يسعى كاظم جهاد، الشاعر والأكاديمي، في كتابه «حصة الغريب» (دار الجمل، 2012) إلى تأسيس «مدرسة» نقدية جديدة عربياً، يمكن تسميتها ب «شعرية الترجمة»، مكملاً بضع تجارب عربية قليلة في حقل الترجمة، نقداً ونظرية، ومتكئاً على أبرز المفاهيم التي رسخها مفكرون وفلاسفة ونقاد غربيون وضعوا الأسس الأولى لهذا النقد الحديث، ومنهم على سبيل المثل فالتر بنيامين وجاك دريدا وهنري ميشونيك وبول ريكور... علاوة على «الرومنطيقيين» الألمان الذين كان لهم أثر بارز في إرساء «شعرية الترجمة» غربياً. ولئن كان كتاب كاظم جهاد عملاً أكاديمياً في الأصل أنجزه بالفرنسية ونال له شهادة الدكتوراه، فهو في نشره إياه مترجماً إلى العربية، إنّما عمد إلى ترسيخ هذه «الشعرية» عربياً. وقد أشرف هو بنفسه على الترجمة، التي أنجزها الباحث المغربي محمد آيت حنا، وبدت لمساته واضحة على الصيغة العربية. ولعلّ جهاد في سعيه إلى فعل التأسيس هذا، لم ينكر البتّة الجهود التي قام بها سابقاً نقاد وباحثون عرب في حقل النقد «الترجمي»، فتوقف عند بعضهم وأشار إلى الجهد الذي بذلوه في عملهم النقدي، التاريخي والنظري في هذا الحقل ومنهم مثلاً عبد الفتاح كيليطو، عبدالسلام بنعبد العالي، أبو يعرب المرزوقي وسواهم... وعلى رغم اختياره الترجمة الشعرية أساساً في عمله هذا، فهو لم يغفل الترجمة في الحقول الأخرى، كالفلسفة والرواية وسواهما. فالحقول هذه، لا ينفصل بعضها عن بعض في نظره، بل إنّ الحقل يكمّل الآخر، ويغذّيه ويدعمه. وهكذا كان على جهاد أنّ ينشئ ما يشبه المدخل البانورامي، شبه الموسوعي لمفهوم الترجمة أو مفاهيمها، قبل أن يلج عتبة النقد، الذي تراوَحَ بين النظرية والتطبيق. ولعلّه في الجمع بين البعد النظري أو المفهومي وبين العمل التطبيقي، الذي شمل القصائد المترجمة إلى العربية أو «المعرّبة» بالأحرى، تمكّن من إنجاز كتاب هو غاية في الفرادة، لم تشهد المكتبة العربية مثيلاً له. وأهمية هذا الكتاب لا تكمن فحسب في قراءته النقدية لحركة «التعريب» الشعري، من خلال نماذج شعرية قدّمها معرّبون هم من كبار الشعراء العرب، بل في المقاربة الشاملة لمفهوم الترجمة وتجذيره عربياً، عبر العودة إلى الأصول الأولى والنظريات التي أرساها كتّاب قدامى ونهضويون وحداثيون، بدءاً من الجاحظ وانتهاء برواد النهضة ثمّ الحداثة. أما اللافت، فهو أنّ كاظم جهاد لم يزجّ بنفسه، بصفته واحداً من المترجمين البارزين في العالم العربي، في عمله النقدي، ولم يلجأ إلى صنيعه في هذا الحقل ليجعل منه معياراً للقراءة النقدية للنصوص المترجمة، بل بقي جهاد المترجم على حدة في هذا الكتاب، ولم يحضر إلا جهاد الناقد الأكاديمي، وإن كان من المستحيل الفصل بين الشخصين هذين، لأنّ واحدهما يكمّل الآخر. وأعرب جهاد أصلاً في المقدّمة عن أن عمله ليس «مجرّد جرد» لهنات الترجمات وأخطائها بقدر ما هو استرجاع لظواهر عرفتها حركة الترجمة المعاصرة من خلال مقاربة نقدية حثيثة، وظف خلالها كل ما تحصّل من خبرات، أكاديمية وشخصية. وواضح أنّ الناقد هنا يعاود قراءة الترجمات، ليس بغية تصويبها أو تصحيحها فقط، بل ليستخلص منها طرائق أصحابها أو مناهجهم في الترجمة. الاشكال التاريخي ينطلق جهاد في معالجته «شعرية» الترجمة من الإشكال التاريخي الذي عرفته الترجمة، وهو يُختصر في السؤال الذي ما برح مطروحاً من دون أن يلقى جواباً شافياً أو نهائياً: هل على الترجمة أن تكون أمينة على النص الأصل أم يحق لها أن تخونه لغايات عدّة، لغوية وجمالية؟ ويطرح جهاد سؤالاً استلحاقياً مهماً: هل الترجمة ممكنة أم أنّها مستحيلة؟ مثل هذه الأسئلة وسواها حدت بالمؤلف إلى البحث عن «ضرب جديد من المساءلة» وعن «طريقة جديدة للترجمة» و «تصوّرات» متحرّرة من «حكم الثنائيات». ويخلص إلى رؤية ترى في الترجمة -كما يقول- فعلاً ممكناً و «استحالة» قابلة للزحزحة و «ممنوعاً تنبغي مناقشته». ثمّ يتوقف عند ما يسمّيه «الأداء الحرفي للترجمة» وهو يختلف تماماً عن مفهوم النسخ الحرفي عن الأصل أو «الترجمة كلمة كلمة». ويتمثل هذا الأداء في احترام بنية النصّ الأصلي ومعاودة إنتاج انتظاماته الشكلية، مما يمنح اللغة-الهدف المزيدَ من الحياة. يمضي كاظم جهاد في تأصيل «شعرية» الترجمة كظاهرة ثقافية شاملة، تضرب جذورها في ميادين عدّة، كالفلسفة والأيديولوجيا والتاريخ والدين وعلوم اللغة وعلم النفس والتراث العربي والنهضة العربية والحداثة. وفي العلاقة بين الفلسفة والترجمة ينطلق من مقولة هايدغر: «قل لي كيف تفكّر في الترجمة، أقل لك من أنت»، ثم يتوقف عند نظريات جاك دريدا وميشال فوكو وبول ريكور وفالتر بنيامين وسواهم من الفلاسفة الذين ركزوا على العلاقة بين الفلسفة والكتابة ومصير الكتابة في الترجمة. وفي وقفته عند هايدغر يستعيد له قولاً آخر مهماً هو: «أن نترجم نصّاً يعني أن ننتقل نحن أنفسنا إليه». فالترجمة بحسب هايدغر هي حذو «المؤوّل والعازف»، أي التصرّف بحسب مَن يعلّق على النصّ، كاشفاً ما يكتمه النص أو ما يسمّيه (هايدغر) «اللامصرّح به». أما فالتر بنيامين، فيرى أنّ هدف الترجمة إنّما يتمثل في التعبير عن «العلاقة الحميمة بين اللغات». إنها «القرابة الأصلية» كما يقول جهاد ، على رغم الغربة التي تعرفها اللغات، غربتها بعضها عن بعض. إلا أنّ هذه اللغات تسعى، عبر تغيرها الدائم، الى «جعل اللغة الخالصة أو اللغة الصافية تتدفق كلحن متناغم». وهذه «اللغة الخالصة» لا تقيم في اللغات وإنّما بينها. ويتطرّق إلى نظرية جاك دريدا الذي يرى أنّ الترجمة لا تمنح النصّ حياة أطول فقط، بل «حياة أجود»، فيتجاوز النص عبرها إمكانات مؤلفه نفسه. ويتوقف عند مقولة «أسطورة بابل» التي ركز دريدا عليها، وهي التي تشهد بحسبه على ولادة الترجمة وحضّ الناس على ممارستها، ممارسة تبدو في الآن نفسه «ممكنة ومستحيلة»، «دعوة وتحريماً»، «نعمة أو نقمة». ويرى دريدا أنّ النصّ «لا يعيش إلا متى كان قادراً على البقاء، ولا يبقى إلا متى كان يقبل الترجمة ويمتنع عليها في الآن نفسه». بين الفلسفة والترجمة يتعمّق جهاد في حقل العلاقة بين الفلسفة والترجمة، ساعياً إلى ترسيخ شعرية الترجمة فلسفياً، عبر قراءة أهم النظريات والمقولات التي سعت إلى فهم هذا الفعل الإبداع والإحاطة به وتجذيره في أديم الكينونة. ولعلّ الفصل الذي خصّ جهاد به هذه العلاقة بين الترجمة والفلسفة