نقف على ناصية رمضان، نحمل فوانيس تكفي لتضيء عشرة أيام أخيرة متبقية من روحانيته، لنتلو مزيداً من أجزاء القرآن، ونصوم آخر آيامه، ونعتكف ما بقي منه. رمضان انقضى من وقته، ولم ينقص من رونقه، ولا الحنين إلى ساعات صومه، وليالي التهجد في تراويحه، وقيامه.. شهر نترك فيه كل ما تعودنا عليه، منذ أن ظهرت إشعاعات هلاله هلّ معها الخير، والصدقات، والذكر.. أفضل شهور العام، فيه تتضاعف البركة، ويزيد تقربنا من الله بالطاعات، والعبادات، باقة من روحانيات راكضة إلى الله، تحن فيها الجباه للسجود بين يديه، ودعائه، ورجائه. شهر الخير يسارع بخطواته راكضاً في عشرة أولى واحتفاء بالهلال، وعادات وتقاليد المسلمين الذين ينتظرون حلول بركته، فيسارعون إلى الخيرات، وخلق أجواء أسرية وعائلية تضم المجتمع، وتضعه في حميمة التلاقي في هذا الشهر، وعشرة وسطى يلهج فيها القلب قبل اللسان بالدعاء وطلب المغفرة، في محاسبة للنفس لتحصل على مبتغاها من الراحة والطمأنينة في كنف الرحمن، وعشرة أيام أخيرة نرجوها أن تبقى ونحن نلحق بعتقنا من النار ونجاتنا بأعمالنا الصالحة. موسم التحصيل جاءت العشر الأواخر بما تحمله من مفاخر لا يذوق طعمها إلاّ صاحب الحظ الوافر، لاستثمار ما بقي من موسم التحصيل والإمداد، ليملأ خزائنه بكل ما لذ وطاب، من موجبات الأجر والثواب، ليختم له بالعزة والكرامة وينجو من الحسرة والندامة، إنّها ليالي رمضان الأخيرة، مواسم الخير لحصاد غرسنا فيها بين ضلوع الغروب صلواتنا ودعواتنا، عشرة باقية نودع فيها مواسمنا، ونحصد خيراً ربانياً وارفاً، وإضاءة لبصيص من الأمل للقلوب والعقول التي تعلقت في رضا الله وطلب مغفرته ورضوانه، فشهر رمضان هو موسم المتقين، ومتجر الصالحين، خصوصاً في العشر الأواخر، والذي يكون فيها الاحتفاء الحقيقي والروحانية الحقة، فهي عشر العتق من النار. نفحات إيمانية يحتفي المسلم في هذه الأيام بالمبالغة في الطاعة وترك الكسل، والإقبال على العبادة بهمة عالية، حيث كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر الأواخر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله.. لقد مضى من رمضان ثُلُثاه، فأرواح الأتقياء تطمع في المزيد من رحمته وعطائه، متحفّزةً مشمّرةً للثُّلث الأخير، كيف لا وقد ذاقت لذّة المناجاة وحلاوة العبادة، هذه الليالي المباركة فرصة العمر وغنيمة لمن يُدرك فيها نفحة من نفحات المولى، فتكون سعادة في الدنيا والآخرة، فيها ليلة خير من ألف شهر فلله ما أعظمها من ليلة، وما أجلها وما أكرمها وما أوفر بركتها، ليلة واحدة خير من ألف شهر، فمن السنة إحياء ليالي العشر كلها لكسب ليلة القدر وفضلها، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: (التمسوها في كل وتر)، وفي بعض الروايات: (التمسوها في العشر الأواخر)، فليلة القدر تفتح فيها الأبواب، ويُقرَّب فيها الأحباب، يصل فيها الله ويقطع، ويعطي ويمنع، ويخفض ويرفع، ويشتت ويجمع، ويميت ويحيي، ويسعد ويشقي، وتجري أقلامُ قضائِه، بما يقدر ويقضي، فهي الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم، ويقدر فيها أعمال العباد لسنة كاملة حتى ليلة القدر الأخرى، فمن أعطي في تلك الليلة العافية، وعفا عنه ربه فقد أفلح غاية الفلاح. خير الليالي في روحانية العشر الشيء الكثير، نجد المعتكفين الذين لا يشغلهم شاغل عن ذكر الله، والاستغفار، والقراءة، والصلاة، ومحاسبة النفس، ينظرون فيما قدموا لآخرتهم، ويجتنبون ما لا يعنيهم من حديث الدنيا، ويقللون من الخلطة بالخلق، فتكون سبباً في العتق من النار، ومن الحرمان الواضح والخسران المبين، أن تأتي هذه الليالي المباركة وتنتهي وكثير من الناس في غفلة معرضون، لا يهتمون لها ولا يستفيدون منها، يسهرون الليل كله أو معظمه في ما لا فائدة فيه، ويعطلون هذه الليالي عمّا خصصت له، وبعضهم ربما شغل هذه الليالي الشريفة الفاضلة المباركة بارتكاب الخطايا والآثام، والوقوع في المعاصي والذنوب؛ فحريٌّ بنا أن نجتهد في اغتنام فرصة هذه العشر الأواخر من شهر رمضان، بالصلاة، والقيام، وتلاوة القرآن وصلة الأرحام، والصدقة، والعطف على المساكين، وترقيق القلب على الأيتام والمحتاجين، وحريٌّ بنا أن نحسب أوقاتها، حتّى لا تفوتنا منه ذرَّةٌ من الخير، وقد كان -صلى الله عليه وسلم- يعظّم هذه العشر، ويجتهد فيها اجتهاداً حتى لا يكاد يُقدر عليه، يفعل ذلك -صلى الله عليه وسلم- وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخّر، فما أحرانا نحن المذنبين المفرّطين أن نقتدي به -صلى الله عليه وسلم-، فنعرف لهذه الأيام فضلها، ونجتهد فيها، لعل الله أن يدركنا برحمته، ويسعفنا بنفحة من نفحاته، تكون سبباً لسعادتنا في عاجل أمرنا وآجله. زكاة الفطر ولما كان الكمال لله وحده، وكان التقصير طبيعة من طباع النفس البشرية في كل أعمالها، شرع الله لنا ما يجبر الخلل، ويكمل النقص في سائر العبادات، فشرعت لنا زكاة الفطر في ختام شهر رمضان، وهي عبادة من العبادات، وقربة من القربات العظيمة، لارتباطها بالصوم الذي أضافه الله إلى نفسه إضافة تشريف وتعظيم: "إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، فزكاة الفطر فرضت لتطهير نفوس الصائمين، مما حدث من خلل بالصيام والشعور بالآخر المتعفف، والذي يحتاج منا وقفة تدخل على قلبه الفرحة بقدوم يوم العيد، والأفضل إخراجها يوم العيد قبل الصلاة، ويجوز تقديمها قبله بيوم أو يومين، ويخرجها الرجل عن نفسه وعمن تجب عليه نفقته من الزوجات والأقارب، فعن ابن عمر أنّه قال: "فرض رسول الله صدقة الفطر من رمضان على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين".