الشاعر والمترجم محمد الضبع الذي نظر في العزلة إلى العالم أكثر وإلى نفسه بشكلٍ أقل،الذي حاول في مدونته نشل اللغة من جيوب الغرباء والمساكين، مدّ يده ليصبح جسراً للمعرفة والحكاية والأسطورة، مترجماً في كل أسبوع مقالة أو قصيدة في مدونته للحفاظ على لياقة الحياة وعلى الذائقة، الذي كان ل" الرياض" معه هذا الحوار. *في البدء شاب لم يتجاوز الثانية والعشرين يهتم بحكم دراسته في مكونات الأشكال الهندسية وقوانين المساحة المكانية يجعلني اسأل كيف وقعت في هذه الورطة الشعرية الجميلة؟ - الشعر يسبق الدراسة الجامعية، ويسبق كل دراسة في الحقيقة، هو فطرة وموسيقى أولى تسمعها في كل شيء من حولك. ثم تبدأ بالبحث عن مصدرها وتكتشف اسمًا لها، وتتعرف على الصنّاع الماهرين لها، ثم تبدأ رغبتك في أن تصبح واحدًا منهم،حتى تقترب من السر أكثر، أدواتهم بيديك وتلمسها لأول مرة، فتنبت الكلمة حولك كالشجرة ثم تشعر بالقوّة والضعف في الوقت ذاته، قوة الكلمة وضعف جسدك، وتخرج مرة أخرى إلى العالم وأنت قادر على قتاله بأسلحتك الجديدة، لتجد العلم أيضًا شعرا بطريقة مختلفة، ربما طريقة أكثر حذرًا وأشد تمسّكًا بكل ما هو معروف وممكن، لكنها رغم بطء حركتها تؤدي إلى دهشة تعادل دهشة اكتشاف أرض شعرية جديدة، الكون بأكمله هو عبارة عن قصيدة بالغة في الجمال، ونحن نحاول أن نكتب أكواننا الصغيرة وقصائدنا الصغيرة منذ ذلك الحين. * يلجأ بعض الأشخاص إلى الترجمة لأن هناك كلاماً أرادوا أن يكتبوه يوماً فوجدوا من ناب عنهم، هل فعل الترجمة الذي تقوم به في مدونتك "معطف فوق سرير العالم" دليل على حضور أناك اللغوية المشتهاة بدليل أنك أنت من تقوم باختيار النصوص؟ - الترجمة بالنسبة لي هي حالة مرهفة ومتقدمة من الإصغاء، من التقدير الشديد لكل أدب جميل تمت كتابته، وهو متعة محضة، ورحلات لا تنتهي مع الشخوص والكتّاب والأبطال، الشعر قادني إلى الترجمة، وأظنني أقدمت عليها لأنني أريد أن أختبر العديد من الأشياء، وأجيب عن العديد من الأسئلة المتعلقة بالأدب، فكل نص أشبه برحلة إلى الفضاء الخارجي فرحلة تفشل وأخرى تستمر بالانطلاق بشكل مذهل، وأنا أقف وأراقب كل هذا عن كثب، وأستمتع بالمنظر أولًا، ثم أتعلّم، واستمر بالتعلّم، وبالتأكيد فإن الكتابة بالنسبة لي هي عملية مستمرة، ستصقلها الترجمة وتجعلها أكثر قربًا من المركز، مركز المعنى أو مركز الحياة، أيًا كان الاسم الذي تحب إطلاقه على كل ما هو حقيقي وخالد. * تحاشي الومضات الإبداعية لأسماء عربية شابة لولا سوء الحظ لأصبحوا أكثر اتساعاً، ألا ترى أن العمل الذي تقوم به في المدونة يقلل من عنصر الاكتشافات لنصوص مشابهة تستحق الشهرة؟ - ما أفعله في المدونة يعبّر عن مساحة ضئيلة جدًا من الأدب العالمي المعاصر، ووجوده لا يعني أن هذه الأعمال حصلت على ما يستحق من الاهتمام، وهذا أمر آخر تمامًا ولا أعتقد أنه يتقاطع مع الأعمال العربية الشابة، هنالك العديد من المجلات والملاحق والمدونات التي تهتم بنشر نصوص لهم، وأظن أن هناك شيئا ما متعلق بالنصوص الأدبية يجعلها تشبه اللوحات الفنية، أحيانًا نحتاج إلى عدد من السنوات، أو إلى عمر أدبي لهذا العمل، يجعل له شرعية الوصول إلى عدد أكبر من القراء في لغات وثقافات أخرى، ولكن هذا لا يعني أن كل عمل أدبي رفيع سيحصل على حقه في الانتشار،على العكس، هنالك العديد من الأعمال التي ظلمت لأنها كتبت بلغات غير متداولة، أو كتبت في أزمنة وعصور غير ملائمة. تتحدث سوزان سونتاغ- الكاتبة والروائية الأمريكية-عن هذه النقطة بالتحديد وتقول إنها اطلعت على العديد