الوطن كلمة جامعة لمعانٍ كثيرة وكبيرة لا يمكن حصرها لأنها تتمدد وتتقلص حسب نسبة الانتماء والولاء له من قبل ساكنيه إلا أن الكلمة أو المعنى الشامل الذي يتفق عليه الجميع هو أن الوطن عبارة عن المكان الذي تحفظ فيه الكرامة ويحصل فيه الرزق، يلي ذلك المعاني والتفرعات الأخرى التي تزيد المحبة أو تقلل منها، وفي الحقيقة لا يوجد في الحياة مكان أجمل وأبهى من المكان الذي ولد وترعرع فيه الإنسان حيث ارتوى من مائه وتنفس هواءه وتفيأ ظلاله، ولذلك تبقى تلك المعاني راسخة في كيانه وعقله الباطن مهما بعد عنه، لأن ما مارسه في تلك المضارب والربوع في الصغر تظل منقوشة في عقله وكيانه مهما كبر «العلم في الصغر كالنقش في الحجر» وللشعراء قولة حق في حب الأوطان والتعبير يكون أوثق إذا جاء على لسان مغترب أو جرب الغربة: يظل الحنين إلى الوطن قيثارة الشعراء وملهمهم ويظل الوطن بحاجة إلى زرع مزيد من الولاء والانتماء بعقول ونفوس مواطنيه حتى يصبح كل واحد منهم جندياً مخلصاً يحذر أن يمر الأعداء من خلاله كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل ويقول آخر: وحبب أوطان الرجال إليهم مآرب قضاها الشباب هنالك وقال ثالث: وطني وإن شغلت بالخلد عنه نازعتني إليه بالخلد نفسي وكل إنسان له حقوق وعليه واجبات تجاه وطنه، فإذا أدى الواجبات استحق الحقوق، وقد سأل أحد الحكماء أحد الأشخاص ما هي أحلامك فأجابه أن أملك بيتاً وأن أتزوج وأكوّن أسرة وأن يكون لي مصدر رزق أعيش منه، فقال له الحكيم لم أسألك عن حقوقك، بل سألتك عن أحلامك. والوطن وأهله لصيقان فكل منهما يكمل الآخر وإن حدث جور منهما أو من أي منهما فيظل الوطن وأهله مركز الانتماء ولهما الولاء: مهما يجر وطني عليّ وأهله فالأهل أهل والبلاد بلادي ويقول آخر: بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وأهلي وإن ضنوا عليّ كرام ويقول ثالث يتذكر: وطن النجوم... أنا هنا حدق... أتذكر من أنا؟ أنا ذلك الولد الذي دنياه كانت هناك! والحقيقة أن كل وطن تعيش فيه وتأنسه وتجد فيه الكرامة والعدل يصبح جزءاً لا يتجزأ من ذكرياتك وميلك إليه إلا أنه لم ولن يلغي الانتماء والحب للوطن الأول الذي تظل تنسب إليه مهما كبر أو صغر، وهذا هو المنبع الأول لحب الأوطان تتراكم بعده مسببات أخرى تزيد الشوق إليه وإلى ربوعه، وحب الأوطان هو الدافع الرئيس للدفاع عنها وهذا الحب يزرع وينمّى من خلال التربية والتعليم ومن خلال الإعلام ومن خلال حراك المجتمع الثقافي ومن خلال التربية الأسرية ومن خلال الوسائل التي تبني ولا تهدم، وتقدم الوطن وثقافته وانتماؤه وقبل ذلك وبعده عقيدته على أنه المسرح الذي ينعم فيه الجميع بالمساواة وتكافؤ الفرص دون أن يطغى تيار على آخر فالتعددية مطلوبة ومصادرة الرأي من قبل البعض مرفوضة جملة وتفصيلاً ولهذا تتم المناداة بمنع التصنيف منعاً للتحزب الذي يؤدي إلى الانقسام مع ضمان حرية التفكير والتعبير للكل دون تجاوز للحدود والأعراف وحرية الآخرين وأمن الوطن واستقراره. وهنا لا بد من العودة إلى أن حب الوطن واحترامه والولاء له كان يقدم من خلال المقررات الدراسية في مراحل التعليم العام بصورة أفضل مما هو عليه الوضع الآن. حيث كانت مادة المطالعة وما تحويه من نصوص شعرية وأدبية، وكذلك مواد الأدب والنصوص وغيرها تقدم نصوصاً وقصائد ومقالات نثرية على درجة عالية من الانتقاء والاختيار الموفق ولذلك لا زال كثير ممن عايش تلك المرحلة يحفظ كثيراً من النصوص الأدبية الرائعة والراقية عن حب الوطن وأمجاده. أما الآن فقد تغيرت الحال وأصبح كثير من النصوص المقررة لا تضاهي ولا تقارب السابق، مما ميع المعاني وأفقد التأثير. ولحل مشكلة التحديث يمكن الجمع بين القديم المتميز والجديد إن كان متميزاً وبذل الجهد للمقارنة حتى لا نفقد التميز ونظل في سياق مسيرة زرع حب الوطن في عقول شباب الوطن مما ينمي الفكر والعقل وعدم الاكتفاء بتشجيع المنتخب بصورة عشوائية فالوطن لا يحب من خلال الفوضى بل يحب في كل المناسبات ومن خلال الالتزام بالنظام واحترامه، ولحب الوطن والولاء له أبعاد ومحاور ووسائل وغايات يجب أن يتم الالتزام بها على قاعدة أن الوطن لا يمكن أن يباع ولا يمكن أن يشترى: ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا والفراق عن الوطن حتى مع توفر أسباب العيش والتمكين يظل يؤرق صاحبه، فهذا عبدالرحمن الداخل بعد أن استتب له الحكم في الأندلس لما رأى قافلة متجهة إلى الشام تذكر غربته وبعده عن وطنه الأصلي فقال: أيها الراكب الميمم أرضي أقر من بعضي السلام لبعضي وإن جسمي كما علمت بأرض وفؤادي ومالكيه بأرضي قدر البين بيننا فافترقنا وطوى البين عن جفوني غمضي قد قضى الله بالفراق علينا فعسى باجتماعنا سوف يقضي وفي يوم من الأيام رأى بقصره - قصر الرصافة - نخلة أمر هو بجلبها من الشام فقال: تبدت لنا وسط الرصافة نخلة تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل فقلت شبيهي في التغرب والنوى وطول التنائي عن بنيّ وعن أهلي نشأت بأرض أنت فيها غريبة فمثلك في الاقصاء والمنتأى مثلي سقتك غوادي المزن من صوبها الذي يسح ويستمري السماكين بالوبل ويظل الحنين إلى الوطن قيثارة الشعراء وملهمهم ويظل الوطن بحاجة إلى زرع مزيد من الولاء والانتماء بعقول ونفوس مواطنيه حتى يصبح كل واحد منهم جندياً مخلصاً يحذر أن يمر الأعداء من خلاله فللوطن حق في رقاب مواطنيه يجب سداده بالإخلاص والولاء والانتماء والتفوق والجهد والاجتهاد وتحقيق التفوق في جميع المجالات، فذلك هو السبيل الأوحد لسداد ذلك الدين المستحق: وللأوطان في دم كل حر يد سلفت ودين مستحق