ولدَ الشاعر ليكون عرافاً يرى ويحس لما حدث ويحدث . إنها فكرة الجدل القديم لمكانة الشاعر الروحية في المجتمعات منذ البدء البشري وحتى اليوم . ولقد بقي الشاعر ممسكاً شمعة الرؤى في تفسير العالم وفق الرؤية التي تسكنه بخاطرة رمشه ونبض قلبه وهاجس المكان وضمن سياق لغوي بليغ وذي لحن وتأثير. وكان الشاعر في الاساطير الاغريقية ماسكا لنبض قلب العالم . وفي اساطير بابل الشاعر صوت الملك . وفي خيال الفراعنة كان الشاعر صوتا للحكمة والنافذة التي يطل منها الملك الى بوابات النور وهو يسعى الى ما كان يعتقد انها الالوهية المكتسبة بفضلهم . وفي جدل هذا الوهم ترك ملوك مصر كَتَبَتُهم يدونون على اوراق البردي عالم التخيل والطلسم والادعية .غير ان الشعراء كانوا يدركون الفهم في وعي حقيقة الحلم .فابتعدوا عن نفاق الكهنة المتفرعنين ووهم الهة الشمس الساطعة والتجأوا الى حكمة الوجود السماوي والكلمات .فكانت حكاية الفلاح المصري الفصيح وهو يشكو للفرعون الظلم والجور والخديعة هي واحدة من ملاحم الشعر الحقيقي لنبل الشاعر وعظم رسالته ، لقد أوجز بصوت الشعر وجرس موسيقى الكلمات حقيقة الواقع الذي كانوا يحجبونه عن الملك ، ومنذ تلك اللحظة عرف الناس أن المكنون هو صور الوعي الناطق لحقيقة ما يجري وابتدأت مهمة الشعر منذ تلك اللحظة تقول للملك الصالح : لك المجد والخلود ويحق لك أن تكون راعيا وخادما لأرواحنا في الحياة ولأمكنتنا المقدسة ولترابنا والسماء التي نستظل تحتها ، وللملك الجائر: لك الحزن والجحود . كانت مصر هبة النيل ، ووعاء المطر والقمح والتمر . وكان الناس يعتقدون أن مصائر العالم ترتبط بمصائر مصر ، لهذا حين وافت المنية الاسكندر الكبير في ارض بابل همس لقادته : ليكن قبري في مصر. وبسبب مصر كانت منية يوليوس قيصر .ومنية الطموح المغولي ومنية أطماع نابليون وغيرهم . إنها بلد للمصائر المدركة والواعية .وهي كما يتذكرها فيثاغورس : الرقم الصعب في اتجاه المثلث الى شرقه المحسوب بالرقم الزمني. ويصف عمر بن العاص فتحها : بالخير الذي يوفر الماء والهواء والزاد وتاريخ اهل الكنانة بالزهو نمضي معهم براية الدين اينما يؤشرون لها .وكان في قصد القائد العربي :أن مصر بوابة كبرى من بوابات الفتوحات. مصر هنا في وجدان الشاعر عبدالله محمد باشراحيل تلهمه الرؤية التي سكنت الشاعر منذ أزل الحلم . شاعر مكي يتدفق منه بهاء اخيلة الرؤى في حكمة معرفته وقيمة احساسه بما حوله . الشاعر الذي سكنته انفلات شغاف الروح ومنحته امكنة الذكريات صورة الالهام والتخيل والتجربة لما يسكنه في وجدان الزمن المعاش وتلك الرموز الملتصقة بذاكرته وهو الذي يحملها معه في ابدية ترحاله الموثق بعاطفة قلبه وعينيه ومنجزه الأدبي ، مكة التي اورثته من بهاء طقس المؤمن ومنحته طاقة التواصل مع العالم ، وقد اسرني في صدفة التحاور معه : أن قصيدته مسكونة من جبال مدينة كعبتها تمنح العالم القدرة على ان يبقى ويتطور ويغني المحبة والسلام في قلوب البشر . مكة التي يراها باشراحيل سماء من اقمار الفضيلة ومكمن لنبوءات الوحي المشرق في دلالة الضوء وقرآن الكلمة العربية الفصيحة كانت وللابد من الامكنة الجديرة التي تمنح امراءها وشعراءها ومفكريها واهلها اجمعين القدرة على امساك الخيط المؤدي الى مسالك الحلم والتعويذة وادعية صلاة الروح الحاجة اليها من كل منابع الارض. .وبذات الروح تأتي رؤية الشاعر المكي عبدالله باشراحيل الى مصر في قراءة تواصلية لمكان احبه وتعلم فيه ، وهي رؤية واعية ومدروسة وتتناوبها عاطفة استقرائية وحكيمة لبلاد كان باشراحيل يعزها كثيرا بشغاف فكره وقصائده وكأنه يفعل في خصوبة مدركاته واحلامها سرائر الامكنة التاريخية بين ضوء آيات موسى عليه السلام .