لا زالت نتائج زيارة رئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ لواشنطن وما أسفرت عنه من اتفاقات تاريخية الطابع تثير جوا من النقاش والتأمل في نيودلهي، كما في إسلام آباد، وبطبيعة الحال في بكين. وثمة تحليلات ومقاربات متفاوتة للمسار الذي قد تصل إليه العلاقات الهندية الأميركية، ودوافع واشنطن للذهاب إلى هذا المدى المتقدم في العلاقة مع نيودلهي. ثم يثور السؤال الأهم بعد ذلك عن تأثير هذا المتغير على مستقبل الأمن في جنوب آسيا، كما على بيئة التوازنات الاستراتيجية في عموم القارة. لقد كانت نهاية الحرب الباردة إيذانا بتطور مكانة الهند في الحسابات الأميركية، ولم يكن ذلك نتاجا لتحول في الوظيفة الجيوبوليتيكية للهند، بل إفراز لتحولات جيوستراتيجية كونية أفادت منها الهند من دون أن تكون طرفا في صياغتها. وفي المقابل، جاءت التطورات الكونية لتصوغ تحولا كبيرا في الوظيفة الجيوبوليتيكية للدولة الباكستانية، وذلك على الرغم من أن هذا التحول قد جاء على مستوى الاتجاه وليس من حيث الوزن أو الثقل الجيوبوليتيكي. بيد أن إحدى خلاصات هذا التحول كانت الحد من مكانة باكستان في المدرك الاستراتيجي الأميركي، بالمدلول العام للمصطلح. وعلى الرغم من ذلك، اتجهت بعض المقاربات الأميركية للقول بأن خدمة المصالح الأميركية بعيدة المدى تبرر توثيقا مستديما للعلاقة مع إسلام آباد، وتبدأ هذه المصالح بالمعطى الجيوسياسي لباكستان، فهي مجاورة للهند وأفغانستان، علاوة على كونها بوابة لمنطقة آسيا الوسطى برمتها. وهي في الوقت نفسه ثاني أكبر دولة إسلامية على المستوى الديموغرافي. وهذه المعطيات هي التي قادت بعد أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر إلى عودة باكستان إلى القيام بدور «الخط الأمامي» بالنسبة للسياسة الأميركية، بل إن هذه الأهمية المستجدة (وليس الجديدة) هي التي دفعت الولاياتالمتحدة لاعتبار باكستان «حليفاً رئيسياً خارج الناتو»، وقد أدى ذلك إلى إعادة فتح خطوط تصدير السلاح إلى إسلام آباد، والتي كانت قد أغلقت في العام 1990، عندما سار الباكستانيون قدما في برنامجهم النووي. وتحاشيا لردود فعل سياسية هندية غير متوقعة، أعلنت الخارجية الأميركية في الخامس والعشرين من آذار مارس سلسلة من المبادرات الهادفة إلى طمأنة نيودلهي حيال حيثيات وتبعات قرار بيع مقاتلات اف 16 لباكستان. والحقيقة إن رد الفعل الهندي جاء بعيدا عن التوقعات، أو لنقل أقل حدة وانفعالا مما كان متوقعا. وعلى الأرجح ثمة سببان رئيسيان لذلك، الأول وجود حكومة هندية غير متطرفة يقودها حزب المؤتمر، والثاني إدراك نيودلهي لطبيعة الموقع الذي باتت تحتله في السياسة الأميركية في المنطقة، مما يعني أن القرار لن يمثل تحولا في هذه السياسة، تماما كما حدث حين حصل الباكستانيون على موقع شريك استراتيجي من خارج الناتو. يضاف إلى ذلك، أن نيودلهي تدرك دون ريب حجم التحديات الكامنة في مناخ العلاقات الأميركية الباكستانية، وهي تحديات يؤججها حزام التوترات الممتد بين طشقند وبغداد، مرورا بكابول وكشمير. كذلك، ثمة اتجاه تحليلي بدأ يفرض نفسه لدى العديد من المختصين ومفاده أن واشنطن لم تعد تنظر إلى علاقتها مع الهند وباكستان على أنها ذات «معادلة صفرية»، أي أن تحسين العلاقة مع طرف تعني بالضرورة خصما من رصيد الطرف الآخر. وحسب هذا الاتجاه، فقد