منتدى المحتوى المحلي يختتم أعمال اليوم الثاني بتوقيع 19 اتفاقية وإطلاق 5 برامج    اعتماد معاهدة الرياض لقانون التصاميم    «الصحة الفلسطينية» : جميع مستشفيات غزة ستتوقف عن العمل    المملكة توزع 530 قسيمة شرائية في عدة مناطق بجمهورية لبنان    «طرد مشبوه» يثير الفزع في أحد أكبر مطارات بريطانيا    انطلاق مهرجان الحنيذ الأول بمحايل عسير الجمعة القادم    فيتنامي أسلم «عن بُعد» وأصبح ضيفاً على المليك لأداء العمرة    شقيقة صالح كامل.. زوجة الوزير يماني في ذمة الله    هل يعاقب الكونغرس الأمريكي «الجنائية الدولية»؟    «الزكاة والضريبة والجمارك» تُحبط 5 محاولات لتهريب أكثر من 313 ألف حبة كبتاجون في منفذ الحديثة    باص الحرفي يحط في جازان ويشعل ليالي الشتاء    «الأرصاد»: أمطار غزيرة على منطقة مكة    الرعاية الصحية السعودية.. بُعد إنساني يتخطى الحدود    فريق صناع التميز التطوعي ٢٠٣٠ يشارك في جناح جمعية التوعية بأضرار المخدرات    المنتخب السعودي من دون لاعبو الهلال في بطولة الكونكاكاف    الذهب يتجه نحو أفضل أسبوع في عام مع تصاعد الصراع الروسي الأوكراني    الكشافة تعقد دراسة لمساعدي مفوضي تنمية المراحل    الملافظ سعد والسعادة كرم    استنهاض العزم والايجابية    المصارعة والسياسة: من الحلبة إلى المنابر    "فيصل الخيرية" تدعم الوعي المالي للأطفال    الرياض تختتم ورشتي عمل الترجمة الأدبية    رواء الجصاني يلتقط سيرة عراقيين من ذاكرة «براغ»    حلف الأطلسي: الصاروخ الروسي الجديد لن يغيّر مسار الحرب في أوكرانيا    «قبضة» الخليج إلى النهائي الآسيوي ل«اليد»    «السقوط المفاجئ»    حقن التنحيف ضارة أم نافعة.. الجواب لدى الأطباء؟    مشاعل السعيدان سيدة أعمال تسعى إلى الطموح والتحول الرقمي في القطاع العقاري    الثقافة البيئية والتنمية المستدامة    عدسة ريم الفيصل تنصت لنا    المخرجة هند الفهاد: رائدة سعودية في عالم السينما    «استخدام النقل العام».. اقتصاد واستدامة    «بازار المنجّمين»؟!    مسجد الفتح.. استحضار دخول البيت العتيق    إجراءات الحدود توتر عمل «شينغن» التنقل الحر    أشهرالأشقاء في عام المستديرة    د. عبدالله الشهري: رسالة الأندية لا يجب اختزالها في الرياضة فقط واستضافة المونديال خير دليل    تصرفات تؤخر مشي الطفل يجب الحذر منها    فعل لا رد فعل    المياه الوطنية: واحة بريدة صاحبة أول بصمة مائية في العالم    محافظ عنيزة المكلف يزور الوحدة السكنية الجاهزة    ترمب المنتصر الكبير    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    أخضرنا ضلّ الطريق    أشبال أخضر اليد يواجهون تونس في "عربية اليد"    5 مواجهات في دوري ممتاز الطائرة    إنعاش الحياة وإنعاش الموت..!    