التعايش في الإسلام من القيم والمبادئ الأصيلة للأمة، فلواء التوحيد يجمع الملة ويكفيها الفتنة، وما اختلاف المذاهب إلا من السنن الماضية التي لا يترتب عليها في السياق الديني الموضوعي تشرذم الناس واختلافهم حد الجفاء والفصام، وهو الوضع السائد منذ قرون مضت بين الفرق والمذاهب ما يجعل ذلك أشبه بالاحتراب ورفض الآخر وإنكار حقوق ه الدينية بما يجعله منبوذا ومغتربا عن الدين، وإزاء ذلك ظهرت فكرة التعايش مرادفا للتقارب في محاولة للمقاربة الفكرية التي تفضي إلى أخرى على أرض الواقع والنفوس ويستقر معها حال الجميع مكانا وزمانا. الكاتب محمد محفوظ يؤكد بداهة: «أن الحوار الذي نتطلع إليه في داخل وطننا وفي عموم الأمة، هو الذي يتجاوز نمط السجالات المذهبية والتراشق بالاتهام والاتهام المضاد، إلى خلق مساحات وآليات للتعايش والتبادل على نحو إيجابي وبناء». ويقول: «لا بد أن يتذكر الجميع أن بث الكراهية تجاه المختلف والمغاير، لا يزيد الذات قوة بل يعريها من العديد من القيم والمضامين الإنساني ة، كما أن الخوف من الآخر والنفور منه لا يحصن الذات ولا يبقيها بعيدا عن المخاطر والتحديات، بل التواصل والانفتاح وتوسيع المساحات المشتركة بين مختلف التعبيرات والمكونات هو السبيل الذي يضمن حقوق الذات والآخرين، ويجنب الجميع مخاطر الفتنة والاحتراب الداخلي». هيئة وطنية للتعايش يستطرد محفوظ: «يبدو لي أن من أهم مداخل تحقيق مفهوم التعايش في مجتمعنا، هو فك الارتباط بين الاختلافات المذهبية بكل مستوياتها ودوائرها وحقوق الإنسان وضرورة صيانتها ومنع التعدي عليها، فالاختلافات أيا كان حجمها وشكلها وعمقها لا تبرر لأي أحد أن يتعدى على حقوق الآخرين ويمارس بحقهم صنوف التهميش والتمييز». ويصل إلى استخلاص: «أرى أن هذه البيئة، ه ي بيئة التعايش التي تضمن حقوق الجميع دون تعسف وافتئات، ولكي نفك الارتباط بين شرعية الاختلاف في الدائرة الإنسانية وصيانة حقوق الإنسان، فالاختلاف لا يشرع إلى الامتهان، كما أن التمايز في الدين أو المذهب أو القومية، ليس سببا لممارسة الظلم والعدوان عليه، من هنا فإن كل الأطراف بحاجة إلى أن تفحص نفسها، وتطهرها من كل الأدران والرواسب التي تحملها في الرؤية والموقف من الآخر». ويتجه محفوظ إلى فكر ة أساسية يتضمنها جوهر مفهومي التعايش والتقارب: «تبقى المواطنة بحقوقها وواجباتها وفضاءاتها العميقة هي الحقيقة التي تحمي مشروع التعايش وتوفر له كل أسباب المنعة والعزة، فالانتماءات المذهبية أو القبلية ليست بديلا عن حضن ووعاء المواطنة، وإننا ندعو في هذا السياق أن يحترم كل إنسان خصوصياته الثقافية والمذهبية، ولكن ليس من أجل العزلة والانكفاء والانحباس في هذا الإطار، وإنما من أجل أن تتوافر كل الظروف والشروط التي تسمح لكل الخصوصيات لكي تمارس دورها في إغناء مفهوم المواطنة وتعزيز وحدة الوطن وعزته، وديناميكية الحوار والوحدة والتواصل ، هي ديناميكية الإصرار على تجاوز كل محن الواقع وصعوباته ونماذجه المنحدرة من الصراعات والتوترات والنزاعات». وينتقل برؤيته إلى دعوة جديدة: «إننا ندعو اليوم وعلى ضوء تطورات