كان البعض يعتقد اننا تعافينا وتجاوزنا مأزق الإدارات التقليدية واننا دخلنا في عقل الإدارة الحديثة.. هذا الاعتقاد مصدره تطور التقنيات الادارية والأجهزة الحاسوبية التي تحتويها مكاتبنا وأنظمة التشغيل المتطورة والبرامج الحاسوبية المتخصصة في العمل الإداري والفني يضاف اليها العنصر البشري حيث تخرج الجامعات سنوياً الآلاف من خريجي كليات الهندسة والحاسب الآلي والعلوم الادارية، وتقنية المعلومات وايضاً ما تخرجه الأكاديميات والدبلومات في تخصص الإدارة والسكرتارية وكذلك ما يحصل عليه سنوياً موظفو اجهزة الدولة من بعثات دراسية لأمريكا وأوروبا ودورات داخلية في معهد الإدارة والمعاهد الأخرى.. كل هذا الحشد من تلك الموارد الطبيعية والبشرية كان كفيلاً بإخراجنا من ظلمات الإدارة التقليدية السلبية إلى نور الإدارة الحديثة لكن الواقع مختلف، فمازلنا في المربع الأول أو منطقة الصفر فما تغير من إدارة (راجعنا بكره) أي راجعنا غداً .. لم يتغير منها أي شيء وهي العبارة الشهيرة في الثمانينيات الهجرية قبل حوالي (40) سنة .. فقط تزحزحت هذه العبارة ليحل مكانها - بصيغة الإحلال - إدارة (تعال راجع برجلك) أي لابد ان تراجع شخصياً وتأتي بقدميك لتقف أمام الموظف وهذا تعطيل لجميع وسائل المراجعة من هاتف وفاكس ورسائل بريدية أي ان المعاملة لن تتزحزح (قيد أنملة) من مكتب إلى مكتب إلا بمراجع يأتي ماشياً على قدميه يدفع المعاملة من مكتب إلى آخر ومن موظف إلى موظف ومن توقيع إلى توقيع مشفوعة بعبارات الرجاء والدعاء والتحبب والتودد: تكفى.. الله يخليك.. الله يزوجك ..وغيرها من عبارات التمليح والرجاء.. فمنذ أربعين عاماً وحتى الآن تجاوزنا لفظياً راجعنا بكره إلى تعال برجلك وكأننا لم نمر بطفرة اقتصادية ومعها طفرة تقنية وطفرة ثقافية ومعرفية .. نعود إلى مربع دكتاتورية الموظف الذي يعتقد ان المعاملة من أملاكه الخاصة حتى انه يغلق على المعاملة في الدرج الخاص به ويسافر في اجازة اعتيادية لمدة شهرين غير مبال بمصالح وحقوق الناس ودون أي مساءلة من إدارته.. هل هذا ما نود ان نصل إليه البيروقراطية السلبية المتداخلة مع إدارة تقليدية بطيئة ومتواضعة؟.. والغريب ان هناك من يتحدث عن إدارة الحكومة الالكترونية والتوقيع الالكتروني المعتمد والمعترف به وتحديث الأداء والدليل الاجرائي لعمل الادارات.. هناك من يتحدث عن إعادة هياكل وزارات الخدمات لتناسب احتياجات المواطن وتسرع في انجاز المعاملات أي يبنى الهيكل التخطيطي وفق حاجات السوق ويسرع من وتيرة العمل اليومي وفق ما يسمى خط سير المعاملة.. هذا الطموح يقابله واقع مرير وبطالة ادارية وتراجع في الوعي الوظيفي وتنامي شرائح وظيفية محبطة تسعى متعمدة إلى إبطاء الأداء وخلق العوائق ليكون هناك مجال مفتوح للرشاوى وتبادل المنافع حتى في معاملات لا تحتمل أي مساومة وإنجازها لا يحتاج إلى قرار وإنما استكمال بيانات.. فإذا تم السكوت عما يحدث من تعطيل للمعاملات في قطاع الخدمات فإننا سننتقل إلى مرحلة أخرى وهي الدفع المالي «والبخشيش» مقابل إنجاز أي معاملة وهذا الأمر سيجر - بطبعه - إلى فساد الأخلاق والقيم الاجتماعية والذمم في الوقت الذي تعافى عدد من الشعوب من هذا المرض الذي كان من الأمراض المستوطنة في أراضيه .. هذه جرثومة خطرة يجب محاربتها مثلها مثل الإيدز والأوبئة الأخرى.