الحياة الدراسية والمدرسة بما فيها، عالم مستقل بذاته، نقطة التقاء تعد أكبر تجمع للناشئة من الطفولة والشباب، تأخذ حيزها الكامل من الأحداث والذكرى، تفرض وجودها في مخيلة وتصور كل من درس وجلس على مقاعد الدراسة، بدءاً من حلقات الكتاتيب عند المقرئ أو المطوع، وما بعد ذلك من دراسة نظامية. ماضي الدراسة لبساطته حلو عذب التذكر، مفرح الاستعراض، فيتذكر الدارس مع أهمية العمل منغصات العصا والفكلة، وحرص المطوع على طلابه، والحفظ والخط واللوح والقلم، كما يتذكر طالب المدارس انتظامه مع الأقران في الطابور والنشاطات والجماعات، كما يتذكر الرحلات الطلابية، في هدوئها وتلقائيتها والبساطة التي تكتنفها، يزورون فيها وادياً حول القرية قد لا يكون ذات ميزة، لكن الصحبة تجعله مكاناً أنيساً جميلًا بحضورهم فيه، أو جبلاً أو روضة وقت الربيع أو يلتقون في مباراة ودية في كرة القدم مع طلاب مدرسة في قرية أخرى، أو يقيمون معسكرا كشفيا، كذلك ما يقوم به الطلاب من زيارة مصنع أو مرفق أو جامعة أو دائرة أو صحيفة أو مستشفى، كلها تحفر ذكراها وتبقى صور الرحلات والزيارات في الذاكرة تستعاد كشاحذة للسعادة وإدخال السرور والأنس بزملاء الدراسة الذين ترافقوا. يضاف لهذه الذكريات ما يطرأ من نظم، بعضها يختص بفرز مستويات الطلاب وترحيلهم من صف إلى آخر، وبعضها يقرر قيام المتخرج من المرحلة الابتدائية صلاحيته للتدريس مباشرة وفي نفس المدرسة، دون اعتبار للعمر كذلك البعض يتذكر تنظيم التغذية والمقاصف وتوزيع وجبات جاهزة كانت تصرفها الوزارة في أواخر التسعينيات الهجرية (1397، 1398 ه) منها يخنة الخروف والفول السوداني والحليب والسلطة واللحم البقري والعدس والخضار. والعزوف عن بعض هذه الأطعمة المعلبة لغرابة محتوياتها ورائحتها من عدد من الطلاب والعكس أيضا رغبة بعضهم بشدة وكذا المعلمين الذين يجدون منها وجبة شهية لا يمكن تركها خاصة عندما تكون زائدة بسبب ما خصص لطلاب غائبين فتبقى متوقعة كل يوم، لك أو لأخيك أو للرجيع التالف. هذه الوجبة المسماة تغذية والتي تقدم لأول مرة في تاريخ التعليم، تركت أثرين في الدارسين والمدرسين، أولهما: ما انعكس على صحتهم فهي وجبة متكاملة صحية مفيدة. وثانيهما: وهو الذي يهمنا، أنها سجلت ذكرى من خلال توزيعها وحصر الحضور والغياب وتخصيص عدد من المحتويات لكل حاضر منهم، وتناولها في الفصل، فصارت ذات أثر تربوي فيه روح الجماعة والاهتمام بالفرد أيضا حتى أن بعضهم يحرص على الحضور ليشهد الموقف الجماعي هذا، وربما تذكر طعمها بعض الطلاب ممن تناولها حتى الآن رغم مرور السنين، وبقيت في الخيال صورا تستعاد في كل مرة. وأجزم أن الدراسة ومراحلها والوقت الذي قضاه الدارسون من أجلها قد احتلت حيزا من ذاكرة كل واحد منهم بتفاصيله المتعددة، الكل يحتفظ في مخيلته بعمر يضاف لعمره يستعيده كل مرة ويجول فيه بين وقت وآخر، يبتسم حينا ويحزن من بعض الذكريات ويتحسر لما فات ويتمنى لو تعود كثير منها. حياة دراسية لها نكهتها، وكل يوم منها سجل حافل يرسم رسمت فيه صورا و حروفا لا تنسى غير قابلة للغياب، طابعها الثبات بكل ما جرى، حتى إذا ما انتهى العام الدراسي وانصرم، بقيت مشاعر الجميع متعلقة بشخوص ضمتها جدران المدرسة واحتوتها فصول الدراسة، حتى إن التربية والتحصيل الممنهج والمعد له وإن كان هدفا، يتغلب عليه تكوين زمالات وصداقات وتعارف يفوق ما تمت منهجته وتنظيمه وتقويمه، إلى درجة يشد معها الحنين للمكان جل الدارسين، خاصة في نهاية كل مرحلة حيث يحل الفراق ومغادرة المبنى إلى مرحلة أخرى أعلى منها بعد