المنطقة، إلى تأسيس هيئة وطنية لقضايا الوحدة والتعايش بين المواطنين، تأخذ على عاتقها التعريف بقيم الوحدة والتعددية والتسامح والتواصل والحوار بين مختلف المكونات والتعبيرات، وإجهاض كل المحاولات التي تستهدف إذكاء النزاعات الطائفية والمذهبية». احتقان طائفي الكاتب عبدالله اليوسف يعلق عل ى طرح سعد البريك للتعايش بين المذاهب الإسلامية: «ما طرحه الشيخ البريك من إمكان التعايش واستحالة التقارب أمر لا نتفق معه فيه، فالتعايش الحقيقي لا يمكن أن يتحقق إلا بالتقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، والتقارب بين السنة والشيعة أمر ممكن، بل هو موجود في كثير من بلاد المسلمين، وموجود في بلادنا كما في محافظة الأحساء؛ حيث نجد أنه ف ي بعض القرى والمدن يوجد فيها سنة وشيعة عاشوا لقرون طويلة متحابين ومتقاربين، ويتشاركون في الأفراح والأتراح، نعم حدث تباعد في بعض البلدان والمجتمعات الإسلامية بين السنة والشيعة نتيجة للاحتقان الطائفي الذي تغذيه بعض الفئات والتوجهات التي لا تريد وحدة المسلمين، وهو مخالف لقوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} ولا يوجد أمامنا سبيل من أجل تحقيق السلم الاجتماعي إلا بالتعايش، ونشر ثقافة المحبة والسلام والمودة بين مختلف مكونات المجتمع». ويضيف: «لا شك أن هناك ما يجمع بين المسلمين شيعة وسنة من الإيمان بالأصول الاعتقادية والفرعية، وهو كاف ف ي صنع التقارب والتعايش». ولأن التعايش فكرة جوهرية ف ي الحياة، يعرّفه اليوسف: «التعايش يعني العيش بسلام وأمان واطمئنان مع الآخر الديني أو المذهبي أو العرقي أو أي قسم من أقسام الآخر المغاير للذات في الفكر أو العقيدة أو الرأي أو العرق، أو غيرها، وهو ينطلق من مبدأ الإقرار بالاختلاف بين الناس ، وهو أحد سنن الله في الكون، يقول تعال ى: {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين}، ثم إن مفهوم التعددية الدينية يتضمن الإقرار بمبدأ أن أحدا لا يستطيع إلغاء أحد، وبمبدأ « المساواة في ظل سيادة القانون» والالتزام بمبدأ حرية الفكر والتفكير، واعتماد الحوار واجتناب الإكراه {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي}». ويؤكد على الفكر ة: «في نظري أن فكرة التعايش يحث عليها الإسلام، بغض النظر إن كانت العلمانية أو غيرها تدعمها أو تدعيها، بل إن الإسلام فيه من ضمان الحقوق لأهل الكتاب ما لا مثيل له في الأديان والقوانين الوضعية، فالله سبحانه وتعالى يدعو إلى التعامل مع الآخر بمقتضى البر والعدل، يقول تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} بل إن القرآن الكريم يدعو للعدل حتى مع الأعداء في قوله تعالى: {ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى}، ثم إن تعدد الفرق والمذاهب ليس بالأمر الجديد، بل هو موجود منذ القرن الأول الهجري، بل يوجد تعدد في داخل المذهب الواحد، وفتح المجال للجميع للتعبير عن أفكارهم هو السبيل لتنمية الآراء الصحيحة والمنطقية، وذبول الآراء الشاذة والسقيمة». مواقف غير مسوغة من جانب آخر يقول الدكتور عدنان بن جمعان