رئيس مجلس أمناء جامعة الأمير سلطان يوجه باعتماد الجامعة إجازة شهر رمضان للطلبة للثلاثة الأعوام القادمة    إطلاق 26 كائنًا مهددًا بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    فرع وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بحائل يفعّل مبادرة "الموظف الصغير" احتفالاً بيوم الطفل العالمي    "التعاون الإسلامي" ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم المتحدة التعاون معها    استضافة 25 معتمراً ماليزياً في المدينة.. وصول الدفعة الأولى من ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة    «المسيار» والوجبات السريعة    أمير الرياض يرأس اجتماع المحافظين ومسؤولي الإمارة    أمير الحدود الشمالية يفتتح مركز الدعم والإسناد للدفاع المدني بمحافظة طريف    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    سموه التقى حاكم ولاية إنديانا الأمريكية.. وزير الدفاع ووزير القوات المسلحة الفرنسية يبحثان آفاق التعاون والمستجدات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البيرتو مانغويل: أبو نواس أقرب إلى لوركا منه إلى محمود درويش
يميل لروايات رشيد بوجدرة وليس نجيب محفوظ
نشر في الرياض يوم 28 - 12 - 2013

ماذا يمكن أن تسألَ رجلاً في منزله أربعين ألف كتاب ولديه ما يقارب الأربعين مؤلفاً منتشراً في شتى بقاع الأرض. هذا هو السؤال الذي لاحقني وأنا أعد أسئلة حوار الكاتب الأرجنتيني، الكندي البيرتو مانغويل، بعد ساعات من تأكيد الكاتب طارق الخواجي (صديق مانغويل في السعودية) بأن لقاء صاحب الكتاب الشهير(تاريخ القراءة)، بات ممكناً. ولأن الاقتراب من مانغويل أيضاً، بمثابة نزهة كونية باذخة في عوالم الكتب والفنون الأدبية؛ فإن الجلوس إليه ومساءلته مهما امتدت بالوقت تبقى ضيقة، أمام اتساع مدارات البيرتو المتشعبة؛ في حديثٍ، لا نجازف فيه، بطرح الأسئلة، بقدر ما نستمتع بمغامرة السؤال، وما تبحر بنا هذه الأسئلة بين أرفف محيطات مكتبته الورقية والحياتية. فمن فكرة الكتابة عن(القراءة)، نبدأ، مروراً برفقته الشهيرة بالأديب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، حيث نستلهم سؤالاً، متخيلاً؛ وصولاً إلى أسئلة تمس علاقته اليوم بالثقافة العربية، وختاماً عن مصير مكتبته عمره الخاصة، في المستقبل، لنطفئ معاً شمعة السؤال الأخير.. والذي بودنا لو أنها لم تنته.
جهلي هو ما يدفعني للكتابة وعلينا الاستمرار بطرح الأسئلة
* في عالم مانغويل المترامي يصعب أن نقبض على مكان محدد، ولكن سنبدأ من سؤال يراود القارئ وهو كيف ولدت فكرة الكتابة عن (القراءة)؟
- قبل أن أبدأ كتابة (تاريخ القراءة) بسنوات عدة، كنت أطرح على نفسي سؤالاً حول ماهية القراءة، وأدركت أنني كنت قارئاً قبل أن أكون كاتباً. يقول بورخيس: إن الكاتب يكتب ما يستطيعه، ولكن القارئ يقرأ ما يريد. لذلك بدأت في التفكير بحقيقة ما أفعله حين أقوم بفعل القراءة، وأدركت حقيقة واحدة مهمة، هي أن كل تواريخ آدابنا، وكل تواريخنا ذات العلاقة بالكتاب مكتوبة من وجهة نظر الكاتب. وبمعنى آخر فإن هذه التواريخ تفترض أن من بيدهم تحديد ما سيبقى من الكتب هم الكتّاب، وهذا بكل تأكيد عارٍ من الصحة. نحن القراء من بيدنا تحديد ما سيبقى من الكتب، وما سيصبح منها جزءاً من تاريخ الأدب. هناك مئات الآلاف من الكتب التي تتم كتابتها، ولكن الأمر يتطلب أجيالاً عديدة لكي نقرر أننا سنستبقي هذا الكتاب، أو سننسى ذلك الكتاب. وليس بوسع الكاتب فعل أي شيء لتغيير ذلك. من جهتي ومع اتساع المهمة قررت أخيراَ أن أكتب تاريخاً للقراءة وليس تاريخ القراءة.
