عندما ركبتُ "الحنطور" في روما بالقرب من متحف "الفيتريانو" على طرف "الكابيتول هل" الرومانية حيث تقبع المدينة التاريخية خلف مبنى المتحف الذي أنشئ في نهاية القرن التاسع عشر، كان سائق "الحنطور" يتحدث عن معالم روما وتوقف عند "الكولوسيوم" ليتحدث عن الثقافة الرومانية بلغة إنجليزية متكسرة، ثم مررنا بمبنى تاريخي كان يستخدم كمستشفى وبالقرب منه مبنى آخر قديم وفخم، لكنه قال لي إنه مبنى "حديث" بينما عمره أكثر من 100 عام. مفهوم "الحديث في روما، مختلف عن أي مكان آخر في العالم، فما نعتبره تاريخيا هو عند البعض "حديث" وفي روما على وجه الخصوص، يصعب تحديد ما هو قديم وحديث فالمدينة كلها تضج بالذاكرة وتقدم نفسها كمكان يصعب تكراره في مكان آخر. كنت أفكر في السبب الذي جعل الإيطاليين يصرون على إبقاء روما بشخصيتها التاريخية ولماذا لم تتأثر هذه المدينة التي يزيد عمرها على 2000 عام بكل التحولات التي حدثت حولها، وتذكرت كيف أن روما هي متحف مفتوح وكل ركن فيها يخاطب التاريخ ويذكرنا بحدث ما، وكنا قد قررنا أن نذهب إلى نافورة "تريفي" Fontana de Trevi وقلت لابد أن لهذه النافورة حكاية فما الذي يجعل الناس تعتقد أن من يرمي عملة معدنية فيها لابد أن يعود لروما، مع أن بعض الزملاء يعتقد أنها نافورة العشاق. بالنسبة لي مازالت الأسئلة تملأ ذهني فروما تشغل الانسان بالأسئلة التي يصعب الإجابة عنها، فهي مسرح يعرض حكاية تاريخية واقعية إلى درجة أننا نشعر أننا أصبحنا جزءا من الحكاية فيدفعنا الفضول إلى البحث عن تاريخ هذه المدينة التي ارتبطت ذاكرتها بالأمبراطورية الرومانية. توقف السائق المصري المثقف عند ساحة خلفية تسمى الساحة الأكاديمية، ويوجد في أحد المباني المطلة عليها أكاديمية للسياحة فنزلنا من السيارة ومشينا قليلا ثم ظهرت الساحة التي يوجد فيها النافورة. والحقيقية أنني لم أتوقع أنها بهذه الصورة فقد ظهر لي جدار ضخم منحوت من المرمر الأبيض به تماثيل في غاية الجمال وتشكيلات من الأشجار وماء يتدفق من هذا الجدار في حوض كبير يحتشد حوله الناس. عندما سألت عن الجدار الرخامي عرفت أن الفنان "نيكولو سالفي" نحته في القرن الثامن عشر لكن النافورة نفسها قديمة جدا فهي تعود إلى عام 19 قبل الميلاد عندما بنى "أقريبا" قنوات معلقة وتنتهي في هذا المكان الذي يعرف الآن بنافورة "تريفي"، وفي القرن الخامس بعد الميلاد، أمر البابا "نيكولو الخامس" بترميم القناة الناقلة للمياه، وكلف "ليون باتيسيا البرتي" أن يبني حوضاً لتجميع المياه، في نفس مكان النافورة التي نشاهدها اليوم. جدار النافورة جزء من قصر اسمه "بولي" ويحيط بالساحة عدة قصور ومبان تظهر علاقة مع الساحة عبر زواياها التي تتخاطب مع الناظرين مباشرة وتكون علاقة متينة معهم. كنت أتحدث مع الزميل نايف المطيري عن فكرة "العمارة الزاويية" أي عمارة الزوايا التي تتميز بها العمارة الأوروبية بشكل عام، رغم أنها في روما ليست ظاهرة بوضوح، وقلت له إنني كنت أفكر في هذا الموضوع منذ مطلع التسعينيات ولاحظت أن المدن الأوروبية تعتمد على تأكيد الزوايا كعناصر أيقونية في المدينة لصنع علامات تتشكل منها الخارطة الذهنية الحضرية، وهذا ليس موجودا في عمارتنا العربية التي تعتمد على التناغم الحضري، وأكدت له أن روما تقع بين الاثنين فلا هي عمارة زوايا ولا هي عمارة تتجه للداخل، بل هي عمارة إستعراضية من خلال استغلال الساحات للتعبير عن المنظرية المعمارية بقوة ووضوح. تحركنا إلى ساحة خلفية باتجاه معاكس لمكان وقوفنا الأول بحثا عن مكان نتناول فيه الغداء وتوقفنا عند