قبل عدة أعوام وبالتحديد في منتصف عام 1431 جاءني أبو صالح ذلك المريض الطيب الخلوق برفقته شريكة عمره، وقد بدا عليهما علامات القلق والخوف من نتائج هذه الزيارة. كان أبو صالح يشتكي من إمساك شديد وخروج دم مع برازه. كما أنه لاحظ أن شهيته للأكل في تناقص. فقد فَقَدَ منذ بداية العام ما يقارب العشرة كيلو من وزنه. وأخبرتني أم صالح أن زوجها أصبح ضعيفا خاملا كثير النوم قليل الحركة. وأنه ليس ذلك الغضنفر الذي كان إذا جلس الى سفرة الطعام افترس ما عليها فالتهم رزها وفتفت عظمها. بل إنه بالكاد يأكل لقيمات صغيرة. قمت بفحصه خارجياً وداخلياً فوجدت رجلا به بعض الهزال ولمست ورما في المستقيم قريب من عضلة الشرج. عندها أيقنت أنه يعاني من ورمٍ سرطانيٍ بالمستقيم. تكلمت معهما ومهدت لهما أن ما به هو كتلة (ورم) يحتاج إلى فحوصات وعينات (خزعة) لتبين لنا ماهو. فطلبت له تلك الفحوصات التي أكدت ذلك التشخيص. عاد إليّ أبو صالح بعد أن أنهى الفحوصات ولكن هذه المرة برفقة ابنه الكبير وقلق أكبر وخوف شديد قد علا محيي ابنه. وقد بادرني ابنه بالسؤال طالبا مني أن أصدقه القول عن ما في والده. وماهي خطوات العلاج وهل يحتاج إلى علاج كيماوي وإشعاعي وكيف ستكون الجراحه ومتى وغيره من الأسئلة الكثير وأنا أُجيب. كل هذا وأبو صالح يجلس بهدوء وبصره يجول بيني وبين ابنه وأنا أقرأ بين عينيه سؤال واحد ولا أعلم لماذا كنت كأنني على علم بذلك السؤال وأنه قد هُيئ لي أنه سألني إياه عندما صافحني وقت دخوله الغرفة. التفت إلى أبي صالح بعدما أومأ إلى ابنه أن اصمت وقال هل سأعيش بكيس جانبي بقية عمري يادكتور....؟!!. نزل السؤال كالصاعقة على رأس ابنه فاغرورقت عيناه وحشرجت حنجرته وصاح مستنكرا "لا يا دكتور لا سمح الله". إن أبي شيخ كبير له وقاره ووجاهته في مجتمعنا. يلفي (أي يأتينا) علينا ضيوف كُثر. فأبي رجل اجتماعي يحب مخالطة الناس. كما أنه لا يترك الصلاة في المسجد وهذا الشيء سيعيقه عن كل هذا. هنا اعتدلت في جلستي ووجهت بصري لأبي صالح وقلت له ان بك ورم سرطاني في المستقيم يبعد 4 سم عن عضلة الشرج وتحتاج إلى علاج كيميائي وإشعاعي تخضع بعدها لعملية استئصال ذلك الورم. وتحتاج إلى فغارة معوية جانبية قد تكون مؤقتة وقد تكون دائمة معتمدة على ما يحدث داخل العملية. ولا أستطيع أن أضمن لك غير ذلك. قد تسأل أخي القارئ عن ماهية هذا الكيس أومايسمى بالمفغارة الجانبية (قولونية أومعوية) وما أنواعها وهل وجودها يعني أن يدخل الشخص في عزلة عن المجتمع؟! إن أمراض القولون والمستقيم والأمعاء أمراضٌ شائعة. فالأشخاص المصابون بأحد أمراض القولون والمستقيم مثل سرطان القولون أو المستقيم أو التهاب الأمعاء المزمن قد يحتاجون في مرحلة من مراحل العلاج إلى عمل المفاغرة القولونية أو المعوية. يُحدد مكان ورم المستقيم السرطاني وحجمه طريقة عمل الإجراء الجراحي وهل سينتهي المريض بمفاغرة معوية دائمة أم مؤقتة. فهناك نوعان من العمليات الجراحية: النوع الأول هو أن يقوم الطبيب الجراح بإزالة المستقيم مع الورم ومن ثم يقوم بتوصيل القولون مع فتحة الشرج، فيجد المريض بعد العملية جرحا واحدا في وسط البطن مع مفاغرة معوية (او ما يسمى مفاغرة لفائفية) مؤقتة، تقوم بتحويل مجرى البراز عن مكان التوصيلة ليساعدها على الالتئام بشكل أفضل دون حدوث أية مضاعفات. أما النوع الثاني فهو عملية استئصال المستقيم مع فتحة الشرج وعمل مفاغرة قولونية دائمة، حيث يكون الورم قريبا جدا من فتحة الشرج لا يترك مجالا لعدم استئصال العضلات الشرجية والصمام الذي يتحكم في إخراج البراز. فالمفاغرة عبارة عن جزء من الأمعاء يتم إخراجه خلال جدار البطن بحيث أن تخرج الفضلات (البراز والهواء) من الجسم من خلال المفاغرة المعوية، لا إراديا وبدون وعيه فعليه فإنه يلزم لبس كيس بلاستيكي فوق المفاغرة المعوية. أكياس المفاغرة تختلج مشاعر المريض وتختلط مابين الغضب والإنكار ثم الإحباط أو الإيمان والاستسلام لقضاء الله