لن تفهمَ الجزائر اليوم إذا اكتفيتَ بعقل واحد أو جيل واحد أو رؤية وحيدة. الصورة أكثر التباساً. تتداخل ملامح الصورة بين الماضي والحاضر.. بين أحلام ولت ورؤية للمستقبل لم تتبين ملامحها بعد.. بين جيل يتوكأ على عصا الماضي وبين جيل يتطلع للضفة الاخرى على الدوام لاتبعد مرسيليا الفرنسية عن الجزائر العاصمة سوى مسافة ساعة ونصف بالباخرة السياحية. من شرفة الفندق في العاصمة الجزائر أخذت أراقب تدفق القادمين من السياح والعائدين من الجزائريين من مرسيليا.. ومن ذات المرفأ الذي بناه الفرنسيون قبل أكثر من مئة وخمسين عاما. منذ احتلال الفرنسيين للجزائر في عام 1830 لم تتوقف حركة هذا الميناء.. لقد اكتشف الفرنسيون أرض السمن والعسل في هذه البقعة التي كانت تراودهم أحلامهم زمنا طويلا باستيطانها وإلحاقها بفرنسا الأم. الفندق الذي أقمت فيه في قلب الجزائر العاصمة بناه الفرنسيون في عام 1920 لم يظهر أن هناك تغيرات تُذكر حدثت منذ بنائه الاول.. حتى المصاعد التي تخدم أدواره الخمسة الكبيرة لازالت تعمل منذ ذلك الزمن البعيد.. في كل مرة كنت أريد ان أصعد إلى غرفتي أظل أراقب تلك الحبال الفولاذية التي تشد ذلك الصندوق الخشبي الجميل إيذانا باقتراب الوصول... تدير الدولة عبر احدى مؤسساتها هذا الفندق الكبير الذي ورثته عن الحقبة الاستعمارية.. ورغم نزلائه الكثر إلا انه يعاني من التدهور ناهيك عن غياب فكرة وروح التجديد. كل ما في العاصمة التاريخية يوحي لي بالأثر الفرنسي الكبير الذي خلفه استعمار جاء ليبقى.. تكاد تكون معظم مباني العاصمة التاريخية توحي بتلك المرحلة، تفاصيل البناء والتأنق الشديد في هندسة الواجهات والطرق.. كلها من تلك الحقبة التي استمرت طيلة مائة وثلاثين عاما. بين الواجهة البحرية والشوارع الخلفية والأزقة الداخلية تكتشف مدناً داخل المدينة الواحدة. تصعد المدينة للجبل.. ولكنها وهي تمهد لك سبل الوصول تقدم لك عوالم مختلفة ووجوها مختلفة ومأزقا انسانيا ينتهك احيانا وجه المدينة الجميل. قرأت الطاهر وطار، منذ أكثر من عقد.. إلا ان قاع المدينة كشف لي كم تبدو تلك المسافة بين قراءة الروائي الجزائري الكبير.. وبين أن تتفرس ملياً في وجوه قدها البحر والجبل والتاريخ وعواصف الأحداث التي أدمت وأرهقت الجزائر لأكثر من عقد ونصف ولازالت آثارها تكشف عن القلق الكامن الذي يتوزع جيلين. جيل لازال يحلم بزمن السبعينيات الذي لن يعود.. والآخر يحمل مخاوفه من قلق القادم.. وهو يرحّل احتياجاته إلى مستقبل لا يقوى على التحكم بشروطه. لن تفهمَ الجزائر اليوم إذا اكتفيتَ بعقل واحد أو جيل واحد أو رؤية وحيدة. الصورة أكثر التباسا. تتداخل ملامح الصورة بين الماضي والحاضر.. بين أحلام ولت ورؤية للمستقبل لم تتبين ملامحها بعد.. بين جيل يتوكأ على عصا الماضي وبين جيل يتطلع للضفة الاخرى على الدوام. الرفاه السياحي عنوانه ضعيف في الجزائر العاصمة ماعدا في بعض الاطراف.. أما قلب المدينة فهو الاكتشاف الأجمل وربما الأخطر لمن تستهويهم التفاصيل بحثاً عن المعنى المغيّب تحت ركام اليومي. بهذا تقترب من فهم الجزائري الذي قد يبدو لكثيرين تكوينا صعبا غير متلائم مع مزاج المشرقي الذي يطربه الكلام المعسول والمجاني. اذا استطعت ان تكسر ذلك الحاجز الوهمي فستجد انه يمنحك ثقته بلا حدود.. تعدد دوائر النخبة في الجزائر.. إلا أن الشارع أكثر تعبيرا عن هاجسه تجاه النخبة وهو يصارع اليومي. الصدفة التي اتقصدها قادتني للتعرف على ثلاثة نماذج أدهشني وعيها رغم التباين الكبير بين مكوناتها المعرفية. يوسف على حافة الستين يعمل بتجارة الملابس في مرسيليا .. منذ فترة قصيرة قرر العودة الدائمة للجزائر لحاجة اسرته لوجوده.. لم يخف حنينه لمرحلة عايشها بكثير من الامل والحلم والكفاية.. تبدو مرحلة الرئيس الراحل هواري بومدين المرحلة الاهم في تكوينه يتأسف بدرجة كبيرة عندما