مجموعة من المطاعم. قلت لنايف إن أي مطعم سيكون متميزا فروما تحتفل بالأكل كما تحتفل بالعمارة والحقيقة أن الأكل لذيذ والمكان كان رائعا. المدهش في كل الأماكن التي جلست فيها هو شعوري بأن المكان العام والمكان الخاص يتكاملان فالشارع جزء من المطعم والساحة فضاء تتمدد فيه المقاهي والمطاعم وحركة الناس تختلط بالجالسين. روما مفعمة بحسها الإنساني فهي أشبه بقرية صغيرة تتمدد إلى ما لا نهاية وكأن الناس فيها يعرفون بعضهم البعض أو هم من أسر ممتدة سرعان ما تألفهم فيذهب عنك إحساس الغربة. المشاهد التي تقدمها روما جعلتني اتذكر المعمار والناقد الروماني "فتروفيوس" Marcus Vitruvius Pollio الذي ولد ما بين 80 و70 قبل الميلاد وكتب كتابه المشهور 10 كتب في العمارة التي ركزت على الثبات Firmness والراحة commodity والبهجة Delight كمبادئ أساسية في العمارة. المثير هو أن "فيتروفيوس" كتب هذا الكتاب في الفترة التي تم فيها بناء "البانثيون" أول مرة عام 27 قبل الميلاد، وأنا على يقين أن من أعاد بناء "البانثيون" تأثر بما كتب "فيتروفيوس"ونقل عنه الكثير من الأفكار. من يرغب في فهم عمارة روما يجب عليه أن يعود إلى ما كتبه هذا المعماري الروماني، فقد تم اكتشاف نسخة من كتابه في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي 1415م وهي فترة أوج عصر النهضة وأثر في فناني ومعماريي تلك الفترة حتى إن "ليوناردو دافنشي" أجرى دراسة حول النسبة الذهبية من خلال ما كتبه "فتروفيوس". لقد وضع الكتاب ستة مبادئ للعمارة الرومانية هي: النظام: وهو الذي يحدد مقاييس معينة لعناصر متفرقة من العمل، والترتيب: الذي يضع كل العناصر في مكانها المناسب، ثم التماثل(Symmetry): وهو المطلوب للاتزان، والمناسبة (Propriety): وهي الضرورية لوصول التصميم لمرحلة الكمال، والجمال: وهو التناسق الناتج عن تكامل كل أجزاء العمل الفني، وأخيرا الاقتصاد: وهو الذي يستعمل الأقل في المواد والعمالة مع توفير قيمة جمالية أكبر. من يرغب في الدخول إلى قلب روما فعليه أن يفهم هذه المعادلة الرومانية التي صنعت المدينة في بداية تأسيسها ثم عادت مرة أخرى وأعادت صنعها في عصر النهضة. عندما كنا بالقرب من نافورة "تريفي" كنت أفكر في هذه المبادئ التي ساهمت في تحويل ساحات روما وطرقاتها إلى "معرض دائم" للعمارة والمدهش أنه أحيانا نشعر بالقصدية في أسلوب العرض نفسه وكأن المباني نفسها بنيت من أجل أن تكون ضمن معروضات الساحة أو الطريق. قلت للزميل نايف المطيري: إن روما تقدم تاريخها وجمالها للزوار بسهولة مثل أي معرض أو متحف للفنون المعمارية والبصرية. نافورة "تريفي" نفسها هي مسرح للعرض واللوحة المرمرية البيضاء بتماثيلها وتفاصيلها المدهشة هي لوحة معروضة ضمن لوحات كثيرة في وسط روما، وأشرت لمبدأ "التماثل" الذي كان ينادي به "فيتروفيوس" وكيف أثر في العمارة الأوروبية حتى وقت قريب إلى أن لفظته عمارة الحداثة في مطلع القرن العشرين، لكنه ظل أحد المبادئ الجمالية الأساسية التي نشأت على أساسه جميع الطرز الأوروبية بعد ذلك. روما قائمة على "التماثل" البصري وهي تقدم هذا التماثل على مستوى الوحدة العمرانية وأحيانا على مستوى النسيج الحضري، كما هو الحاصل في كنيستي التوئم في مدخل ساحة الشعب. العلاقة بين المباني في وسط روما القديمة ليست عشوائية بل هي نتاج عمق حضري مبني أصلا على فكرة العرض والتواصل مع الناظرين. المشاهد هو الأساس في روما فهو الذي يقدر الجمال وهو الذي يشعر به ودون التواصل معه وإرضائه فهذه المدينة لن تكون بصورتها الجميلة التي نراها اليوم.