الاختلاف فضيلة، والاختلاف سنة كونية، والاختلاف سمة للمجتمعات البشرية تختزل بداخلها سنة التدافع. فلنختلف ونرفع بيارقنا على مضاربنا خضرا، وراياتنا فوق حمانا حمرا، ولكن شرط أن نتشارك المرابع والكلأ كحق وطني مشترك لا يستأثر به أحد دون الآخر. فلنختلف ولكن في آخر النهار نلوذ بيقين يخبرنا بأن الألقاب التصنيفية والجهوية هي فضيلة وثراء تختزل تنوع شعابٍ جميعها تصب في أودية الوطن. أعرف أن ما أسلفت قد يكون مغرقاً في مثاليته لأن التصنيف هو جزء من مكون الهوية، فمن خلال تصنيفي للآخر أتعرف على نفسي وخصائصي، وأنا فطرت كإنسان أن ألوذ بجماعة تشبهني وتمثلني، لذا تبدو سنة التعايش والتسامح والقبول بالآخر ليست بالأمر السهل، وتحتاج أشواطا طويلة من التمدن والتحضر، ولكنها ايضا في نفس الوقت ليست حلما بشريا مستحيلا بدليل أن بعض المجتمعات حققتها، أو على الأقل سنت قوانين دستورية تحميها من الطفرات العنصرية المباغتة التي قد يمر بها المجتمع لظرف تاريخي وسياسي معين، وتحافظ عليها أيضا من المتطرفين غير الأسوياء، والمنحرفين نفسيا والموجودين في كل مجتمع. قوانين تحتوي وتحمي تراكم التمدن البشري في التعايش المتسامح، والانغمار في المنجز الانساني تحت مظلة من عدالة مشتركة. المقدمة السابقة لطالما ذكرتها في مقالات سابقة أو لربما أمر مقارب لها، وسأظل أكررها كلما تعثرتُ ببؤر العفن من التعصب المذهبي والمناطقي والنوعي.. تلك التي باتت متناثرة على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل بشع ومستفز. فآخر ما سمعت هو مقطع لأحدهم تبدّى لي وأنا أتابعه بأنه قد انتفخت أوداجه، وبرزت عروقه بينما هو يزعق بأقصى طبقات صوته وكأنه ينادي الناس إلى النفير أو الهجوم، ولكنه بدلا من هذا كان يؤلب ضد مواطنين من أصحاب مذهب معين، ويتهمهم بالسيطرة على المستشفيات، وبأنهم يخضعون لأجندة خارجية، وأنهم طابور سري خامس هدفه الإضرار بالمواطن وأمنه!! أول سؤال تبادر إلى ذهني بعد أن انتهيت من سماعه هو أين الدوائر الأمنية عن مثل هذا الطرح ؟ أين قوانين الجرائم المعلوماتية ؟ لأنه كان ينثر اتهامات خطيرة وأحكاما بالإعدام ضد مواطنين آمنين، دون أدلة ثبوتية ودون براهين، ودون محاكمات فقط مجموعة من الأفكار التي مهمتها إثارة الفتن والقلاقل والاخلال بالأمن الاجتماعي. ذلك المقطع وصل إلى (الواتس أب) وهي وسيلة التواصل المواربة نوعا ما عن المراقبة، ولكنها في نفس الوقت سريعة الانتشار، مستهدفاً بها العامة والبسطاء عبر استثارة مشاعرهم المذهبية والدينية ليهرولوا خلفه كالقطيع، في مشهد يظل تاريخنا يكرره (المؤرخ الإسلامي الكبير الطبري دفن خلسة حتى لا يُستهدف قبره، بعد أن اتهم بالتشيع لآل البيت). هذا التحريض على القتل واستهداف طائفة مواطنة تعيش هنا منذ آلاف السنين ماذا يعني ؟ ماذا يعني أن تدس في يد مجنون قنبلة وتوارب له الباب؟ ماذا يعني إشعال فتيل فتنة لن يخمد أوراها على المستوى الوطني والإقليمي؟ في الولاياتالمتحدة، جماعات (الكلان) العنصرية موجودة، ولها أتباعها، ولكن في نفس الوقت موجود معها قوانين دستورية تجرم أي مظهر عنصري ضد الآخرين سواء بالزي أو اللفظ أو الفعل فهو من شأنه أن يقود إلى محاكمات قضائية وعقوبات صارمة. لذا فالعنصرية والتطرف موجودان في كل المجتمعات، ولكن أيضا لابد أن يكون هناك معهما قوانين وأنظمة تردعهما وتأخذ على يد المتطرفين، وتحمي المجتمعات الآمنة المتحضرة منهما. فلنختلف ولكن لنتعايش فالوطن.. للجميع.