* هل يمكن القول إذاً، إن الكتابة عن القراءة، هي مجابهة لسلطة الكاتب من خلال الانحياز للقراء؟
- أجل، بالتأكيد، لأن سلطة الكاتب أيضاً تعتمد على القارئ. فالكاتب الذي لا قراء له، لا سلطة له. إن أفلاطون على سبيل المثال يحظى بهذا النوع من السلطة لأن أجيالاً متتابعة من القراء قالت إن ما يقوله وما كتبه مهم بالنسبة لي. بالطبع كان هناك مئات وآلاف الكتاب المعاصرين لأفلاطون الذين قاموا بالكتابة أيضاً لكن القراء قد "قرروا" أن ذلك ليس مهماً وليس مثيراً للاهتمام.
الكاتب الذي لا قراء له لا سلطة له
* دائما ما تضمن كتاباتك، خروجا عن الأسلوب الصارم للكتابة إلى كتابة ذات مسحة شعرية، روحية، في علاقتك بالكتب، هل هنالك شاعراً داخل مانغويل تحاول قمعه بهذا السلوك؟
- القارئ هو الذي يتعرف على أسلوب الكاتب. لدي مثلُ كلِ كاتب، أسلوب في الكتابة يحدده الكتاب الذي أرغب في كتابته. النص يولد على هيئة وشكل محددين، وعليك ككاتب أن تعثر على ذلك الشكل والصوت الخاص بك، وصدى هذا الصوت سيكون مختلفاً لدى كل قارئ. على سبيل المثال، نحن نقرأ الأوديسة أو الإلياذة كسرد نثري، حين لا نقرأهما باللغة اليونانية، ولكن بالنسبة لمتخصص في النصوص الكلاسيكية، يستطيع قراءتها باليونانية القديمة، ستبدو شعراً. ولكن بالنسبة لمعاصري هوميروس، لم تكن قصيدة ولم تكن نثراً، بل كانت جزءاً من إحدى الطقوس، جزءاً من الغناء، والتمثيل والحركة. لذا فإذا ما وجدت أن نثري يتسم بطابع شعري، مع أنني لم أكتب القصائد، فذلك صحيح من حيث إنني لست مهتماً بكتابة نثر أكاديمي على سبيل المثال. لكن من الصحيح أيضاً أنني لا أتمتع بالموهبة الضرورية لكتابة الشعر(ما أدعوه شعراً). لقد سبق لي أن كتبت بضع قصائد، وهي ليست كافية لكي تضم بين دفتي كتاب. وحتى لو كان عندي من القصائد ما يكفي لنشرها في كتاب، فإنني لست واثقاً من أنه ستكون لدي الرغبة في نشره. لقد سبق أن نشرت بعضاً من قصائدي في المجلات، وقد استخدم بعضها لتأليف أغانٍ. هناك ملحن اسمه أوستراي سترويستوي قام بتلحين مجموعة من الأغاني من أشعاري. ولكنني أشعر براحة أكبر مع النثر.
* ولكنك ألفت كتبًا تحتوي على مقالات ودراسات أيضًا (طارق مداخلاً)؟
- أجل، إن جهلي هو ما يدفعني للكتابة، وعلي أن أستمر في طرح الأسئلة. ولو كنت أعرف ما أريد قوله لما ترددت في قوله على الفور.
* لا يمكن أن نلتقيك دون الحديث عن خورخي بورخيس. والسؤال: لو كان بورخيس حياً، كيف تتوقع تعليقه على كتابك (تاريخ القراءة)، وقت صدوره؟
- (يضحك) أولاً، بورخيس لم يعترف أبدًا بأنه قرأ لكاتب معاصر. ثانياً، لقد شاهدت بورخيس يعلق على كتابات الآخرين (يضحك)، ولن أقدم أبداً على التصريح بما كان يقوله عنهم، ولا أفكر مطلقاً أن أعرض عليه أي كتاب لي.
* أعتقد أنك ألفت ذلك الكتاب مبكرًا، واحتفظت به حتى رحيل بورخيس (طارق مداخلاً)؟
- سأحكي لكم حكاية. أحد الكتاب جاء ليرى بورخيس وقال له: لقد كتبت قصة، وأنا على ثقة من أنك ستحبها. فقال له بورخيس: حسناً. إقرأها لي. فشرع الكاتب في قراءة القصة، وكانت عن رجل شرطة يدخل إلى مقهى يرتاده عدد من المجرمين. وبالسلطة التي يستمدها من صوته فحسب، يقول لهم: يتوجب عليكم أن تدفعوا لي بأسلحتكم! وكان يقرأ النص كالتالي: أعطوه مسدسين، وعصاة واحدة، وبندقية، وسكيناً.. فما كان من بورخيس، دون أن يقاطعه، إلا أن قال: ومدفعين، وستة من السيوف، وحصان حرب، ومضى يعدد أنواعاً أخرى من الأسلحة. وكان الكاتب في غاية الحرج دون أن يتوقف بورخيس (يضحك مانغويل).
