ليس هناك أفضل من فيلم "حياة باي - Life Of Pi" لافتتاح فعاليات الدورة التاسعة من مهرجان دبي السينمائي، فالمهرجان الذي أعلن منذ دورته الأولى عام 2004 بأنه سيكون جسراً بين الثقافات ونقطة تلاق بين الشرق والغرب، لن يجد أفضل من فيلم غربي لمخرج تايواني يحكي قصة فتى هندي ينجو من الموت المحقق بفضل إيمانه بالله وبالأديان كلها. إنه فيلم نموذجي ويعبر تماماً عن رسالة مهرجان دبي، وإذا كان المهرجان قد افتتح دوراته السابقة بأفلام رائعة مثل "رحلة إلى مكة" و"الجنة الآن"، تدعو للتعاون بين الثقافات وإرساء قيم التسامح والمحبة، فإنه سيعثر في فيلم "حياة باي" على أكثر من ذلك بكثير. الفيلم الذي افتتح فعاليات المهرجان أمس الأحد، والذي شاهده الإعلاميون والنقاد وضيوف المهرجان في عرض خاص مساء السبت، يروي قصة الإيمان والأمل والحب من منظور عالمي اشترك في صياغته مبدعون من مختلف الجنسيات، فكاتب الرواية التي اقتبسها الفيلم هو الكندي يان مارتل، وكاتب سيناريو الفيلم هو الأمريكي ديفيد ماغي والمخرج هو التايواني آنغ لي، فيما ذهبت البطولة للممثلين الهنود، أما القصة ذاتها فهي خير معبّر عن قيم التسامح والتعايش بين المختلفين؛ وهل هناك أبلغ من أن تتعايش مع نمر مفترس في قلب المحيط الهادر؟. آنغ لي يروي الفيلم قصة الفتى الهندي "باي" الذي وجد نفسه أمام كارثة كان يعتقد أنه غير مستعد لها. لقد غرقت السفينة التي استقلها مع عائلته في وسط المحيط ولم ينج منها إلا هو وبضعة حيوانات ركب معها في قارب صغير دون أن يكون له هدف سوى البقاء على قيد الحياة لأطول فترة ممكنة. لقد نسي سبب سفر عائلته من الهند باتجاه القارة الأمريكية على متن السفينة المنكوبة، ولم يعد في ذهنه الآن سوى العيش في قارب صغير محاطاً بحيوانات مفترسة تضمر له الشر. الرواية التي اقتبسها الفيلم، والتي ترجمت للعربية في العام 2006، يغوص فيها الكاتب الكندي يان مارتل في خواطر الفتى "باي" أثناء رحلته على متن القارب، مستعرضاً أسئلة الشك والإيمان التي تنتابه في لحظات اليأس، كما يسترسل كثيراً في وصف جمال حديقة الحيوانات التي عاش فيها "باي" طفولته، في تدفق سردي ممتع منح الرواية ثراءً وحيوية وجمالاً جعلها أهلاً للفوز بجائزة البوكر العالمية عام 2002. وأمام ثراء روائي كهذا لم يكن متاحاً للفيلم سوى التركيز على جوهر الحكاية وتجاهل كل الاستطرادات الجانبية التي احتوتها الرواية، وهذا ما فعله السيناريست ديفيد ماغي "كاتب فيلم العثور على نيفرلاند" والمخرج آنغ لي، حيث قاما بإزالة كل حواشي الرواية وركزوا على ما هو أساسي فيها. ورغم الاختصار الذي سيلحظه من قرأ الرواية، إلا أن قصة الفيلم ظهرت كاملة العناصر، وافية المعنى، ومخلصة لأفكار الرواية الأصلية، في واحد من أفضل الاقتباسات السينمائية وأذكاها. في الفيلم يؤسس المخرج "آنغ لي" جيداً لحكايته منذ المشهد الأول، مصوراً طفولة "باي" في حديقة الحيوانات التي تمتلكها عائلته جنوبي الهند، وعابراً على الرحلة الروحية التي قطعها الطفل الهندي بحثاً عن الله، والحب الذي ملأ قلبه عندما عثر عليه بين جموع المسلمين والهندوس والمسيحيين وكل مكونات المجتمع الهندي، في رحلة مؤثرة سردها الفيلم بإيجاز في بدايته، لتكون تمهيداً للرحلة الأهم التي سيكون على الفتى "باي" المرور بها في عرض البحر برفقة نمر مفترس؛ فإذا كان قد آمن منذ الطفولة بالحب ونبذ العنف وأصبح نباتياً لأنه يرفض القتل حتى لحيوان، فكيف ستكون حاله وهو يصارع أمواج البحر يائساً جائعاً ومنهكاً بسبب صراعه المستمر مع النمر؟. هنا يصبح الإيمان بالله سلاحه الوحيد وطوق نجاته من هذه الكارثة. صورة الفيلم بدت مدهشة في دقة نقلها لعوالم الرواية التي تخيلها الكاتب يان مارتل وتألق في تجسيدها بصرياً المخرج آنغ لي، من الأسماك الطائرة، إلى آلاف الحيوانات التي تسكن جزيرة النباتات آكلة اللحوم، مروراً بالحوت العملاق، وبالأسماك المضيئة، وبالأمواج الهادرة، وبالصواعق، وبالنمر الذي لا يفرط في أي فرصة للانقضاض على شريكه في القارب. آنغ لي يبدع في "حياة باي" ويقدم نقلاً "خلاّقاً" للرواية، مواصلاً تميزه في الاقتباس من الروايات، حيث فعلها سابقاً مع رواية "عقل وعاطفة" للروائية جين أوستن حين قدمها في فيلم حاز ترشيحات للأوسكار عام 1995، كما قدم عام 1997 اقتباساً رائعاً لرواية "عاصفة الثلج" في فيلم يحمل نفس الاسم. وعطفاً على ما في فيلمه الجديد "حياة باي" فإنه سيكون أحد فرسان موسم الجوائز المقبل دون شك، وهذا ليس بجديد عليه، فهو مخرج "ولد وفي فمه ملعقة من ذهب" حيث رشحت أول ثلاثة أفلام له في بداية التسعينات لجوائز مهمة من بينها الأوسكار وغولدن غلوب وبرلين السينمائي كما كان كل فيلم من أفلامه ال 13 التي أخرجها حتى الآن، حدثٌ سينمائي مهم يحتفي به السينمائيون حول العالم.