أدركت الإدارة الأميركية أن نهجها السابق المرتكز إلى معادلة صفرية قد أدى إلى تقليص الخيارات المتاحة أمامها في التعامل مع الدولتين، اللتين تعد كل منهما ذات أهمية استراتيجية بالنسبة للمصالح الأميركية، كما أن القوى المنافسة لواشنطن قد أفادت كثيرا من هذا النهج، حيث جعل حرية المناورة أمامها واسعة، وهذا ينطبق تاريخيا وحاليا على كل من روسيا والصين. وإذا كانت الولاياتالمتحدة قد حزمت أمرها نهائيا وتوجهت نحو بناء شراكة استراتيجية، أو قريبا من ذلك، مع الهند، فان عدم إعطاء القدر الكافي من الاهتمام بالحليف الباكستاني التقليدي من شأنه لو حدث أن يخلق لدى باكستان تحالفات خارجية ومعطيات داخلية غير مؤاتية للولايات المتحدة، بل ومهددة لمصالحها. الأكثر من ذلك، إن النمو الاقتصادي المتسارع الذي حققته الهند خلال العقد الماضي، قد أسهم في بروز طبقة سياسية جديدة يتوقف نجاحها كلية على الاستقرار الإقليمي في المنطقة. وفي حين كانت النخبة الهندية التقليدية تنظر يوما ما إلى انهيار الجارة باكستان باعتباره انتصارا وشرطا أساسيا لنجاحها فإن النخبة الحديثة ترى في انهيار كهذا مهددا رئيسيا لنجاح وتقدم الهند ذاتها. ودعونا نتحدث الآن عن العلاقات الأميركية الهندية ذاتها. يمكن القول في البدء، إنه من دون الحاجة إلى الحديث عن أهمية مركزها الجيوسياسي، فان الهند في ظل وجود نصف سكانها تحت الخامسة والعشرين، سوف تمتلك أقوى طاقة بشرية شابة في العالم، بل يتوقع أن تتفوق كتلتها الديموغرافية على جارتها الصين بحلول العام 2030. كذلك سوف تتفوق الهند على اليابان لتصبح ثالث أكبر اقتصاد في العالم خلال الخمسة والعشرين عاما القادمة، وذلك بعد الولاياتالمتحدة والصين. وتعتبر الولاياتالمتحدة اليوم أكبر شريك تجاري للهند، حيث تجاوز حجم التبادل بين البلدين 18 مليار دولار في العام، كما تعتبر واشنطن أكبر مستثمر أجنبي في الهند، وهي وتخصص نحو أربعين في المائة من تأشيرات الدخول الخاصة بالعمل فيها لخريجي الجامعات والمعاهد الهندية في مجال تكنولوجيا المعلومات. ومدفوعة بتعطشها للنفط، سعت الهند في السنوات الأخيرة لتعزيز حضورها السياسي ونشاطها الاستثماري في دوائر إقليمية عدة، في جنوب القارة وجنوبها الشرقي، كما في هضبتها الوسطى. وهي باتت تنافس جيرانها الصينيين والروس، بل واصطدمت بالسياسة الأميركية حينما اقتضت مصالحها ذلك، كما يتضح الآن من علاقتها بطهران، وموقفها من الأوضاع في العراق. وفي تطور لا يخلو من مغزى، انضمت الهند هذا العام إلى «مجموعة شانغهاي للتعاون الأمني الإقليمي» بصفة مراقب، وذلك خلال قمة المجموعة الأخيرة التي عقدت في كازاخستان. وهي بخطوتها هذه قد بعثت رسالة للعالم مفادها أنها لن تظل بعد اليوم خارج دائرة المصالح في آسيا الوسطى. ولدى الهند حاليا خطة للحصول على العضوية الكاملة في المجموعة. وتمتلك الهند قاعدة جوية صغيرة بمنطقة «فارخور» بكازاخستان، وهي الوحيدة التي يمتلكها سلاح الجو الهندي في المنطقة، وتستغلها الهند في تقديم المساعدات لأفغانستان . فيما يرتبط بالسياق العام للعلاقات الهندية الأميركية، تبدو ايحاءات المحيط بالغة وذات دلالة كبيرة. وهي لا تنحصر هنا ببروز الصين، وإن كان هذا البروز يحتل موقع القلب من هذه المقولة. فالمخاوف الأميركية من قيام الصين بتحديث منظومتها الدفاعية باتت واضحة