رواية «مدن الملح» مؤثرة وبقيت معي لزمن طويل
* معروف أن علاقتك بالثقافة العربية واسعة من خلال القرآن وكتب التاريخ والأدب والتراث والمصادر.. لكن ماذا عن علاقتك بهذه الثقافة والأدب العربي، اليوم؟
- يتوجب علي القول أولاً، كما تشير استعارة بورخيس إلى أن المكتبة هي مرآة للعالم. ولكنها مرآة لا وجود فيها للحدود السياسية أو الدينية أو حتى الجمالية. إن أفلاطون أقرب إلى فيلسوف عربي ما، منه إلى نيتشه. أبو نواس أقرب إلى لوركا منه إلى محمود درويش.
محمود درويش
بالنسبة لي الأمر لا يتعلق برغبتي بقراءة الأدب العربي الكلاسيكي أو الأدب العربي المعاصر. الكتب تقدم نفسها وأنا أقوم بقراءتها، والكتب هي من تبني علاقاتها عبر الزمن وعبر المكان. وأستمتع جداً بشعور تخطي الحدود بشكل دائم. إننا نحب العيش ضمن أطر حدود معينة. دوريس ليسنغ كتبت كتاباً مهماً يحتوي على مقالات عنوانه (سجون نختار العيش فيها)، وأعتقد ان ذلك صحيح كليًا. إننا نختار أن نبني لأنفسنا سجوناً نقطن فيها. هناك سجون سياسية وأخرى دينية. إنها مصنوعة من مخاوفنا. ولكن الأدب يرفض ذلك. مثال آخر: إنني متأثر جداً باللحظات التي يثبت فيها الأدب قدرته على تعريف العالم. إحدى تلك اللحظات يقدمها الشاعر جوزف برودسكي، الشاعر الروسي الذي فاز بجائزة نوبل. كان مسجوناً في أحد سجون الغولاغ في روسيا، وفجأة يتلقى قصائد من الشاعر الإنجليزي أودن. وقد زرعت قصيدة أودن لديه الشعور بأنه هنالك إمكانية واحتمال للحرية فيقرر أن يكون شاعراً. كيف حصل ذلك؟ كيف استطاع شاعر إنجليزي متجذر في ثقافته أن يحدث كل هذا التأثير في شاب مسجون في مجاهل سيبيريا هو أمر أقرب للمعجزة. ومثل هذه المعجزات تحدث كل يوم. وعودة إلى سؤالك عن الأدب العربي المعاصر. ما ندعوه الأدب العربي المعاصر، فإنني أقول إنني مهتم كثيراً بالاطلاع عليه، ولكنني لا أذهب للقول إنني أختار أن أقرأ لكاتب من السعودية، أو كاتب آخر من المغرب. هناك بعض الكتاب جاؤوا إلي وبعضهم يكتب بالعربية والبعض الآخر بالفرنسية مثل الطاهر بن جلون أو محمد شكري أو محمود درويش.
رشيد بو جدرة
* أو نجيب محفوظ (طارق مداخلاً)؟
- (امم) استمتعت إلى حد ما بقراءته ولكنني شعرت أنه يكتب بأسلوب لا ينتمي لي كثيراً. من هنا فإنني أعتقد أن هناك كاتباً اهتم بهم أكثر منه مثل رشيد بوجدرة الذي أحب أعماله كثيراً.
* ماذا عن عبدالرحمن منيف، ومدن الملح (طارق مداخلاً)؟
- مانجويل: أجل بالطبع. لقد نسيت أن أذكر اسمه. ذلك الكتاب ظل معي لفترة طويلة من الزمن، لأنه كان عملاً مؤثراً جداً.