والسبط البهي المولود بمكة (محمد بن عبدالله) صلى الله عليه وسلم فنراه عميقا ومرتكزا على ثقافة التاريخ والشعور والتخيل حين يسكنه هاجس مصر وحالها وهذا ما سنراه ونحسه في نصه الموسوم (مصر بين الأمس واليوم) والنص بمجمله يتراوح بين القراءة التنبئية والسياسية والادبية والاجتماعية وهذه المستويات المتجانسة والمتوازية في ابيات النص هي من تحدثنا عن علاقة الشاعر بالمكان وقراءته القريبة لكل تفاصيله في موروث التاريخ المعاش الذي سكن بدن الشاعر عبدالله باشراحيل عبر تواريخ دراسته وسفراته وملتقياته في هذا البلد الذي وصفه في اصيل قصائده ولقاءاته الادبية في الصحافة والتلفاز : مصر بالنسبة لي ظل احلامي المكية والتواصل واكتمال التجربة وبهاء عناوين قصائدي الاولى .فإذا كانت مكة هي الامومة والابوة والمكان الاثر في وجدان طفولتي وصباي وبدء الموهبة وتاريخ المكان والقبيلة وعشق السمو والولاء للسمو الملكي ونبع خير المودة فإن مصر مكملة راحلة الطريق الى بهاء التجربة الابداعية التي امتلكها الآن ... هذه القصيدة هي رؤية الشاعر ونبوءته واحساسه وصرخته وقراءته السياسية لواقع حال بلاد يستشهدها بأديم امطار قلبه من خلال القصيدة وينادمها بعذوبة القول ويقرأها كما يعتقد ان هذا ما سيكون من حال البلاد فيرينا باشراحيل الصورة الاقرب لواقع مصر وهو الذي ينبئ قارئه بأن ما يتحدث عنه الان هو كما سيكون ، وعليه أي (باشراحيل) أن يجعل من صورة مصر في خياله بين زمنين هي التعويذة التي يتمناها لتحفظ مصر وتصونها وكأنك تقرأ في القصيدة استقراء الحال في بلاد بما يمليه الموقف الرجولي والانساني والضمير الحي الذي يربط الشاعر بضمير بلد يدرك تماما قيمته ويحن اليه وتملي عليه ما يحدث فيها أن يجعل الشعر رائياً ومسافرا ومتمنيا لما يجب ان تكون عليه حال هذه البلاد الاصيلة. يقول عبدالله باشراحيل :(تعلمت من مصر أن الحياة بها موعظة .وتعلمت من مكة أن الحياة بها صلاة والجمع بين الموعظة والصلاة طريق هداية الروح والجسد وما كنت اكتبه في ربوع مصر لهو مشاعر الفيض المكتسب من محاسن تلك البلاد .فإذا كانت مكة تمنحنا صدق الوجدان والايمان وقيمة الانسان .مصر تمنحنا براءة المشاعر ونبوءة الضمائر وخبايا السرائر) . ولهذا نرى باشراحيل هنا ينزل لهيب حماس المكان الذي يعشقه في شباب تعليمه واول سفرياته في العالم الفسيح وقراءته بشيء من حزن واسى فجيعة ما تعانيه مصر وكأنه في هذا يعيش هاجس الخذلان المر فيدفع ما في صدره لشجاعة القول ان يكون هذا البوح شيئاً من الاعتذار لتصور قديم كان يسجله والآن خاب الرجاء فيه : كم قد مدحت ولم أكن أدري أن الجحود خلائق الكبر خاب المؤمل فيك وأسفا بعت القريب وللعدا تقري هذه الرؤية المسكونة بخذلان ما . هنا في قراءتها لا ترتبط بحادثة وتاريخ ما .أنا اتخيلها مكتوبة لأزمنة مصر كلها والتي تنتهي اليوم بحال بائس تشهده شوارعها وساحات التحرير فيها .ثورة من الفوضى والتخبط واداء سيء لتواريخ ممالكها منذ ان مُصرتْ وصارت حاضرة للوعي العربي ، وحتى خيبة المتنبي في كافورها وانتهاء بهذا الحال الذي نراه مجسدا في رؤيا باشراحيل للتاريخ الذي احب فيه طيبة اهله وعروبتهم وغيرتهم على الارض والجار والقضية بالرغم من نكبات حكوماته المتواصلة وخاصة في العصر الحديث ويمثلها واقع الخامس من حزيران وما تلاه. وربما شجاعة هذا النص ترينا كل هذه التواريخ بحقيقة ما يحدث في مصر الان وكأنه يأتي هنا (باشراحيل) ليحمل قلب مكة (المنجد) لواقع اتعبته الويلات ومآسي الانظمة وصراخ ثكالى ضحايا الحروب المنكسرة .لتكون مكة وكما هي منذ أن اوجد فيها ابراهيم (عليه السلام) الزرع والضرع .