كتب فيتروفيوس في مقدمة كتابه "الفائض لا فائدة منه"، و"عدم الشعور بحاجة أي شيء هو الغنى الحقيقي". بهذا المنطق الأخلاقي يقدم فيتروفيوس نفسه وكتبه العشرة، قبل أكثر من ألفي سنة من الآن. ويضيف "لقد حصلت على مدى واسع من المعرفة بفضل اهتمام والدي، والتعليم الذي لقيته على أيدي معلمي، كما اكتسبت ملكات فكرية من المتعة التي أشعر فيها في الموضوعات الأدبية والفنية وكتابة الأطروحات". وبالرغم من أن الكتاب يعود إلى أكثر من ألفي سنة، وتحديداً إلى العام السابع والعشرين قبل الميلاد، وبالرغم من أن المؤلف استند في عرض موضوعات كتابه على تجارب تعود إلى عهود سابقة لعصره، إلا أنه لا يحق لأي شخص أن يدعي أنه معماري، أو مخطط، سواء أكان منظراً، أو مصمماً، أو منفذاً، دون أن يفهم الكتب العشرة لفيتروفيوس. هذا ما يؤكده المعماري الدكتور محمد يسار عابدين، وهو رئيس قسم التخطيط في كلية العمارة في جامعة دمشق، وأحد ثلاثة تصدوا لترجمة هذا الكتاب، رفقة الدكتور عقبة فاكوش، والمهندس ياسر الجابي. لقد ازدهرت عمارة ما قبل الميلاد، ووصلت حدود الإعجاز في تقنيات بنائها، وتصميمها، وابتكار نسبها، وزخرفتها، وفلسفتها، حتى صُنف بعضها من عجائب الدنيا، أو أنه يفوقها، وكثيراً ما نُسب بناؤها إلى الجن، أو إلى العمالقة، أو مخلوقات فضائية وافدة. وبالرغم من أن العمارة الرومانية اشتقت عناصرها من الإغريق، ومن الحضارات السابقة لها، إلا أن الرومان قد طبعوها بطابعهم الخاص الذي لا تخطئه العين. وقد رتب فيتروفيوس الطرز التي اتبعها الرومان، وفصلها إلى ثلاثة أنواع، ثم أضاف نوعاً رابعاً، فكان التوسكاني، والدوري، والإيوني، والكورينثي، وغدت طرزاً معتمدة في عهد الإمبراطورية الرومانية من الربع الأخير قبل الميلاد حتى عهد النهضة والتجديد في إيطاليا، وهو العصر المسمى بال"رينساس" خلال القرن الخامس عشر. لقد هيمنت كتب فيتروفيوس العشرة منذ القرن الأول قبل الميلاد، حتى عصر النهضة وبروز ليون باتيستا ألبرتي (1407 1472). وهذا الاهتمام المستمر بفيتروفيوس، وبكتبه العشرة، إنما يدفع بقوة إلى شكر الزملاء الثلاثة على نقلهم كتب فيتروفيوس العشرة إلى اللغة العربية، وجعلها في متناول كل المعنيين بمسألة العمارة في العالم العربي. هذا على حد قول الدكتور رهيف فياض الذي وضع مقدمة للكتاب. والدكتور فياض معماري وأستاذ جامعي بارز على مستوى العالم العربي كله، ويعتد برأيه في مجال العمارة، بل وفي الأدب الذي يتناول العمارة، فالكتابة أيضاً هي نوع من العمارة. أما فيتروفيوس فهو ماركوس فيتروفيوس باليو، المهندس المعماري الروماني الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد. وُلد ما بين 70 80 ق م. عمل مهندساً حربياً تحت إمرة القيصر في أفريقيا، وشارك في فتح إسبانيا وبريطانيا. وكان مهندساً معمارياً في عهد "أغسطس". اعتزل العمل الرسمي في شيخوخته ليضع أصول أعظم الفنون الرومانية في كتابه المسمى: "الكتب العشرة في العمارة". ويخبر فيتروفيوس عن نفسه قائلاً: "إن الطبيعة لم تهبني طول القامة، ولم تُبقٍ السنون على شيء من جمال وجهي، وسلبني المرض قوة جسمي؛ ولهذا أرجو أن أكسب رضا الناس بعلمي وكتابي". كما يقول فيتروفيوس"لأن الحرفيين لا يمتلكون الفن الحقيقي، لكنهم يُسمون معماريين زوراً وبهتاناً، ولأن الواقع يقتضي ألا يحاول صانع الأحذية، أو أي من الحرفيين البسطاء، ممارسة أي فن آخر على منزله الخاص، ولأن هذا الأمر إنما هو محصور في المهندسين المعماريين، فقد رأيت من المناسب أن أؤلف بكل عناية بحثاً كاملاً عن فن العمارة ومبادئها، اعتقاداً مني أنها ستكون هدية مقبولة للعالم بأسره". لوحة الرجل الفيتروفي للفنان ليوناردو دافنشي، جاءت استناداً على حسابات فيتورفيوس. واللوحة هي رسم مصحوب بكتابات خطية وجدت بملاحظات دافنشي المرفقة بإحدى كتاباته الخاصة؛ كان قد رسمها في عام 1492، استناداً على نسب وضعها فيتروفيوس في عام 27 ق.م، والكتابة الخطية فيها مكتوبة بطريقة المرآة، حيث تكتب وتُقرأ معكوسة، وكأنها تُقرأ من خلال انعكاسها على سطح مرآة، والصورة هي تطابق وضعيتين لرجل عارٍ داخل إطارين، مربع ودائري. وبعضهم يسمي الرسم مع النص: مبدأ النسب؛ واللوحة رسمت بقلم حبر وألوان مائية، وهي ذات قياس: 24.5 × 34.3 سم، وهي جزء من مجموعة صالة الأكاديمية في فينيسيا بإيطاليا. وحسب ملاحظات دافنشي، فإن الشكل رسم وفق دراسة نسب جسم الإنسان الذكر كما وصفه المعماري الروماني القديم فيتروفيوس في مؤلفه "الكتب العشرة في العمارة". وتشير الدراسات إلى أن فيتروفيوس كان قد اكتشف النسبة فاي التي تساوي 1.618، وهي النسبة الذهبية (وهي نصف مجموع العدد 1 وجذر العدد 5)، ويعني أن نسبة الأطوال في التصميم الدقيق تكون بنسبة واحد إلى 1.618، وتتضح لدى فيتروفيوس في نسبه، فمثلاً طول الذراع إلى اليد كاملة يساوي هذه النسبة، وكذلك المسافة من الورك إلى الأرض مقسومة على المسافة من الركبة إلى الأرض، وغيرها كثير؛ كما أن الخطوط في النجمة الخماسية تقسم نفسها تلقائياً إلى النسبة فاي. وتعكس اللوحة إلمام دافنشي الكامل بعلم التشريح، ونسب جسم الإنسان التي كان مغرماً بها، فضلاً عن احتوائها على عدد من الرمزيات الغامضة، مثل اعتقاد بعض المؤرخين الفنيين أن الإطار المربع هو رمز للمادة، والدائرة رمز للروح. أما النص المكتوب، فيوضح أن دافنشي رسمها تطبيقاً لنظرية المهندس الروماني فيتروفيوس، ومن هنا جاء اسم اللوحة. وإعادة اكتشاف النسب الهندسية لجسم الإنسان في القرن الخامس عشر من قبل ليوناردو دافنشي، وآخرين غيره، تعدُّ أعظم إنجاز أدى إلى عصر النهضة. يذكر أن الكتب العشرة حملت عناوين (العمارة والمعماري مواد البناء نظام المعابد الأيوني المعابد الدورية والكورينثية المباني العامة المنازل الخاصة الإكساءات والألوان المياه الساعات ومبادئها الآلات ومبادئها). واعتمدت الترجمة على نسخة مطبوعة في جامعة هارفرد عام 1905. الكتاب صدر عن منشورات جامعة دمشق كلية الهندسة المعمارية 2010، في 371 صفحة من القطع المتوسط.