يستحق أن تُفرد له قراءة خاصة، مثله الفصل الذي خصّ به «الترجمة في الثقافة العربية: مراجعة تاريخية ونظرية». أو سائر الفصول ومنها: «الترجمة والأيديولوجيا» و«اللسانيات والترجمة» و«البعد النفسي للترجمة» وسواها... ولعل الكتاب هذا لا يخفي طابعه شبه الموسوعي على رغم تعمّقه في التحليل والنقد المقارن وجمعه بين النظرية والتطبيق أو العمل على القصائد المترجمة، ومراجعتها بدقة وتؤدة. وهو يستحق وقفة شاملة وقراءة معمّقة وطويلة تبعاً لاتساع دائرته النقدية وتعدد حقوله، بخاصة أنه – كما تمت الإشارة – يؤسس «مدرسة» عربية جديدة في نقد الترجمة أو «شعريتها» في المعنى البنيوي الذي أرساه نقاد مثل ياكوبسون وتودوروف وسواهم. في «الترجمة والأيديولوجيا» مثلاً يتحدث جهاد عن ظاهرة رهيبة شهدتها الحضارة العالمية وهي ما يسميه «الالتهام اللغوي» إبان الاستعمار وبعده. ويعرّج على لويس ماسينيون، من ضمن المستشرقين الذين يعود إليهم، فينقل عنه قوله الحاسم: «لكي نفهم الآخر لا ينبغي جعله تابعاً لنا، وإنما يجب التماس ضيافته». ثم يتناول نظرة إدوارد سعيد إلى البعدين الأيديولوجي والأخلاقي اللذين تنطوي عليهما الترجمة حين تصبح أداة في «مشروع» الهيمنة. فالاستعمار يتوسّل اللغات والترجمات لبسط سيطرته على البلدان المستعمَرة. وفي دراسته العلاقة بين «اللسانيات والترجمة» يتوقف عند أبرز التجارب التي تناولت الترجمة في حقل الألسنية، من جورج مونان وهمبولت إلى مارتينه وياكوبسون الذي ميّز بين ثلاث طرق للترجمة: الترجمة الضمن- لغوية، الترجمة البين- لغوية والترجمة البين- سيميائية. ثم يتطرق إلى لغويين وألسنيين آخرين ومنهم تشومسكي الذي ابتدع نظرية «التجانس الجواني». وفي فصل «البعد النفسي للترجمة» يرى جهاد أنّ «ذاتيتين» تنخرطان في عملية الترجمة، ذاتية المؤلف وذاتية المترجم، وخارج هذه الحقيقة يظل حقل الترجمة أسير النظرية التقليدية التي ترى فيها عملية موضوعية صرفاً. ويتحدث جهاد عمّا يسمّيه «التماهي والبدلية» مرتكزاً إلى جهود الناقدة وعالمة النفس الفرنسية مارت روبير التي تقول: «ما من ترجمة إلا وتستند إلى نسق من عمليات التماهي والإسقاط المعقدة». ثم يتطرق إلى «صمت» المترجم أو «امحاء ذاته إزاء النص» و «التماهي المهلك» و «الاستحواذ المغالي» و «المحاكاة التخريبية»، وهذه كلها مقولات فريدة ورئيسة في «شعرية» الترجمة. ويتناول جهاد ما يسميه أيضاً «الجسد الأروسي للنص»، أو «جسد الدوافع اللاشعورية» الذي يعمل «على اختراق الجسد النصي، لا بل نسيج اللغة نفسه، وعلى نحته وتشكيله ومنحه كثافته الشعرية». التراث والنهضة والحداثة أما في القسم الذي قصره على «الترجمة في الثقافة العربية» ببعديها التراثي- القديم والنهضوي- الحداثي، فهو لا يكتفي باستعادة نظريات عربية مهمة، ومنها ما أطلقه الجاحظ والتوحيدي والجرجاني في العصور القديمة، أو رواد النهضة والحداثة من ثمّ، بل هو يتعمق في معالجة «إشكالية» الترجمة التي عرفها التراث العربي وواقع هذه الترجمة والتحولات التي شهدتها تباعاً. وينطلق من المفارقة التي جعلت العرب في العصر الوسيط يُقبلون على ترجمة الفلسفة اليونانية