الزهراني المحامي والمستشار الشرعي والقانوني: «عندما تطلع على تاريخ الصراع بين السنة والشيعة تجد من فتر ة إلى أخرى بروز أنشطة لبعض كبار علماء الطائفتين، تهدف إلى تقليص الفارق بينهما، وهي جهود إن لم تلق قبولا من معظم العلماء الآخرين إلا أنها ولا شك تشير إلى رغبة يمكن من خلالها أن نصل إلى نتيجة تقول هنالك إرادة جادة لدى بعض العلماء من الطرفين للتقارب، واليوم على هذا الفريق من العلماء تقع مسؤولية استثمار ما أتيح من وسائل النشر والتثقيف، وهي فرصة لم تكن متاحة من قبل بالقدر الذي نراه اليوم، بل على سائر علماء الطائفتين اليوم ومن بعدهم العامة تفهم هذا الأمر والتخطيط لمستقبل أفضل في هذا الصدد ، وطريقة تحقيق ذلك والتخطيط له ومراحل بنائه لست الآن مما أريد ذكره، ولعل مناسبة أخرى أحرى للكتابة في هذا الموضوع، ولكن بداية علينا أن نسأل ما المراد بالتقارب لدى من يراه من أولئك العلماء؟». ويتابع رؤيته: «أقول كثيرا ما تنشأ مواقف غير مسوغة وذلك بسبب عدم الدراسة، وفقدان روح البحث العلمي، وغياب الفهم لبعض المصطلحات، والأمثلة كثيرة لا تكاد تحصى لإشكالات تلاشت تماما بعد وضوح المراد منها، ومن خلال النظر إلى ما دار من مؤتمرات وحصل من لقاءات وكتب من دراسات في هذا الصدد نجد أن ما يتبادر بأذهان الكثيرين عن معنى التقارب يكاد يكون في واد ومرادهم من التقارب في واد آخر، إذ هم بعد رؤيتهم لحال المسلمين علموا أن لا بد من عدة أمور ألخصها في: - الحوار العلمي الذي غايته بلوغ الحق وتحري الصواب . - ما ذكرته آنفا وإن لم يكن تغيير معتقد أحد من الطرفين هدفا أوليا له إلا أنه سيوجد قنوات اتصال تبني قاعدة ليتفهم كل من الطرفين الآخر، وأعني بهذا التفهم أن يعي كل طرف وخصوصا على ضوء الأوضاع الحالية للثقافة العالمية وما أفادته لوع ي كل منهما. - ويدخل في معنى التقارب ما نسميه اليوم بالتعايش والمقصود به العيش المشترك، وهذا صحيح لا غبار عليه، ولو قلت لا فراق بين المصطلحين لأمكن ولقيل لك لا مشاحة في الاصطلاح؛ إذ لا معنى للتعايش من دون حوار، ولا معنى للحوار من دون تفهم لمواقف وأدلة كل فريق، ولا معنى لجميع ذلك مع العنف. وينتهي إلى: «المدخل لكل ما نرجوه من تقارب أو تعايش هو نسيان ذلك الخط الأحمر من تاريخنا جميعا، والنظر في عين التفاؤل لمستقبلنا. أصوات هائجة الكاتب والأكاديمي مسفر بن علي القحطاني، يقول: «لا أحد يختلف في أن الأوضاع الراهنة التي تمر بها المنطقة العربية، خصوصا في العراق وفلسطين ولبنان، أدت إلى احتقان كبير بين أبناء تلك الشعوب، وقد يؤجج الصراعات المكبوتة داخل المنطقة ويدفعها إلى ما لا تحمد عقباه . ويضيف: «لعل الأوضاع الراهنة تنذر بمثل تلك الأخطار، من خلال ما يحصل من تأجيج للصراع الطائفي بين السنة والشيعة، سواء في العراق أو لبنان أو منطقة الخليج، وربما أد ى مقتل صدّام إلى إثارة الحفائظ، إذ لم تستطع تصريحات التهدئة من الحكومة العراقية أن تخفي طبيعة الصراع القائم، ليس في العراق وحده، بل في المنطقة كلها، بعدما جعلت يوم الأضحى يوم وعيد ونذير بين كل الطوائف المتوعدة. والأخطر