس بها هذا الرجل والتي كان يكبتها بجهد إرادي صارم). إن إحساسه الشديد بالغربة وقدرته الهائلة على تجسيد هذا الإحساس بأدب رفيع وإبداع باهر هما اللذان شدَّا إليه المفكر الفلسطيني ادوارد سعيد فقد اهتم به اهتماماً شديداً ونال درجة الدكتوراه من جامعة هارفارد بأطروحته عن (جوزيف كونراد ورواية السيرة الذاتية)، وقد ظل ادوارد سعيداً معجباً أشد الإعجاب بهذا المبدع وبقي يواصل التذكير به ولفت النظر إليه وتكرار الكتابة عنه وإبراز الرابطة القوية التي شدَّتْه إليه وربطته به وفتنته بإبداعه فصار محوراً أساسيًّا من محاور اهتمامه... إن الإنسان بطبيعته يحسُّ بالغربة إذا كان في غير المكان الذي ولد فيه وأمضى فيه طفولته فهو يَحنُّ إلى أجدب البقاع وأغبر الصحاري وأشدها قَتامًا وفقراً ويعود من الخصب والغنى والوفرة ويهجر بيئة الرخاء ويزهد بتجليات الحضارة ولايغريه بالبقاء تدفق الأنهار وتعانق الأشجار ووفرة الاخضرار فيعود إلى بيئته الجدباء لمجرد أنها كانت هي الأسبق إلى قابلياته الذهنية والعاطفية فبقي مشدوداً إليها : كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل بهذا الجامع وجَدَ إدوارد سعيد نفسه منجذباً إلى كتابات جوزيف كونراد وكما يقال دائماً : فَكُلُّ غريب للغريب نسيب ومن هنا قامت تلك العلاقة الفكرية المتينة بين كونراد وإدوارد سعيد الذي عبَّر عن هذا الانجذاب مراراً كقوله : (حين تقرأ كونراد تشعر بثقل الإحساس بالاقتلاع وعدم الاستقرار والغربة لا أحد يستطيع أن يصور مصير الضياع والخسران مثله). ويقول في مكان آخر : (لقد شعرت أول مرة صادفت فيها عمل كونراد أنني وبصورة من الصور لا أقرأ قصتي الشخصية فقط بل أقرأ قصة مكتوبة من كسر من حياتي رُتِّبَتْ معاً بطريقة آسرة تستحوذ على المشاعر وأنا إلى الآن عالقٌ بشبكته منذ ذلك الحين أظن أن كونراد ليس فقط كاتباً عظيماً للقص بل هو كاتبٌ عظيم للحكايات الرمزية ذات المغزى الأخلاقي . إن لديه نوعاً محدَّداً من الرؤية تزداد قوة وكثافة في كل مرة أقرأه فيها) إنها المواهب السخية حين تستثار لكن ملايين الناس من كل الأمم مغتربون وكثيرون منهم نالوا شهادات عليا يعيشون اغتراباً شديد التعقيد فهم غرباء في المكان وغرباء في الثقافة يعيشون في بيئات تختلف عن بيئاتهم في الثقافة واللغة والعادات والأديان ولكن هذا الوضع المثير لم يجعل منهم مبدعين فالغربة عاملٌ إبداعيٌّ حين يعيشها مبدعٌ أما الملايين من الغرباء فيبقون يجترون آلامهم من غير أن يستطيعوا تحويلها إلى نصوص إبداعية ولو عاش كونراد في وطنه أو في أي وطن آخر فسوف يجد عوامل أخرى كثيرة مثيرة لقابلياته الإبداعية فهو مستثارٌ وذو شخصية مغامرة إضافة إلى مواهبه السخية فهو سيبدع أينما عاش ومهما اختلفت الظروف ومهما تنوعت البيئات ومهما تغيرت عوامل الإثارة.. ibrahimalbleahy.com Twitter @IbrahimAlbleahy