الجزائر .. ما كاد هذا البلد أن يطوي صفحات الاستعمار المريرة وأن يوقف حمامات دماء الشهداء الأبرار.. حتى دخل في أتون حرب جديدة من نوعها.. وشرسة في آلياتها.. ودوامة من العنف والعنف المضاد.. وباتت وحدة ترابه .. وسلامة أمنه ومستقبل شعبة .. أحفاد الشهداء في دائرة الخطر!! وشهدت الجزائر أزمة اعتبرت من أشد الأزمات غموضاً وضبابية.. فما أحد يعرف من يحكم من!! ومن يقتل من!! .. وما هي أسباب الأزمة؟ ومن هم المحركون لها والنافخون في نيرانها لتظل مشتعلة دائماً وأبداً.. فوقعت الجزائر في سديم الإرهاب .. وهبت عليها عاصفة سياسية هي الأكثر رعباً في تاريخها والتي تمخضت عنها ما يسمى بالعشرية السوداء.. بعدما حصدت أكثر من (000,002) قتيل وأكثر من (13) مليار دولار خسائر مادية و(7) آلاف مفقود. وراحت التحليلات السياسية تملأ صفحات الكتب ومعاهد البحوث والصحف ووسائل الإعلام لتدرس الأزمة.. كل من وجهة نظره وطبقاً لمصالحه وهواه.. وانحصرت أسباب الأزمة في أبعاد سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية. فعلى الصعيد السياسي هناك من يحمل جبهة التحرير والحزب الحاكم بعد الاستقلال مسؤولية ما حصل في عدم مواكبته للمتغيرات الداخلية وعدم إقدامه على إجراء إصلاحات جذرية تُعلي من شأن الديمقراطية في البلاد.. وأنه تعرض لشيخوخة جعلته عاجزاً عن احتواء الضغوطات الداخلية.. ولم يستوعب لما جرى على الساحة الدولية من انهيارات درامية للاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي.. وأيضاً دور «السلطة» في رسم الخارطة السياسية للحزب إبان الحكم، وصولاً إلى وقف المسار الانتخابي عام 2991م .. مما أدخل الجزائر في معترك دموي كاد ينسف وحدة أراضيها.. كما يعطي البعض أهمية للأسباب الاقتصادية للازمة حيث البطالة والفقر وصلا إلى مرحلة لا تُحتمل..وهناك من يعطي الجانب الثقافي دوره الهام في تأجيج الأزمة حيث صراع الهوية بين العربية والإسلام والفرنكفونية وإلى أي هوية تنتمي الجزائر..وهناك من يعطي للوضع الأمني دوره في تأزم الوضع الجزائري فجهة تحمل الجماعات الإسلامية المسلحة أحداث العنف إلا أن البعض حمَّل الجيش في محاربته لهذه الجماعات.كل ذلك جعل من الأزمة هناك عبارة عن حلقة جهنمية لا يُعرف لها أول من آخر.. وانطلاقاً من هذا ذهبت «الرياض» إلى بلد المليون شهيد.. تستعرض فصول الأزمة في الجزائر عن كثب.. وتلتقي أطرافها وعناصرها الفاعلة وجهاً لوجه.. وتستشرف آفاق المستقبل وبشائر الحب. ٭ شهد أول من نوفمبر 1954 الانطلاقة الأولى للثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، وذلك بعد ميلاد جبهة التحرير الوطني والممثل الشرعي للشعب الجزائري حينذاك. وظلت الحرب قائمة إلى أن اعترفت فرنسا رسمياً باستقلال الجزائر عام 62، في إطار اتفاقية «إيفيان» وقد مثل الجزائر آنذاك رئيس الحكومة المؤقتة يوسف بن خدة، وكانت هذه الاتفاقية نتيجة مفاوضات شاقة وطويلة فجاءت كتتويج لاستقلال الجزائر. وبعد وقف إطلاق النار بين الجانبين الجزائري والفرنسي قرر يوسف بن خدة ورفاقه من ساسة وعسكر دخول الأراضي الجزائرية عبر البوابة الشرقيةتونس - محل إقامتهم - وفي تلك الأثناء حدثت مناوشات بالعاصمة الجزائرية بين أطراف الجيش الجزائري