من ذلك أن يرتفع الصوت المتشدد الذي يحاول أدلجة الصراع دينيا ، ومن غير تمييز، بالفتاوى التكفيرية المستبيحة لدماء الأبرياء العزل سواء من الشيعة أو السنة، وحتى لو صحت المبررات لها شرعيا في تسويغ هذا الصراع، فإن ظروف الزمان وتغير الحال وتربص العدو الخارجي، تؤكد ضرور ة المحافظة على وحدة المجتمع وسلامة النظام ومنع القتال بين أبناء الأمة الواحدة». يستطرد القحطاني: «كل الأزمات في القديم والحديث إنما تنفجر من خلال الأصوات المهيجة للعواطف، المتغلبة على العقول، المتحالفة مع مصالح السلطات السياسية، حينئذ لا يمكن أن توقف الجماهير الغاضبة الهائجة عن العدوان والتدمير، ومن وجهة نظري، أن الواجب عمله في مثل هذه الأزمة ألا تترك الأصوات المتشددة المتشنجة أن تعلو على صوت الشرع والعقل، وأقصد أن صوت الشرع في الفتن العامة أولى أن يسمع من خلال المجامع الفقهية والهيئات الشرعي ة، بدلا من فتاوى الأفراد، ولو على جلال قدرهم وسعة علمهم، كون النازلة لها شقها الواقعي الخفي الذي ربما لا يدرك أبعاده الفرد الواحد». مبدأ التعدد أما الكاتب والإعلامي حسن آل حمادة، فيقول: «دعاة التعايش ليسوا سواء؛ وللإنصاف؛ فإن المبدئيين من دعاة التعايش، إن صح التعبير، يؤمنون بأن ما يقرب بين أبناء الأمة الإسلامية أكثر مما يفرقهم، إذ إنهم يتفقون على الأصول الكبرى في الإسلام؛ فهم يؤمنون بإله واحد، ورسول واحد، وقرآن واحد، وقبل ة واحدة، و.. إلخ. ولا أدري لماذا نعمد مع كل هذا لزعزعة مقولة التقارب بين الطائفتين؟ أجل، لا يميل البعض لفكرة نحت مصطلح «التقارب بين المذاهب »، بدعوى أن التقارب يعني ذوبانها مع بعضها؛ ليتلاشى فيما بعد، الاختلاف، وهذا غير ممكن على الإطلاق، {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين. إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 118-119]، ودعاة التقارب أصبحوا يعون أن دعوتهم، هي دعوة للتقارب بين أبناء المذاهب، لا المذاهب بعينها؛ ليكون مثلهم، كمثل الجسد الواحد. ولا ضير أن يدعو عقلاء الفريقين للمسألتين معا». ويؤكد آل حمادة: «التعايش يعني ببساطة أن يقبل كل طرف منا الآخر، بما هو عليه، ليتعايش أبناء المذاهب الإسلامية مع بعضهم بعضا، مع اختلافاتهم البينية، مؤمنين بمبدأ التعدد. وجميل أن ننطلق ونحن نؤسس لأطروحة التعايش من المقولة المبدئية التي عمل بها الرسول محمد، صلى الله عليه وآله وسلم، فهو رغم نبوته وصدق دعوته، فقد انطلق في حوارات ه مع المخالفين وفق قاعدة: {وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [سبأ: 24]. ولو عملنا وفق هذه الممارسة؛ لأصبح بمقدورنا أن نتعايش بطريقة حضارية؛ فإذا كان الرسول، صلى الله علي ه وآله وسلم، وهو يتحاور مع المشركين، ينطلق وفق هذه المقولة؛ فما بالنا، ونحن أبناء دين واحد، لا نعذر بعضنا فيما اختلفنا فيه؟ ولذلك لا أميل لوصف فكرة التعايش بأنها فكرة علمانية وإن كانت هناك دعوات لها على مستوى الواقع السياسي لتنظيم العلاقة بين الدول والمجتمعات، فالدين الإسلامي دعا لفكرة التعايش نظريا ، بل طبقها عمليا بجدارة»