نجيب محفوظ
* تشغلني مسألة "خبرة القراءة".. عن كيفية وصول القارئ لتشكيل خبرة حول ما هو جيد فنياً للقراءة، وسط سوق كوني كبير يعتمد شعارات براقة وزائفة في آن، ك"الأكثر مبيعاً؟
- في كل ما نقوم به هناك اختيارات متعددة ومتفاوتة، وليس هناك اختيار واحد فقط. أما عن كيفية الاختيار فإنني أترك للصدفة أن تختار. أظن أن الصدفة بمثابة المكتبي (موظف المكتبة) الجيد. لأنه ليس هناك قواعد أو قوانين. بعض أهم الكتب التي أحتفظ بها وصلتني عبر توصية صديق ما، أو لأنني أحببت غلاف الكتاب، أو لأن سطراً أو جملة ما لفتت انتباهي. كيف تتكون صداقاتك؟ إنها تتكون من خلال أنواع متعددة من النظريات والاستراتيجيات والأسباب، ولكن فوق ذلك كله هناك الصدفة. تعلمون إنني لم أكن قد فكرت قط بالقدوم إلى المملكة. وكانت هناك الكثير من المشاكل التي أحاطت بقدومي. طارق لم يكن من بين الذين تواصلوا معي عبر الوكالة، لذا فلم أكن أعلم بوجوده. وفجأة، ومن خلال حوارات أجريناها على مدى يوم ونصف اليوم، أصبحنا أصدقاء. لا أعرف كيف حدث ذلك. ولكن الشيء نفسه يحدث مع الكتب. ما هو مهم أيضاً بالنسبة لي هو أنه لا ينبغي لنا أن نصاب بالإحباط بسبب لا نهائية الكتب الموجودة. حين نكون في شبابنا، نقول لأنفسنا بأن علينا أن نقرأ كل شيء. وهناك دائماً كتب جديدة، فمتى سيتسنى لي قراءتها. ولكن حينما كنت طفلاً، وحين تكون شيخاً مثلي، فإنك لا تهتم كثيراً بالجدة. إنك تفضل إعادة القراءة، أو إعادة قراءة الكتاب ذاته مرات عدة. فالطفل يحب أن نكرر على مسامعه نفس القصة مرات ومرات، ولا يريد ان يتغير شيء ما في القصة، وإذا ما قمت بتغيير شيء فإنه يعترض ويصحح لك. وحين تتقدم بك السن، فإنك تريد الشيء ذاته. لا تهتم كثيراً بالشيء الجديد. تهتم أكثر بما سبق لك قراءته ومعرفته و"إعادة زيارته". وإذ تقدم على فعل ذلك، فإنك تفعله بدون توقع حدوث مفاجآت. إن الأمر أشبه ما يكون بإجراء محادثة مع صديق قديم. لست بحاجة للتقديم، فأت تعرف كل ذلك. معظم ما أقرأه من الكتب الآن هي الكتب التي أعدت قراءتها مراراً وتكراراً ربما 20 مرة.
* بمعنى ما، يرى نعوم تشومسكي أن اعتياد قراءة الجمل القصيرة في "تويتر"، تؤثر على طول نفس القراءة لدى القراء. ما رأيك؟
- لست متأكداً من ذلك. على سبيل المثال. عندما كتب روديارد كبلنغ قصصه الأولى وهو في ريعان شبابه في الهند. والعديد منها تعتبر من روائع الفن القصصي، كان محدوداً بالمساحة التي كانت الجريدة تمنحها له. لنقل إن الجريدة قد منحته مساحة يزيد عدد كلماتها على 1000 كلمة، ولكنه على الرغم من ذلك نجح في كتابة روائعه تلك. إن كون المساحة المتاحة لك محدودة لا يعني بالضرورة أنك لا تستطيع الكتابة. لا أعتقد أن هذه المسألة ذات تأثير كبير على القراءة. المشكلة تكمن في القدرة على التركيز. إن الإعلام الإلكتروني جعل من السهل القيام بأنشطة غير حقيقية، كالتصفح السريع والتنقل من موقع إلى موقع. تقول لنفسك مثلاً: أريد أن أعرف ما قاله نيتشه عن المستقبل، فتكتب هاتين الكلمتين معاً في محرك البحث وتحصل على إحدى مقولات نيتشه عن المستقبل. وتكتفي بذلك دون أن تقرأ العمل أو الكتاب كاملاً. هذا الأمر يخلق نوعاً من نفاد الصبر الثقافي، وهو يجعل القارئ يحس بصعوبة أن يقضي وقتاً طويلاً في قراءة نص بعينه، لنقل الحرب والسلام على سبيل المثال. وتلك كما أظن مشكلة كبيرة. تقول الفيلسوفة حنة آرنت: "الحضارة هي تعليم الانتباه". وأعتقد أننا صرنا نفتقر إلى ذلك. لقد اعتدنا على التنقل السريع بين قنوات التلفزيون، وصرنا محاطين بأنواع مختلفة من الشاشات الملأى بالألوان والأصوات والملهيات التي تشتت انتباهنا. وبدون ذلك الانتباه لن تستطيع التأمل، مما سيعود بنا إلى المشكلة ذاتها؛ فبدون المقدرة على التأمل لن يكون بوسعك أن تكون مواطناً ذكياً يتمتع بقدر كاف من الثقافة، ولن تكون لديك القدرة على طرح الأسئلة.