نفسه، وانقسم ما بين مؤيد لإعطاء دور سياسي للحكومة المؤقتة بقيادة بن خدة، وبين معارض لهذا التوجه.. ومع هذه الاختلافات الحادة فضلت الحكومة المؤقتة التخلي عن السلطة، فأخذها رئيس الأركان آنذاك هواري بومدين. منذ تلك الأحداث عجز الرؤساء عن تطبيع الوضع السياسي في مستوى السلطة العسكرية التي ظلت تحكمها ثنائية السلطة التنفيذية العلنية ومراكز القوى المتحكمة في صنع القرار، فظل الجيش خلال العقود الخمسة التي مضت على استقلال الجزائر مسيطراً على مقاليد الحكم وذلك بالرغم من الواجهات السياسية المعلنة «الحزب الواحد، الائتلاف الحكومي». ولم تعرف البلاد الاستقرار السياسي الإ من خلال - كما ذكرنا سابقاً - الحقبة البومدينية التي اقترنت فيها السلطة الثورية الايديولوجية بالسلطة العسكرية. وقد راهن العديد من المراقبين على أن قيادة الجيش غدت على استعداد لتقاسم السلطة التنفيذية مع مكونات المشهد السياسي الأخرى بعد اخفاقها الواضح في تجربة الحكم المباشر (في عهد زروال) ولذا فإن اختيارها للرئيس بوتفليقة يندرج في هذا الاتجاه، ويفسر بأنه يمثل صفقة ضمنية مع القوى السياسية إلى التعددية الحزبية المقننة التي غدت واقعاً لا سبيل للقفز عليه. ولا شك أن بوتفليقة لم يأخذ عهدته الرئاسية الثانية في انتخابات 2004 إلا بتأييد من المؤسسة العسكرية وفق هذا المنطق، ويذكر مقربون من بوتفليقة أنه طرح على قيادات الجيش مجموعة من الشروط الأساسية لتمكينه من نجاح مهمته التي لخصها في إنقاذ البلاد من الفتنة الأهلية وفي مقدمة هذه الشروط اطلاق يده في معالجة الملفات الأكثر سخونة مثل تنظيم الحقل السياسي وتجذير وترتيب المسار الديمقراطي التعددي. وظهر ذلك جلياً في خطابات بوتفليقة بأنه لا يقبل بنصف أو ثلث رئيس أو أن توضع له خطوط حمراء وما إلى ذلك.. في إشارة منه أن يُمنح كافة الصلاحيات الدستورية وألا تملى عليه حزمة مطالب أو أجندة من «هذا أو ذاك»؟! وبالرغم من الدعم المطلق من الجيش لبوتفليقة في انتخابات 1999، إلا أنه حقق نجاحاً شعبياً في استحقاقات 2004، ومنحه ذلك ثقة أكبر وأصبح إلى حد ما متحرراً من قيود المؤسسة العسكرية. وظلت العلاقة بين بوتفليقة والجيش مشدودة تارة وجيدة تارة أخرى.. فنجد أن القيادات العسكرية غير مستعدة للانسحاب الهادئ من تركيبة السلطة، كما بدا واضحاً خلال الأشهر الأولى من حكم بوتفليقة، فتواصل التأجيل للتشكيلة الحكومية الجديدة التي عكست تركيبتها بعد إعلانها استمرار الثنائية في السلطة، وكذلك اختلاق أزمة العروش في منطقة القبائل لإحراجه ووضعه أمام أزمة داخلية، وتارة تجد السلطة «منسجمة» مع توجهات بوتفليقة من خلال دعم مشاريعه المتتالية كتحقيق المصالحة الوطنية، بعد أن جُهز له مشروع الوئام المدني الذي بشر به مخرجاً من أزمة العنف التي عصفت بالبلاد، بعد أن نزل قرابة (6) آلاف مقاتل من الجبال. وفي سياق تلك العلاقة الجدلية من الشد والجذب بين بوتفليقة والمؤسسة العسكرية سؤال يطرح نفسه بقوة.. هل يستطيع بوتفليقة الخروج من العباءة «الكالونالية»؟! خصوصاً بعد التغييرات التي طرأت على قيادة المؤسسة العسكرية مثل استبعاد وزير الدفاع الأسبق خالد نزار واستقالة رئيس أركان الجيش محمد عماري كبادرة حُسن نية بأن الجيش أصبح محايداً