من الأعمال الروائية العظيمة لكتّاب من أمريكا الجنوبيّة لا أحد يعرفهم، برغم من أن هذه الأعمال قد ترجمت إلى لغات أخرى، ولكنها كانت ترجمات هزيلة، وتعثرت في مشاكل النشر ولم تصل بالطريقة التي يجب أن تصل بها،هذا يجعلنا نفكّر أن البحث هام، والتنقيب الدائم هو وظيفة يوميّة لكل من يحمل هم الجمال ويشعر بالعطش والتوق الدائم له، وفي النهاية سوف تجد ما يجعلك تنسى كل عناء البحث، وهذا ما أحاول أن أفعله، أن أجد شيئًا يجعلنا نتذكر السبب الأول لكل الكتابة وكل التعب، وأن أشاركه مع أكبر عدد ممكن من القراء، ليس لبعث الأمل، ولكن للمتعة المحضة، لهذه الرعشة الكفيلة بتفسير كل شيء وإيقاف عجلة العالم الجامحة، ولو لدقائق معدودة تنتهي عند نهاية القراءة. * صياد الظل"يبدو عنواناً جميلاً لديوانك،عنواناً يترك ماديات الأشياء ويقبض على ما وراءها، ظِلُ من تريد أن تصطاد، وأي شجرة نسيت أن تستظل تحتها وأنت المسافر على دروب الاستعارات؟ - صيّاد الظل هو الضياع الأول في الغابة الأولى، هو الفخ الذي نصبته لنفسي كي أخرج منه بعدد أكبر أو أقل من الجراح. كل شيء دفعني للكتابة هو ما جعلني أكتب صيّاد الظل، كل النقص الذي أشعر به تجاه محاولاتنا للقبض على كل شيء، على الحياة السريعة وهي تعبرنا، على الدهشة في الكتب وفي الأسطر المنسيّة، ثم نكتشف أننا نفشل في كل هذا ولا نقبض على شيء، كان هنري ميلر يفكّر في هذا كثيرًا، كتب في إحدى رسائله إلى أناييس نن يخبرها ان هذا الأمر لا ينتهي، الكتابة لا تنتهي، يشعر بأنه لن يتمكن أبدًا من الوصول أو اللحاق بها وهذا هو ما شعرت به بالضبط، لذلك اخترت أن أصطاد الظل. لأعبّر باصطيادي له عن فشلي في الوصول إلى أي حقيقة، لا ظبي هناك بل مجرد ظل، بل نجم سافر منذ آلاف السنين ولم يترك خلفه سوى الأثر وصياد الظل هو أيضًا بحث في احتمالات الحيوات الأخرى الممكنة، هو تنقيب عن أشباهنا في العوالم البعيدة المطابقة لنا، ماذا سيحدث لو انحرف النرد قليلًا؟ مَن سنكون؟ وما معنى كل هذا؟ * هل استطعت أن لا تُفقد القصيدة التي قمت بترجمتها مقدرتها الإيحائية والاستعارية؟ - هذه نقطة شائكة وتتدخل فيها عوامل عديدة. لكن استطيع القول إن الترجمة هي فعل مستحيل أصلًا، ترجمة الأعمال الشعرية تحديدًا، لأنك بنقلك للنص إلى لغة أخرى أنت تهدم موسيقاه كاملة وتبدأ بابتكار موسيقى جديدة له. بعض النصوص تنجو وتتمكن من الحياة في اللغة الأخرى، وبعضها تموت ولا تستطيع أبدًا أن تسلك طريق الترجمة الحرفيّة، لأنها سوف توصلك لأسوأ النتائج، وكما قال أحد مترجمي الإنجيل الأوائل في أوروبا،إن الترجمة الحرفية تجعل أعظم الشعراء يتحولون إلى مغفلين يتحدثون بكلمات مرصوفة بطريقة هزيلة، لا معنى لها. وهذا حقيقي ويحدث كثيرًا في الترجمات الحرفية التي يلتزم فيها بعض المترجمين بالنص الأصلي كلمة بكلمة. بعد إدراكنا لاستحالة فعل الترجمة. هنا يجب علينا أن ننتقل إلى الخطوة التالية، خطوة الكتابة، وكأن المترجم يعيد كتابة النص مرة أخرى مع احتفاظه بكل الجماليات الممكنة للنص الأصلي وبالتأكيد فسوف نحصل على أكثر من ترجمة لأكثر من مترجم، وستختلف بعض الشيء، لأن الطريقة التي قرأ بها كل منهم النص تختلف عن طريقة الآخر، وهذا باب واسع جدًا في تأويل الشعر، كتب الكثير عنه لدينا في التراث، من شروح ابن جني لأبي الطيب المتنبي وغيرها والموضوع يستحق الكثير من الدراسة والبحث في الحقيقة، وهذا ما يحدث فعلًا حول العالم الآن، جميع من يهتم بالأدب، يضع قضية الترجمة كأولوية تستحق الاهتمام والعمل عليها للوصول إلى حلول حقيقية.