* كتبت بمتعة عن طقوس القراءة لديك (في السرير، مثلاً).. لكن هنالك من يتلقى طقوس القراءة لدى الكتاب وكأنها أسلوب يجب أن يحتذى.. كيف تنظر للأمر؟
- أيا كانت مهنتنا، فإن بمقدورنا تبني السلوك الذي ينتهجه "النجوم"، سواء أكنت لاعب كرة قدم، أو صحفياً، أو كاتباً، أو فناناً. ولكن إذا ما كنت تتحدث عن شيء تحبه. شيء تفعله لأنك تحبه، فإن التبرير الوحيد لفعله هو الشغف. فيما يتعلق بطريقة قراءتي، فإنه من الأسهل بالنسبة لي أن أتحدث عن كيف لا أقرأ. إنني أقرأ أثناء تناولي للإفطار، وفي الحمام، وفي السرير، وعلى متن القطار والطائرة. الوقت الوحيد الذي لا أقرأ فيه هو حين يحل الظلام وأكون متعباً، فحينها أشاهد فيلماً، أو أستمع إلى الموسيقى. ولكنني أظن أن هناك خطراً ما في صنعنا من القراءة طقساً تراتبياً، فيقول أحدهم إنني لا أستطيع القراءة إلا حين أرتدي حلة، لأن ذلك غير صحيح. إنه غير صحيح بكل بساطة.
* قرأنا عن علاقتك الخاصة بمكتبك.. ماذا سيكون مصير هذه المكتبة في المستقبل؟
- لا أدري. أبنائي يقرأون، ولكنهم لا يريدون مكتبة تحتوي على 40 ألف كتاب. لذا فإن ما فكرت فيه هو أن أوصي بإيداع كتبي في مكتبة كلية أو جامعة جديدة في كندا؛ لأنها من الممكن ان تكون أساساً جيداً لمكتبة جامعية؛ إذ من الممكن أن تتيح للجامعة التوسع في مجموعة معينة من الكتب. لدي على سبيل المثال مجموعة كبيرة من كتب أدب أمريكا اللاتينية، وكتب فقه اللغة، وكتب الأدب الفانتازي. ومن الممكن بالطبع أن تحتوي المكتبة على مثل هذه الكتب. ولكن بالنسبة للقارئ الفرد، فإذا لم يكن مزاجه يوافق مزاجي القرائي، فإن هذه الكتب لن تعني له شيئاً.
* أخيراً، كيف كان انطباعك عن السعودية. وكيف وجدتها؟
- من الصعب الإجابة على هذا السؤال. مضى على وجودي في المملكة أقل من يومين. شاهدت مطار الدمام، وفندق السوفوتيل حيث أقيم، وهذا المكان الذي أنا فيه الآن. ما أستطيع قوله هو أنني حظيت بقدر كبير واستثنائي من الضيافة. وإنه لمن المدهش حقاً ما رأيته من انتشار وتوسع لثقافة القراءة لدى من قابلتهم من الناس.
طارق الخواجي
خورخي لويس بورخيس


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.