الندوة التي شاركت فيها ضمن نشاط مهرجان عكاظ يطلق عليها «من تجارب الكتاب»، غير أنني لا أشارك بوصفي كاتباً بالمعنى المتداول للكتابة على ما يبدو، أي لست كاتب قصة أو مسرح أو شعر، وهي الدلالة التي ينصرف الذهن إليها حين يُقال فلان كاتب. ومع أن انصراف الذهن ليس كافياً لتأكيد الدقة في الدلالة، لأن مفهوم كاتب من المفاهيم العائمة، فلا ضير من السير بمقتضى الفهم العام، وإلا فإن صفة الكاتب ليست محصورة في الكتابة الإبداعية، فقد تطلق على من يكتب مقالات في الشأن العام، مثلما تطلق على من يكتب نقداً أدبياً أو غير ذلك. اقترح عليّ أن أتحدث عن تجربتي في الترجمة، وهنا قد أواجه مشكلة في الدلالة أيضاً، لأن من قرأ شيئاً لي، سيدرك أنني وإن ترجمت بعض الأعمال فإنني لست مترجماً في المقام الأول، وهذا ما أراه واقع الحال فعلاً. لست ممن يخطر على بال القارئ بوصفه مترجماً، وقد تعلمت مع الزمن أنك حين تلتصق بك صفة، مثل شاعر أو روائي أو ناقد أو باحث أو غير ذلك، فإنك مهما فعلت مما يخرج عن تلك الصفة الأولى لن يراك الآخرون أو معظمهم بالصفة التي خرجت بها. إنه نوع من التصوير النمطي المستقر والمريح في الإعلام، أنت ناقد حتى وإن ترجمت، وناقد وإن أصدرت رواية، وناقد وإن أصدرت كتباً في التاريخ أو الفلسفة أو الإعلام، ستظل الناقد فلان، أو الشاعر فلان أو الروائي أو أو. من هنا، فإني أشكر القائمين على برنامج هذا المهرجان، لأنهم يساعدونني ويساعدون البعض في التعرف على جانب من نشاطي الثقافي خارج إطار النقد الأدبي، (مع أنني متأكد أن أول تغطية لهذا اللقاء ستقول: وتحدث الناقد الدكتور... عن تجربته في الترجمة). لا بأس، فلن أدّعي أنني مترجم في المقام الأول، فقد كانت الترجمة مثلما كانت الكتابة المقالية في الجوانب الفكرية العامة جزءاً من اهتماماتي ونشاطي. بيد أنني حين استعدت بعض وجوه الانشغال الثقافي والفكري الممتد إلى الثلاثة العقود الماضية تقريباً، اكتشفت أن الترجمة كانت مقوماً أساسياً من مقومات ذلك الانشغال، حتى وإن لم تأخذ الشكل المباشر المرتبط بالترجمة، أي إصدار أعمال يُقال إنها من ترجمة فلان. وجودي في تخصص أدب أجنبي امتد تدريجياً إلى آداب أجنبية جعلني مثل كثيرين ممن يعملون في ذلك الحقل، أتحرك على جسور لا تنتهي من العلاقات الثقافية، سواء أكانت أدبية أم غير ذلك. هذا بالطبع مع بقاء الاهتمام الأساسي باللغة العربية، آدابها وثقافتها، الاهتمام الذي لم يتوقف عن تحريك ما أسميه بقلق الترجمة. تحرك ذلك القلق أول ما تحرك مع أول تعرف على الأدب الأجنبي، حين قرأت قصيدة لشاعر إنكليزي مترجمة في مجلة العربي، وأنا في المرحلة الإعدادية. تلك القراءة كانت محركاً كما يبدو لي الآن، إذ أسترجع الأيام الماضية لهاجس الالتحاق بدراسة الأدب الإنكليزي بعد ذلك بأعوام. ومع الالتحاق كان طبيعياً أن يشتد الهاجس ليتحول إلى قلق ملح: كيف أجيد لغة أجنبية وأتعرف على أدبها ثم لا أعرّف متحدثي لغتي بما عرفت؟ لكن نتائج ذلك القلق لم تظهر مباشرة، وإنما انتظرت حتى مرحلة أكثر تقدماً في الدراسة. فمع استمرار اهتمامي بالعلاقات الثقافية الدولية والعربية الغربية منها بشكل خاص بدأت أتوقف طويلاً أمام لحظات توتر في التفاعل الثقافي الناتج عن الترجمة غالباً. قرأت للأرجنتيني بورخيس قصته عن ابن رشد وسعي الفيلسوف المسلم لترجمة المصطلحات اليونانية، واضطراره في النهاية للبقاء في إطار الثقافة العربية حين ترجم التراجيديا إلى مديح والكوميديا إلى هجاء. ثم تعمقت الصلة بالكاتب الأرجنتيني بترجمتي لإحدى قصصه عن الإنكليزية ومروري بتجربة التوتر الذي سبق أن جربه الفيلسوف العربي. كان عليّ أن أترجم كتاب «بايبل» للعربية، فكتبت «الإنجيل»، ثم انتبهت إلى أن «بايبل» الأجنبية لا تعني الإنجيل وحده وإنما «التوراة» أيضاً، فاحترت في الكلمة المناسبة. قال لي المعجم إن الكلمة هي «الكتاب المقدس»، لكن المشكلة هي أن القصة التي كنت أترجمها وعنوانها «كتاب الرمل» كانت تُشير إلى كتاب مقدس غير الإنجيل. حللت المشكلة بشرح هامشي لكني خرجت بشعور مضاعف بأن الترجمة تعني الوقوف على الاختلاف الثقافي