التخرج، ويكون الفراق والوداع حتمياً. مواقف كثيرة، وظروف تتقاطع أزمنتها وأحداثها الدراسية أو تعترضها أو تتوافق معها، تجبر على التفرق كما أجبرت على التجمع، وبالتالي لا تخلو الذاكرة من الصور المفرحة حتى للمواقف التي كانت في حينها محزنة أو جالبة للهم، لكنها انزاحت فصارت في طي المفروغ منه ولا أقول النسيان لأن غالبيتها لا تنسى ولا يمحوها الزمن. تبقى ذكريات سني الدراسة عالقة في الأذهان تحييها أطياف ووقائع تمر بقصد أو بمحض الصدف، مثل رؤية الكتاب المدرسي القديم وسطوره وصوره و معلوماته، كما يتذكر بعض الدارسين معلميهم وما كان منهم من غضب أو رضا، وحرص وتعب، حتى أن القديم من الأدوات والمقاعد والسبورات والطباشير تعيدهم نحو الوراء وكأنهم للتو يجلسون على تلك المقاعد. إنها الذكريات يستدعي بعضها بعضا، نتابعها وإن لم نبادر إلى ذلك فهي التي تلاحقنا وتصر على الحضور دوما في المقدمة كلما صادفنا زميلا قديما. أهل القرى تجبر أولادهم ظروف الدراسة وإكمالها على الرحيل إلى مدن بعيدة عنهم حيث لا يوجد لديهم سوى المرحلة الابتدائية، يدخلون من باب الغربة وهم صغار السن لم يتعودوا على مثل ذلك، فيكون الأمر صعبا عليهم وعلى أسرهم خاصة مع انقطاع أخبارهم أياما واسابيع وشهورا، وهي لحظات ومواقف أشبه بالفطام للطفل الرضيع، لأنهم يفطمون فعلا من بلدانهم ومجتمعهم وأماكن ألفوها، ويضطرون إلى الدخول في مجتمع المدينة الصاخب الغريب. ولا يقتصر الفراق على صغار السن ممن تخرج من المرحلة الابتدائية بل إن كل فئات المجتمع يبحثون عن الرزق في مدن وبلدان متفرقة، فمنهم من يبحث عن تجارة ومنهم من يعمل في حرفة يدوية، ومنهم من عين في التدريس في بلد ناءٍ وبعيد عن أهله. ولحظة الفراق أو اللقاء المتكررة هذه يهمنا منها ما كونها صفحة من صفحات الذكريات التي تثير المآقي وتجبرها على سكب دموع الوله واللحظات الجميلة. وتقول الشاعرة عندما عزم ولدها على السفر من أجل الدراسة، وفكرت في غربته عنها بعد الإجازة، في حالة من التعلق به وتمني بقاءه مدة أطول بجانبها : ليت الدراسة أجلوها لعامين والا البعيد لديرته ينقلونه يرتاح قلبِ عذبه دمعة العين وقت السفر خطرِ تبين جنونه كني كسيرِ وشاف ربعه مقفين وأقبل عليه اعداه مايرحمونه والا ضعيفِ ضايقه كثرة الدين ضاقت عليه الأرض وأعلن سجونه يالله ياغافر ذنوب المصلين تلطف بقلبِ بيّنات ِ طعونه إنه قلب الأم إحساس صادق ينضح بالعطف والحنان، حيث يتبع ولدها وقت رحيله ويعيش معه وقت غربته ولا شك أنه جرب قسوة انتظار عودته، ولو كان هناك اتصالات كاليوم لم يكن للسفر ذاك الهم، ولم يكن للغياب تأثيره المؤلم . وهذا الشاعر : علي الحربي معبرا عن عذره عن غيابه عن المدرسة يقول في قصيدة للمدير : يامدير المدرسه وقت الدراسه الحقيقه رحت عنه وراح عني الهدف ماهو بعلم ولاسياسه افتح اذنك والصحيح يجيك مني خذ كلام الطالب اللي شاب راسه مادرس في مدرسة هنّ بن هنِّي يامدير، الوقت فارسني افراسه والتجارب قبل درسك درسنّي مادرسناها على كرسي وماسه سامعين الدرس من راس المسنِّي وأنت من ساسك وعز البيت ساسه وفيك ياراع الوفا ماخاب ظني وكانها صارت مثل راع العساسه كل شيٍ راح مني ما غبني يوم غبنا عنك مقصدنا الوناسه مع رجالٍ كيفهم هيلٍ وبني ان قبلت العذر فصلنا لباسه و ان رفضت العذر ماني بمتعني وكان راسك ماتنازل عن يباسه دوك كتبك كلها لا تمتحني شاعر صريح في عذره، غير مجامل في موقفه، بسيط في عرض فكرته يضع كل الخيارات في متناول مديره مع ثناء وتقدير، يختم القصيدة بعزة النفس ونختم المقالة بها .