من خلال التقارير التي ترفعها باستمرار وزارة الدفاع ( البنتاغون) إلى الكونغرس، والتي تركز بوجه خاص على محاولات بكين تطوير قدراتها النووية وسلاحها الجوي وأسطولها البحري، بالإضافة إلى مساعيها الحثيثة لارتياد الفضاء والسيطرة عليه. ولعل ما ضاعف من تعقيد البيئة الاستراتيجية في شرق آسيا هو تصاعد التوتر في علاقة الصين باليابان، الحليفة الرئيسية لواشنطن في المنطقة، فضلا عن التحدي الذي يطرحه الملف النووي لكوريا الشمالية. والصين هي البلد الذي يرتبط بكل من الهند وباكستان بحدود مشتركة، مع ملاحظة أن الحدود الهندية الصينية شاسعة وممتدة، بل تعد إحدى أطول الحدود الجغرافية في العالم، وقد قامت على خلفية الدعاوى الخاصة بها حرب قصيرة بين البلدين في العهد الماوي الأول. ولا زالت العقيدة الدفاعية الهندية مصممة في بعدها الأكثر محورية على أساس مواجهة الخطر الصيني، بل إن نيودلهي قد أعلنت صراحة أن دافعها لإنتاج القنبلة النووية يتمثل في موازنة القوة الصينية. أما باكستان، فإن علاقتها بالصين قد حاصرتها التطورات المتسارعة منذ أحداث الحادي عشر من أيلول سبتمبر، وهي قد فقدت جزءا من مضمونها الاستراتيجي بحكم التتابع المنطقي للأحداث. وعلى الرغم من ذلك، بقيت هذه العلاقات عنصرا أساسيا في حسابات النزاع الهندي الباكستاني، بل وحتى في المقاربة الكلية للعلاقات الباكستانية الأميركية، وهي بالطبع جزءا رئيسيا في مقاربة الالتقاء الهندي الأميركي. على صعيد التعاون العسكري الهندي الأميركي، فإن الاتفاقية الأخيرة التي وقعت في 28 حزيران يونيو الماضي، كامتداد لاتفاقية أخرى سابقة دامت عشر سنوات، قد أتت لتشكل إطارا متقدما للتعاون بين البلدين في المجال الدفاعي. وبموجب تلك الاتفاقية سيكون بمقدور الهند استخدام الأسلحة الأميركية بما فيها الأنظمة ذات التكنولوجيا الفائقة كطائرات اف-16 واف - 18، وذلك لتحديث المنظومة الدفاعية للهند التي تعاني من ثغرات كبيرة على هذا الصعيد. وتدور في الوقت الراهن نقاشات جدية بشأن إقامة نظام للدفاع الصاروخي في الهند بمساعدة أميركية، من خلال تقديم منظومة صواريخ باتريوت مضادة للصواريخ. وهو تطور، لو تم، فسوف يكون فريدا من نوعه، لأن الهند لم تستطع الحصول على أسلحة أميركية خلال العقود الخمسة الأخيرة. ولم يقتصر الأمر على ذلك، فالأسلحة البريطانية التي كانت الهند تحصل عليها من بريطانيا بصعوبة بالغة، وتحت إلحاح شديد، خصوصا خلال السنوات الأخيرة، كانت تحتوي على قطع أميركية، وبالتالي كانت تخضع لقرارات حظر تصدير الأسلحة الأميركية إلى الهند. ولكن بعد أن أصبحت الهند في وضع يمكنها من شراء ما قيمته خمسة مليارات دولار سنويا من منظومات الأسلحة من الخارج خلال السنوات الخمس القادمة، وقيامها ببحث مسألة شراء طائرات مدنية، ومشتريات بنية أساسية بقيمة 21 مليار دولار، واتجاهها لشراء 125 طائرة مقاتلة من طراز إف-16 وإف-18 من الولاياتالمتحدة، فإنه ليس هناك ما يدعو للدهشة عندما نرى كبار المصنعين الأميركيين قد تدفقوا على معرض الطيران الهندي «ايرو أنديا» الذي عقد في مدينة بنغالور الهندية في شباط فبراير الماضي. وسوف تحصل الهند على ميزة طبيعية بسبب قدرتها على تصنيع الأسلحة في مصانعها، بل وقدرتها على إنتاج مكونات رئيسية، ومنظومات أسلحة للقوات المسلحة الأميركية ذاتها، ولصناعة الطيران المدني