وتوترات اللغة وقلق النقل المعرفي والإبداعي، إن المسألة ليست أن تجيد لغة أخرى بل أن تعرف ملابسات الثقافة والتباسات الرؤى والآراء التي تفيض بها اللغات وتتمرأى في الآداب ومنتجات الفكر. الوقوف على الاختلاف هو المصدر الرئيس للقلق الذي أشير إليه هنا، فالمترجم يحمل مسؤولية من الحساسية والصعوبة بحيث لو تأملها كثيراً من المترجمين لما استسهلوها على النحو الذي يجعلهم يقذفون بالعمل تلو الآخر بطريقة أقرب إلى الآلية. يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: «إن في الترجمة مشكلة حقيقية، هي أن نقول الشيء نفسه أو أننا نعتقد أننا نقول الشيء نفسه، لكن بطريقتين مختلفتين» (عن الترجمة، ترجمة حسين خمري، ص20). ويضيف أن الترجمة تقوم على مفارقة واضحة، هي أن المترجم يخدم سيدين: صاحب النص الأصلي والقارئ في اللغة والمترجم إليها، ومن الصعب إرضاؤهما معاً. غير أن ريكور وغيره من الفلاسفة والمنظرين الغربيين حين يتحدثون عن الصعوبات في الترجمة فإنهم يحملون في أذهانهم بيئة أو بيئات متجانسة أو متقاربة من النواحي اللغوية والثقافية. فما بالك حين تزداد الفجوة اللغوية والثقافية بتحول الترجمة من العربية إلى لغة غربية أو العكس؟ ثم ما بالك حين تتعلق الترجمة بنص صعب أساساً كالنص الشعري؟ يقول ريكور: «يطرح الشعر طبعاً مشكلة خطرة تتمثل في الاتحاد الذي لا انفصام له بين المعنى والصوت وبين الدال والمدلول». ومن هنا سواء كانت الترجمة للشعر أم لغيره، فإن من الضروري كما يقول الفيلسوف الفرنسي نفسه، أن نتراجع عن فكرة الترجمة المثالية، «هذا التراجع وحده يسمح للترجمة بالعيش باعتبارها عجزاً مقبولاً». شخصياً لم تخطر فكرة العجز المقبول ببالي دائماً، وأنا أحاول نقل النصوص من الإنكليزية إلى العربية أو العكس في البدايات على الأقل؛ كانت المحاولة غالباً للوصول إلى الترجمة المثالية والإيمان الضمني بإمكاناتها. لكني بدأت أعي تلك الاستحالة تدريجياً، وأقتنع بأن الترجمة في النهاية ليست أكثر من تفسير للنص، قراءة تختلف من شخص إلى آخر، قد تكون أقرب للنص من القراءة النقدية العادية، لكنها تظل قراءة في نهاية المطاف المشكلة أو مصدر القلق بالنسبة إلي، هو أن المتلقي أو السيد الثاني بحسب ريكور، لا يدرك دائماً تلك الصعوبة بل إنه قد يتجاوز ذلك إلى النظر للترجمة خصوصاً ترجمة الشعر، بوصفها عملية مستحيلة ومن ثم عديمة الجدوى فيستبعد المنظور الذي يقترحه ريكور. عبر السنوات الماضية كانت القصيدة أقرب إلي من الأعمال السردية في مساعي الترجمة، فترجمت عدداً من النصوص الشعرية بعضها ضمن مقالات أو دراسات وبعضها ترجمة مستقلة، ومن يعود إلى كتب مثل «إحالات القصيدة» و«أبواب القصيدة» و«لغات الشعر» ضمن أعمال أخرى سيجد العديد من النصوص المترجمة، لكنه سيلاحظ أيضاً أنني أترجم عملاً من دون تحليل نقدي أو قراءة. هل كان ذلك لشعوري بأن الترجمة المباشرة للنص لا تكفي، وأن قراءة نقدية ضرورية لتوصيل الدلالة؟ أعتقد أن ذلك ما كان يدفعني فعلاً لتقديم قراءة مصاحبة للترجمة، وليس متعة الكتابة والتحليل النقدي. كان الدافع بتعبير آخر هو قلق الترجمة، قلق ألا يتم أو ألا يصل وأن ترجمة أخرى مصاحبة ينبغي أن تجري هي القراءة النقدية بوصفها هي الأخرى ترجمة للنص الشعري. حين كنت طالباً في الولاياتالمتحدة فاجأت أستاذاً كان يدرّس مقرراً في الشعر، أنني كنت أستعين بالترجمة للوصول إلى دلالات مختلفة عن تلك التي أصل إليها بمجرد قراءة النص، ولأن الأستاذ في شأن كثير من الأمريكيين لم يكن ثنائي اللغة، فإن الفكرة أدهشته مع بقية الطلاب تماماً كما أدهشتني، لكنني أدركت في ما بعد أن الترجمة قراءة أشد تدقيقاً في قراءة النص الأدبي الشعري بشكل خاص من القراءة العادية، فهي تقوم على «تفلية» للنص، تقليب لوجوه مختلفة وطرح أسئلة حول الدلالة لا يطرحها صاحب اللغة الأصلية أو القارئ العادي، ومن هنا فإنها تصبح قراءة مميزة إذا أحسن استخدامها طبعاً والإفادة منها. أقول هذا وأنا أدرك أنني لا أفيد كثيراً من أداة الترجمة في قراءة النصوص، لكنها وجه من وجوه القراءة جدير بالاهتمام وتجربة جديرة بالتجربة.