كانت أمي (رحمها الله) تحكي لنا قصة، لم أكن وقتها أفهم مغزاها، كانت عن فتاة جميلة تعيش بسعادة مع أمها وأبيها، ولم يكن ينقص سعادتها سوى عدم وجود أخوة لها، لذا كانت أمها تصنع لها دمى جميلة من القطن، تلبسها ملابس رائعة، وتضع لها عيوناً من الخرز الأسود وتجدل لها جدائل من صوف الغنم، كانت دماها في منتهى الجمال، لكنها تريد من يكلمها، فابتدعت لها أمها شيئاً آخر هو أن تخاطبها وهي تضع قوقعة عند أذنها وهنا ستسمع صوت البحر يرد عليها. سعدت الفتاة بلعبها، وراحت تكون من صوت الهواء المخزون في القوقعة والذي يملأ أذنها عبارات وجمل. لكن الأم مرضت مرضعاً صعباً، لم تفد معه الأدوية ولا الأطباء من مختلف المناطق التي راح الأب المحب ينقلها لها. استجمعت الأم كل قوتها لتصنع دمية لابنتها، وألبستها ثيابا سبعة، ثم دعت ابنتها وقالت لها: ياابنتي لم يقدر الله أن يكون لك أخ أو أخت، ولكن أنا أضع بين يديك هذه الدمية، كلما ضاقت بك الدنيا حدثيها، ثم قومي فشقي ثوبا من أثوابها. عندما سألتها عن اسمها قالت: ألعيبة الصبري. ونهتها من أن تكلمها وتشق الثوب دون أن تكون في حالة شديدة من الضيق والكرب. توفيت الأم، وعاشت الفتاة مع أبيها عيشة منقوصة، حاول الأب أن يعوضها عما حدث لها من فقدان أمها، كما حاولت الفتاة أن تؤدي دور أمها في المنزل من رعاية لأبيها وشؤون المنزل لكن صغر سنها وتجربتها وتدليلها السابق على يد أمها جعل الأمر به كثير من الصعوبة عليها، لذا نصح المقربون من أقارب وأصدقاء وجيران والدها بالزواج بسيدة فاضلة أرملة، ومدحوا له كثيراً أخلاقها، كانت هذه السيدة تبذل جهداً للتودد للفتاة ومساعدتها. المهم نختصر القصة بزواج الأب وكعادة القصص تنقلب المرأة، وتستعبد الفتاة، تبدي أمام الأب حباً وعطفاً، وما أن يغادر إلا وتنقلب. الفتاة لا تجد من يسمع شكواها إلا تلك الدمية أو قوقعة البحر، فتكلم القوقعة في الأزمات التي تراها خفيفة، وتستلهم الرأي منها، أما في الأوقات الصعبة، فإنها تلجأ للدمية وتخاطبها وتبكي بين يديها وتشق ثوبا وهي تردد (ياالعيبة الصبري، أحد صبر صبري) تحس بالراحة الكبيرة، وهكذا. حتى انتهت الأثواب السبعة، فإذا الفتاة أمام مرآة صغيرة، شاهدت خلالها نفسها، رأت كم بدت حزينة، ومهملة الشكل والثياب، فأحست بأنها لابد أن تتغير، فبدأت ما أن تنهي أعمالها إلا وتستحم، وتنظف ملابسها وشعرها، وتجلي عن نفسها الهموم بكل شكل، حتى بدت جميلة باسمة مشرقة، رأتها كالعادة في الحكايا أم الشيخ وخطبتها لأبنها. الحكاية طريفة وجميلة، حيث تتمثل الحكمة فيها، الأم وصناعة اللعب، وهي فكرة للتغلب على الفراغ العاطفي لدى الفتاة، تعود الفتاة استلهام الحلول من ذاتها، قوقعة البحر وصداها، الذي لم يكن إلا صدى ذات الفتاة، الدمية وشق الثوب، وهو تنفيس عن غضب حتى لا يطال الفتاة شرر من غضبها، وبالوقت نفسه ترتاح مما فيها. أخيراً المرآة، وهي حكمة مختصرة جداً، إنها طوال الوقت كانت تخاطب صورتها المنعكسة بالمرآة، فبدا الأمر لها أن لا أحد ممكن أن يساعدك إلا نفسك. لذا الأم تقول لها هذه المرآة أنت فحلي مشكلتك، وتحفزها على التغير، هنا التغير أتى من تغير الشكل، ومع تغير الشكل، ينعكس على داخلها، فتشعر بالراحة والسعادة من انعكاس شكلها الخارجي على الداخلي. فتنال الجائزة وهنا هي زواجها بالشيخ الشاب - الشيخ بالأدب الشعبي المحلي يقابل زعيم العشيرة. عندما استرجع القصة ولعل بنتيّ يسترجعنها ذات يوم لبناتهما وأولادهما - حكيتها لهما في صغرهما - استرجع معها أشياء مهمة فقدناها بغباء كبير، تلك الحكايات والحميمية بين الصغار والجدة ومع الأم، القرب بالبقاء معهم في الفراش، الالتصاق حول القلب ونحن نحكي الحكايات، تذبذب الصوت بين الضعف والقوة، والمساحة الكبرى للخيال، انبثاق الكم الهائل من الأسئلة ثم التفكير بالمغزى والحكمة. كل ذاك فقدناه كثيراً، وهذا ما جعل نتائج أبناء تربية الخادمات تظهر بوضوح، وقد يكون لي حديث آخر.