تكون الحاضنة والمنقذة والملبية ابداً لنداء فجيعة المدن الاخرى ، لهذا نرى باشراحيل يحمل الألق والرؤية والابداع المكي ليتفاعل مع مصر ويقرأ حال التواريخ في أمسها وغدها ويرينا في قصيدته المسكوت عنه والذي ينبغي أن يقرأ ويسمع من اجل مصر واهلها .هذا الجمع المكافح الذي عاش كل التواريخ وهو لا يدهن جسده سوى بعطر طين النيل ومائه الذي لم يزل يزرع في الجبين صفاء الموج وزهر اللوتس لهذا نراه (الشاعر عبدالله محمد باشراحيل) يصف مصر في اختصار تواريخها بثلاثة ابيات تُريك ما يمتلئ به فؤاد الشاعر من عبق المكان وما آل اليه وكأنه هنا يرسم فجيعة لروحه المتألمة: مصر التي غنيتها زمنا الجور يسكنها ويستمري مصر التي اعلتك قد ألمت ولسوف يعقل أمره المصري مصر التي الافلاكَ منزلها أمستْ تنام على لظى القهر هو (الشاعر) المتألم يرينا كبد حقيقة ما تنطق به مصر. يعلوه في شغاف الحلم موهبة وينطق من فؤاد القلب جرحه .هو لا يتحدث هنا عن اسى جديد بل يتحدث عن واقع لمسه وعاشه لكنه طفح بكيله الان فكان على قصيدة باشراحيل أن تكون مثل صرخة الضمير . ضمير مكة الابدي ووجدانها الداعم لعروبية النسل والعرق والانتماء ، فيتحدد بهاء الرؤية بالقديم والمستجد ويكثف لنا الشاعر فهم المكان ويحدد معالم اسباب ثورته وكأنه يضع للنبوءة رؤى لا تستقر على حال .وهو ما يجعل نصه يأتي بنبرة حماسية ولكنها مفجوعة ببحر من الدمع : صوت الجياع أقض مضجعها والداء في الأجسام يستشري كم حاكم في الأرض تحكمه أهواؤه وزمانه يزري يغري به الترهيب مقتدرا والظلم يورثه نقمة الدهرِ هنا ترينا نبوءة الشاعر حال فراعنة مصر لكل ازمانها . قدرة في المخيلة جمعها (باشراحيل) في صوت عالٍ من حلم قصيدته .وهو هنا لا يحلل ولا يرى ما يحدث بل هو (الشاعر) ينقل الاحساس الخفي والحي والنبض الابدي لوجع الانسان والتاريخ المصري . هو في هذه القصيدة يرينا أن مصر تحكمها نبوءة وتسقط عروشها النبوءة ايضا .لكن الحياة دائما هي حياة الملك الصالح حين يكون شعبه له وليس عليه .لهذا ترى باشراحيل يحمل عطر ملكه ومدينته الصالحة ويتأسى على مصر ويتمنى ان تكون حياتها كما مكة .فحين اسرى منها نبيها كانت هي واجهة الثورة والتغيير من الجهل الى النور . هذا النور حملته قصيدة باشراحيل في ثنايا مدركها ومستنبطها ومثلث في روح الشاعر قراءة المكان الذي لا يتوانى عن اللجوء اليه كلما احس بالرغبة لاكتشاف العالم في رؤى جديدة وهو القائل :مكة بيت الروح والجسد .ومصر بيت القصيدة والورد . وكما في مقولة الشاعر الفرنسي اراغون : الآمال الكبيرة لا نراها سوى في اجفان الشعراء الكبار .نرى الشاعر عبدالله محمد باشراحيل يضع ذات الرؤية المتأملة والمؤملة في حنايا وجدان النص وضميره بصوته العالي ونبرته الرجولية المخلوطة بأداء عذوبة موسيقى الشعر وهو يضع للبلاد (مصر) مساحة من الأمل المضيء في مواجهة فجيعتها وثقته بقدرتها التاريخية والحضارية على تجاوز محنتها .وربما (باشراحيل) يمهد لها الطرقات من خلق نبض وجدان كلماته .وكأنه يمسك في ادعية الوجد مفاتيح نبوءة الحلم في كيماء التراب تلك التي وصفها عالم مجيد ومؤمن كابن الهيثم (التراب ذهب عندما نمسكه جيدا) . ومصر كما يرينا نص الشاعر المكي ترابها ذهب اذا مسكته اقدارها وشعبها جيدا .وربما الامل الذي يرسمه لها باشراحيل في قصيدته يعزز تلك الرؤية ويجعله دائم التواصل مع هذه البلاد (مصر) التي احبها واحبته: يا مصر مازلنا على أملٍ هيا أعيدي النور للفجر وحتما شاعر كما (عبدالله باشراحيل) تجتمع في وجدانه تواريخ مصر عبر اروقة مكة وحاراتها الازلية لجدير به أن يصنع الأمل الكبير للبلاد التي توجعت امس وتتوجع الآن .فنراه كما في تأملات الحالم بالأمل الكبير يضع النور في نهاية النفق والقصيدة. المانيا 2 كانون ثاني 2012