وقدره عندما يُبلغ بمصابه بالسرطان وبحاجته للمفاغرة وخاصة إذا كانت دائمة. فيصعُب عليه هذه المرحلة تخيل نفسه بوجود كيس في البطن لإخراج الفضلات، كما أن فقدانه لوظيفة أساسية موجودة (التحكم بالإخراج) معه منذ الصغر صعب جدا؛ وهذه المشاعر هي ردة فعل طبيعية علينا جميعا أن نتفهمها. عملية المفاغرة المعوية قد تنقذ حياة بعض الأشخاص وقد تحسن من نوعية حياة أشخاص آخرين، كالذين يعانون من مشاكل أخرى مثل عدم التحكم بالبراز أو مرضى الكرونز الذين لديهم ناسور أو خراج متكرر حول فتحة الشرج. عندما يُخبر الطبيب المريض أنه يحتاج إلى مفاغرة جانبية يصعب على المريض اتخاذ القرار، إلا أن طريقة الطبيب وأسلوبه مع وجود الدعم العائلي مهم جدا في مساعدة المريض في اتخاذ القرار الأخير المناسب. ولذا قامت المستشفيات ولجان أصدقاء المرضى في الخارج بإنشاء مجموعات دعم وتشجيع لهؤلاء المرضى. تتألف هذه المجاميع من مرضى متبرعين ممن خضعوا لعمليات مفاغرة معوية دائمة من ذي قبل. تكون مهمة هذه اللجان ومجموعات دعم مرضى المفاغرة هو شرح التغيير الذي يحدث في حياة المريض وأنه من الممكن العيش حياة جيدة وصحية مع وجود المفاغرة وأن الوصول لهذه المرحلة يتطلب بعض الوقت. يشعر معظم المرضى بالقلق والخوف علي مستقبلهم وهذا امر طبيعي جداً يمكن للمريض الاطمئنان من ان عملية المفاغرة غير مؤلمة، اضافة الى ان الاطباء وكادر التمريض وممرضات العناية بالمفاغرة هم من يساعدون المرضى للتكيف مع كيس المفاغرة والتأكيد على أن طبيعة حياتهم يجب ألا تتغير بسبب العملية الجراحية التي ستتم لهم وسوف تتحسن حالتهم الصحية باجراء العملية الجراحية. يُعاود بعض مرضى المفاغرة إحساس بالعزلة والحزن وفقدان الأمل، وهذه مشاعر طبيعية تعكس شعورهم بالتغيير المفاجئ الذي حدث لحياتهم بشكل عام ولأجسامهم بشكل خاص بعد العملية، فمن المهم جدا لأفراد العائلة والأشخاص المقربين تقديم الدعم والمساندة التي يحتاجها ذوو المفاغرة في هذه المرحلة مع تشجيعهم على ممارسة نشاطاتهم الاجتماعية التي اعتادوا عليها في السابق. إلا أنه ولله الحمد تتبدد كثير من المخاوف التي كان يشعر بها في البداية عندما يتعلم المريض الطريقة الصحيحة للاعتناء بنفسه مع وجود الدعم العائلي ودعم الأصدقاء، بل وتتحسن نوعية حياته بإذن الله ويستطيع مريض المفاغرة ممارسة حياته بشكل طبيعي خلال عدة أسابيع من العملية، فيصبحوا قادرين على تناول الطعام بشكل طبيعي مع تجنب بعض الأغذية التي تسبب إسهالا وكثرة الغازات. ويعود لما كان قبل العملية من العودة إلى المدرسة أوالعمل وممارسة بعض الأنشطة الرياضية كركوب الخيل والسباحة بدون تأثير عكسي عليهم او على كيس المفاغرة لديهم. كما أنه يستطيع ممارسة العلاقة الزوجية بدون خوف من وجود المفاغرة. كما سيكون بإمكانهم المشاركة في مجال واسع من الأنشطة الاجتماعية وغيرها. كل ماذكر سابقا كان هاجسا يقلق أبا صالح مريضي الصبور ويقلق أسرته. إلا أنه وأمام هذا المصاب وجد نفسه أنه لا بد له من الخضوع للعملية مؤمنا بأن هذا قضاء الله وقدره. تم استئصال المستقيم بورمه السرطاني بعد أن خضع للعلاج الكيماوي والإشعاع. وتم عمل مفاغرة قولونية جانبية دائمة له وقام الفريق الطبي من أطباء وممرضات مفاغرة وأخصائيات خدمة اجتماعية وأفراد أسرته الكريمه بتقديم دعم نفسي ومعنوي وجسدي له حتى تعدى هذه المحنة. وها أنا الآن أتابعه في عيادتي للعام الرابع وقد عادت له صحته وعاد إلى اجتماعاته الاسبوعية وعاد إلى مسجده وجماعة المسجد يخالطهم ويسامرهم كما كان يفعل سابقاً. وفي كل مرة أراه فيها لا تخلو تعابير وجهه من علامات الرضا والراحة على قراره بالخضوع للعملية ولسانه حاله يقول الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يقدر ثمنه إلا من فقده. وأنا أقول لك عزيزي القارئ الحمد لله الذي منّ علينا بالصحة والعافية وعافانا مما ابتلى به غيرنا. لا بد من التمهيد قبل إشعار الطبيب للمريض مما يعانيه