لقد شهدت المملكة تطوراً في مختلف الميادين، ومن بينها الميدان التجاري بكافة أنشطته، وباتت تلك الأنشطة تشكل تفاعلاً أكثر في حياة الناس وتزايدت بينهم الصفقات وتداخلت المعاملات وزادت درجة تعقيدها، ونتج عن ذلك حدوث الكثير من المنازعات، وأصبح الفصل فيها من قبل المحاكم يستغرق زمناً طويلاً ويشكل عبئاً متزايداً. وأصبحت المواعيد بين الجلسات تمتد لفترات طويلة تصل لأكثر من ستة شهور. ومن المعروف أن ظاهرة التأخر في الفصل في الدعاوى من قبل المحاكم ليست قصراً على المملكة لوحدها، بل تعاني منها معظم دول العالم وإن كانت بنسب متفاوتة فيما بينها. كما أنه ليس من المتصور قيام المحاكم لوحدها بالفصل في الدعاوى فالمعروف على مستوى جميع الدول أن هناك وسائل أخرى بديلة للقضاء كالصلح والتحكيم تستطيع إذا ما تمت تهيئة البيئة المناسبة لها أن تخفف من العبء على المحاكم من خلال تسوية كثير من المنازعات بين المتخاصمين دون اللجوء إلى القضاء. ولذلك فقد اتخذت حكومة المملكة خطوات تطويرية كبيرة لم تقتصر فقط على زيادة التعيين في السلك القضائي بوصفه الطريقة الأساسية للفصل في الدعاوى، بل قامت كذلك بوضع أنظمة وتنظيمات جديدة للصلح والتحكيم بوصفهما من الوسائل البديلة للقضاء التي حثت عليها الشريعة الإسلامية السمحة. ويأتي من ضمن تلك الخطوات التطويرية صدور نظام جديد للتحكيم بتاريخ 24/5/1433ه. ومن المتوقع أن يزيد من إقبال الأفراد والشركات على اختيار التحكيم كوسيلة لحل النزاعات بعد أن ساير هذا النظام ما هو معمول به في قوانين التحكيم المتقدمة في تنظيم التحكيم والاعتراف الواضح والقوي به كوسيلة بديلة للقضاء والتشجيع عليها ومساندتها. ولم يتبق سوى قيام وزارة العدل ووزارة التجارة والصناعة بالتنسيق مع الجهات المعنية بإكمال إعداد مشروع اللائحة التنفيذية لهذا النظام ورفعها لإقرارها من قبل مجلس الوزراء تمهيداً لإنطلاقة التحكيم كوسيلة سريعة ومرنة في تسوية المنازعات وخصوصاً التجارية. كما أن صدور تنظيم مركز المصالحة بقرار مجلس الوزراء بتاريخ 8/4/1434ه يعد نقلة تطويرية مهمة في تسوية المنازعات بين المتخاصمين عن طريق الصلح، فقد تضمن هذا التنظيم إنشاء مركز يسمى (مركز المصالحة) تكون مهمته السعي إلى تسوية المنازعات صلحاً من خلال مكاتب المصالحة، والتي سيتم إنشاؤها في مقرات المحاكم أو كتابات العدل، ويتكون كل مكتب من مُصلح أو أكثر، يختارون من منسوبي وزارة العدل أو من موظفي الدولة بعد أخذ موافقة جهات عملهم أو من غيرهم ممن تتوافر فيهم الشروط التي يحددها الوزير. وقد نص هذا التنظيم على حق الأطراف في إنهاء منازعاتهم صلحاً خارج إطار مكاتب المصالحة، إلا أن الفقرة الثانية من قرار مجلس الوزراء القاضي بالموافقة على ذات التنظيم تضمنت قيام معالي وزير العدل بعد سنتين برفع تقرير عن نتائج أعمال مكاتب المصالحة، واقتراح ما تراه وزارة العدل في شأن مكاتب المصالحة بما في ذلك ملاءمة إنشاء مكاتب خاصة للمصالحة. وهذه الفقرة أثارت بعضاً من الغموض قد يترتب عليه خروج تفسير يتضمن حرمان مراكز التحكيم والتسويات في الغرف التجارية والصناعية بصفتها مراكز خاصة من تقديم خدمة تسوية المنازعات بين المتخاصمين عن طريق الصلح. كما أن من أهم الخطوات التطويرية، التي تعد نقلة نوعية متقدمة في تهيئة البيئة المناسبة لنجاح الوسائل البديلة للقضاء، ما قرره نظام التنفيذ الجديد ولائحته التنفيذية بأن محاضر الصلح وأحكام المحكمين تدخل ضمن السندات التنفيذية، التي يختص بها قاضي التنفيذ ويفصل فيها وفقا لأحكام القضاء المستعجل ويحق له الأمر في الاستعانة بالشرطة والقوة المختصة والأمر بالمنع من السفر ورفعه والأمر بالحبس والأمر بالإفصاح عن الأصول من أجل تنفيذ محاضر الصلح. وقد اشترط نظام التنفيذ أن تكون محاضر الصلح صادرة عن الجهات المخولة بالصلح، ولكن اللائحة حددتها في الجهات التي تحصل على ترخيص من وزارة العدل دون بيان شروط منح ذلك الترخيص مما قد يؤدي كذلك إلى حرمان مراكز التحكيم والتسويات في الغرف التجارية والصناعية بصفتها مراكز غير مرخصة من وزارة العدل من تقديم خدمة تسوية المنازعات بين المتخاصمين عن طريق الصلح. ومن المؤمل أن تقوم وزارة العدل بالإسراع في الانتهاء من إعداد اللائحة التنفيذية لنظام التحكيم ورفعها لإقرارها، وكذلك إزالة الغموض الذي يكتنف مفهوم الجهات المخولة بالصلح على نحو لا يمنع مراكز التحكيم والتسويات في الغرف التجارية والصناعية من تحقيق أهدافها والقيام بمهامها وفق نظام الغرف التجارية والصناعية، ويعزز من دورها في تخفيف العبء عن المحاكم والإسهام في تقليص المسار الزمني لسير الدعاوي. ولعل من نافلة القول الإشارة إلى المبادرة التطويرية الرائدة التي أطلقها مركز التحكيم والتسويات بالغرفة التجارية والصناعية بالرياض بمشاركة لجنة المحامين بالغرفة وكوكبة متميزة من القضاة والمحكمين عندما وضع استراتيجية لتطوير المركز وتنمية أنشطته سعياً لمواكبة الأنظمة والتنظيمات الجديدة المتعلقة بتنظيم الصلح والتحكيم، وهو أمر غير مستغرب على هذا المركز الذي يضم مجموعة متميزة من الكوادر والكفاءات القانونية المتخصصة ويحظى بشراكة متميزة وفاعلة مع لجنة المحامين.