وما يجاورها من علوم ويغضّون النظر عن ترجمة الشعر. ويرى أن «تجنّب» ترجمة الشعر يُفسّر في «تحرّق الثقافة العربية إلى كسب المعارف الفلسفية والعلمية». ويرى أن ثمة رغبة كانت لدى العرب في «حفظ العقيدة الإسلامية والشعر العربي من كل أثر غريب عنهما». وفي عصر النهضة وعصر الحداثة يتوقف عند أهم التجارب في ميدان الترجمة و «التعريب» وعند أهم الظواهر التي عرفتها حركة الترجمة مع الطهطاوي والشدياق وسليمان البستاني مُعرِّب «الإلياذة» شعراً عمودياً، وجرجي زيدان ويعقوب صرّوف والمنفلوطي، ثم مجلة «شعر» في عصر الحداثة. وإن بدا من الصعب – وربما المستحيل – اختصار القسم النظري أو البحثي والتحليلي من الكتاب، تبعاً لشموليته وطابعه شبه الموسوعي وتعمّقه في قضايا «شعرية» الترجمة، فالقسم الذي عنونه ب «مقاربات مقارنة» والذي ضم عمله التطبيقي على القصائد المترجمة، يبدو أشد ممانعة وصعوبة. فهو استخدم هنا خبرته الأكاديمية أولاً ثم الشخصية في فعل الترجمة، ليقرأ القصائد الكثيرة التي أقبل مترجمون عرب نهضويون ومحدثون على نقلها إلى العربية، ومنهم شعراء رواد. لم يسعَ جهاد إلى تصحيح الترجمات مقارناً بينها وبين أصولها، سواء بالفرنسية أو الإنكليزية أو الألمانية والإيطالية، ولا إلى ادعاء أداء نوع من «الأستذة» في هذا الميدان، لكونه واحداً من المترجمين البارزين، بل هو وضع جانباً صفة المترجم لديه وانبرى يدرس الترجمات ويشرّحها بصفته ناقداً أكاديمياً. وقد تمكن فعلاً من إلقاء الضوء على هنات كثيرة وأخطاء وهفوات ارتكبها عدد من المترجمين العرب البارزين. ولم يكتف بالتصويب والتحليل بل هو عاد أكثر من مرة إلى الشعراء الذين تُرجمت أعمالهم، فقدّمهم في ما يشبه الدراسة الموجزة محللاً خصائصهم الشعرية واللغوية. ومن الشعراء المترجَمين الذين تناولهم: عبدالرحمن بدوي (ترجمة لوركا)، مصطفى الخطيب (ترجمة فاليري)، سعدي يوسف (ترجمة أونغاريتي)، سليمان البستاني (الإلياذة- هوميروس)، عنبرة سلام الخالدي (الإلياذة)، حسن عثمان (الكوميديا الإلهية)، خليل خوري، رمسيس يونان ومحسن بن حميدة (رامبو)، جبرا إبراهيم جبرا (هاملت- شكسبير)، عبدالرحمن بدوي وفؤاد رفقة (هولدرلن)، أدونيس (سان جون بيرس وإيف بونفوا)... ولعل الخلاصات التي استنبطها، في عمله على القصائد المترجمة إلى العربية، والقائم على التحليل والتشريح والمقارنة وعلى القراءة المتعمقة في الشعراء المترجَمين، تشكّل مدخلاً نقدياً وأكاديمياً إلى «شعرية» الترجمة التي سعى إلى تأسيسها. فهو في هذا الصنيع النقدي، إنما توخى وضع منهج لفعل الترجمة وكيفية قراءتها ومعاودة قراءتها في آن، وعمد إلى تحديد معالم المترجم و«العدة» اللغوية والمعرفية التي يجب أن يتسلح بها المترجم. يجيء كتاب كاظم جهاد في فترة تشهد الترجمة العربية «نهضة» ملموسة، سواء عبر الترجمات الغزيرة التي تنهال على القارئ العربي، أم في الكتب العلمية التي يضعها باحثون ونقاد حول الترجمة أو يترجمونها. ولعل فرادة هذا الكتاب تكمن في تأسيسه «شعرية» عربية جديدة في حقل الترجمة، وهي «شعرية» كان لكاظم جهاد الحظوة في ترسيخها انطلاقاً من أسس علمية وأكاديمية.