يقارن بين عالمين.. بين عالم الكفاية وبين عالم الانكشاف على مصاعب الحياة اليومية التي تكاد تلتهم ما تبقى من لحظات الصفاء.. بين مرحلة الحلم والبناء والتصنيع الثقيل والرعاية الاجتماعية، وبين مرحلة الاستسلام لرياح الرأسمالية المتوحشة.. بين طبيعة الحياة التي كانت تحمل مع نسائم المساء كثيرا من المرح والفرح وبين عتمة الأيام التي مضت وهي ترحّل الازمنة الجميلة لتبقى مجرد ذكرى غاربة. وبين تلك الومضات البعيدة وبين وقائع اليوم القاسية، لم يكن يوسف مجرد استدعاء.. كان قراءة دقيقة في تفاصيل كنت بحاجة لفهمها ومناقشتها واكتشاف مساراتها التي تحاول الجزائر اليوم تجاوز إخفاقاتها وعثراتها. توفي الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد بعد أيام من عودتي فعادت بي الذاكرة إلى ذلك الزلزال الكبير الذي عصف بالجزائر بعد أول انتخابات تعددية في عام 1991. كان الشاذلي بن جديد يحاول أن يدفع عن الجزائر تدهور دولة الرعاية بعد ان عصفت اسعار النفط المنخفضة في منتصف الثمانينيات بقدرة الجزائر على ملاحقة التزاماتها.. هل كان الاصلاح السياسي عبر التعددية الوليدة ثمن تقلص كبير لدولة الرعاية الاجتماعية وتدهور العملة المحلية وزيادة التضخم وتراكم أزمات الحياة اليومية؟ لقد كان الثمن باهظا على مختلف المستويات.. ما بين تحولات بن جديد منذ منتصف الثمانينيات، والانقلاب على مساره الجديد مطلع التسعينيات دفع الجزائريون ثمن عشريتين.. أطلقوا على احداها العشرية السوداء، والاخرى العشرية الحمراء. الصحف العربية في الجزائر ضعيفة وتكاد تكون محلية جدا.. أدهشني الفارق الكبير بين عمق الوعي واتساع ثقافة كثير من الجزائريين، وتواضع صحافة كان يمكن لها ان تصعد لدرجة التعبير عن تلك التطورات الثقافية والذهنية في عقل الجزائري المثابر على استخدام أدوات التواصل والميديا الجديدة. محرز، شاب عشريني يدرس في كلية الشريعة بالجزائر.. صحبني متبرعاً للقصبة.. الجزء التاريخي من جزائر ما قبل الاستعمار الفرنسي أو ما يمثل مرحلة الحكم التركي. الأزقة المنحدرة من الجبل نحو الساحل يقودك بعضها إلى سراديب ودهاليز معتمة إلا من كوى ضيقة تبث بعض خيوط من الضوء وتفتح مسارات النسيم القادم من البحر والمتدفق من الجبال البعيدة. هنا عاشت الجزائر العاصمة أكبر المواجهات الدموية بين الجماعات المسلحة والسلطة الجزائرية.. فيما أطلق عليها الجزائريون العشرية الحمراء.. تعدد المساجد الصغيرة والمدارس العربية التقليدية بين تلك الأزقة.. وفي كل منعطف أكتشف عين ماء رقراق تروي ظمأ العابرين. هذا الشاب الذي نشأ في تلك البيئة.. أدهشني بعمق وعيه لأزمة الجماعات الاسلامية المتطرفة التي لا مستقبل لها في منطقة بدأت تلفظ بقاياها.. وهي تبحث عن نقطة التقاء بين قدرتها على الحفاظ على نسيجها وثقافتها، وبين وعيها بقيمة الحرية والتعايش مع الآخر مهما كان حجم الاختلاف. أما صلاح الشاب القادم من عنابة، والذي قضى شطرا من حياته في بلجيكا فلا زال يقدم لي ذات النموذج الثوري الذي لا يحمل سوى عقيدة الرفض وسوداوية المشهد على الرغم من أن بعض المؤشرات تؤكد ان الجزائر خرجت من عنق زجاجة التعطيل. مع مجيء الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، ومسار المصالحة والوئام تتنفس الجزائر الصعداء.. العاصمة التي تكاد تنام بعد الثامنة.. وتخلو من المارة بعد العاشرة تقريبا.. بلد النفط والغاز والخصب والينابيع تحاول أن تحث الخطى نحو آفاق جديدة. ومن مترو العاصمة الذي لا يقل جودة وتجهيزا عن أي مترو في أوروبا.. إلى القطار الكهربائي السريع.. حيث قصر الثقافة الذي أقيم فيه معرض الكتاب هذا العام.. تفاجئني هذه الاعداد الكبيرة جدا التي جعلت المعرض يضيق بزائريه المتعطشين للقراءة بالعربية. إنه التعبير الأهم عن أشواق شعب جعل من هذه المناسبة احتفاليته السنوية الأثيرة.