فيها من خلال برامج المبادلة (أوفست) التي ستعقدها مع الشركات الأميركية، التي تتعامل معها في مجال السلاح. وفي الوقت الراهن تستورد الهند ما بين 75-80 في المائة من منظومات الأسلحة من دول الاتحاد السوفياتي السابق،روسيا على وجه الخصوص، في حين تقوم باستيراد النسبة الباقية من أوروبا. على الصعيد السياسي، يبرز تباين لافت في موقف الولاياتالمتحدة من الملف النووي، حيث ينطلق ذلك الموقف تقليديا من مبدأ حظر انتشار الأسلحة النووية. وفي الاجتماع الأخير الذي عقده الرئيس الأميركي جورج بوش مع رئيس الوزراء الهندي سينغ في 17 تموز يوليو الماضي، خلال زيارة الأخير للولايات المتحدة، حاول الطرفان حل حيثيات المسألة النووية وأعطيا إشارات قوية على ذلك في البيان المشترك الذي جاء متضمنا ما يشبه الصفقة بين البلدين. فقد تم التوصل إلى صياغة معقدة وُصفت الهند بمقتضاها على أنها «دولة مسؤولة تمتلك تكنولوجيا نووية متقدمة ،وهي بذلك تشبه الولاياتالمتحدة». وتعهدت واشنطن بتقديم مساعدات إلى الهند في مجال الطاقة النووية والتعاون معها تجاريا. وبناء على ذلك الاتفاق سيتم التعامل مع الهند على أنها دولة نووية مع التزامها بقواعد السلوك المسؤول، ولكن دون الاعتراف الرسمي بهذا الوضع. وفي المقابل، سوف تلتزم الهند بمجموعة من التدابير تهدف إلى حظر نشر الأسلحة النووية بما في ذلك خضوعها لقوانين صارمة لمراقبة صادراتها، بالإضافة إلى وضع كافة المرافق النووية الموجهة للاستعمال المدني تحت المراقبة الدولية والتقيد بضوابط السلامة. وتأكيدا لهذا التعاون الذي بدأ يتوثق مع الهند صرح الرئيس بوش على هامش زيارة سينغ قائلا: نظرا لقيمنا المشتركة، فإن العلاقة بين بلدينا هي أقوى اليوم من أي وقت مضى. ولعل الأمر الوحيد تقريبا الذي لم ينل موافقة واشنطن، وأبدت تحفظها الواضح نحوه، هو الطلب الذي تقدمت به نيودلهي للاعتراف بها كدولة نووية تحت معاهدة حظر الانتشار النووي، وذلك بهدف الانضمام رسميا إلى نادي الدول النووية. وعلى الرغم من ذلك، من المتوقع أن يواجه قرار الإدارة الأميركية إقامة تعاون نووي مدني مع الهند مشاكل محددة من قبل الكونغرس الأميركي، كما من قبل مجموعة الأربعين للإمدادات النووية، وذلك على أساس أن هذا التعاون من شأنه أن يضعف المصداقية الأميركية حيال الانتشار النووي . بقى أن نشير إلى أن إسلام آباد لم تبد أي رد فعل حيال الاتفاق الهندي الأميركي، وكأنها أرادت مكافأة نيودلهي على هدوئها النسبي حيال القرار الأميركي بتزويد القوات الباكستانية طائرات اف - 16، ومن قبل ذلك، إعطاء الباكستانيين صفة شريك رئيسي من خارج الناتو. وربما كان مبعث صمت الباكستانيين أيضاً إدراكهم أن السياق الذي تتحرك فيه اليوم العلاقات الهندية الباكستانية يتجاوز في مدلوله الاستراتيجي قضية علاقاتهم بالهند، ويلامس إعادة بناء واسعة لخريطة التحالفات والتوازنات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. والحقيقة أنه ليس من سبيل أمام باكستان والهند سوى المضي قدما في إعادة بناء علاقاتهما الثنائية على أسس جديدة، بحيث تلحظ بصفة أساسية حقيقة أن معطيات البيئة الدولية لا تقدم مجالا لأي منهما للمناورة على حساب الآخر. وبموازاة ذلك لا بد أن تضع إسلام آباد ونيودلهي نصب أعينهما حقيقة أن الردع النووي غير المستقر لا يقدم ضمانة فعلية للأمن.