وأنه عاد إلى صلاحياته الدستورية من خلال حماية الحدود ولا علاقة له بالقرار السياسي الجزائري؟! ويبدو أنه كلما استمر الرئيس بوتفليقة في سدة الحكم استطاع أن يسحب البساط شيئاً فشيئاً من أرجل المؤسسة العسكرية ويحصل على صلاحيات أكثر وهذا ما تفهمه دوائر داخل السلطة وتحذر منه.. فهل ينكفئ الجيش عن ممارسة التدخل في سياسة الجزائر أم لا؟.. السنوات القادمة ستكون كفيلة لتبيان ذلك. الأزمة الجزائرية شهدت الجزائر بعد استقلالها مرحلة انطلاق اتسمت بالحماس العاطفي والرومانسية الثورية والارتجال في اتخاذ القرارات، وهذا نتاج طبيعي بعد تحقيق المشروع الوطني المنشود.. استقلال البلاد، فحكم الجزائر منذ ذاك الحين الحزب الواحد المتمثل في جبهة التحرير. واندرجت الجزائر كحالة ضمن الدول التي ما أن خرجت من مرحلة الاستعمار، حتى سقطت أسيرة الحكم الشمولي ذي التوجّه الاشتراكي، فنظام الحكم وصل إلى مرحلة «الشيخوخة» من عمره، وكان المطلوب تغييره، بعدما فشل في تحقيق الشعارات التي سادت فيه عن تحقيق التنمية وتشجيع الصناعة والوصول إلى العدالة الاجتماعية. هنا مرت الجزائر بحالة تأزم سياسي واجتماعي واقتصادي بلغ ذروته في خريف 1988، عندما نزل الشعب إلى الشارع معلنين احتجاجهم على سياسة النظام في تسيير أمر البلاد.. تواصلت الاحتجاجات على نقص المواد الأساسية من غذاء ومأكل.. ازدادت الحالة خطورة وكادت أن تقذف بالجزائر إلى المجهول، بعد تراكم المشاكل الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة، مما جعل الشارع الجزائري يعيش حالة من التوتر والهيجان ضد الدولة، وبرغم أن أحداث (5) أكتوبر كلفت الجزائر الكثير من الخسائر في الممتلكات والمؤسسات الحكومية بعد أعمال شغب هزت العاصمة، إلا أن هناك ثمة فرضية يرجحها البعض أن تكون أزمة أكتوبر (88) لا تعدو أكثر من افتعال قامت به أجنحة في السلطة وذلك حسب قراءتها للمشهد الاجتماعي والاقتصادي والسياسي أيضاً، حيث وصل الوضع إلى درجة التأزم فاختلقت هذه الأزمة لإجراء «تنفيس» على حساب النظام الحاكم. فعلاً علت الأصوات منادية بإسقاط الحكومة وإجراء تغيير سياسي يوجد مخرجاً للأزمة الاقتصادية الخانقة التي عانى منها الجزائريون. بعدها أجمع الكل على أن الخاسر الوحيد بعد نشوب الأزمة هو حزب جبهة التحرير التي رأت أوساط سياسية أنه أُستخدم كأداة للسلطة، فذهبت شخصيات داخل الحزب تؤكد ذلك معتبرة أحداث أكتوبر امتداداً لمؤامرة حيكت وبدأ تنفيذها لضرب العمق الوطني للجبهة من قبل أطراف في المؤسسة العسكرية تسللت إلى صفوف الحزب. مع المعطيات هذه حدثت أزمة بين الحاكم والمحكوم، فأصبحت الحال ملحة إلى درجة كبيرة في إجراء تعددية ديمقراطية يقول فيها الشعب كلمته أكثر ويشارك في صنع القرار بصورة جدية وفاعلة. فذهبت السلطة إلى إجراء تعديلات في دستور (1989)، تفتح المجال أمام التعددية السياسية بإنشاء جمعيات ذات طابع سياسي، فكان من المفترض أن يتم بعد هذه الخطوة الاعتراف بأهمية وضرورة المنافسة السياسية، والسماح لجميع الفعاليات بالتعبير عن آرائها في المسائل المختلفة سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية.. فهل كانت السلطة جادة فعلاً في إجراء اصلاحات جذرية بعد فشل تجربة الحزب الواحد؟ أم أنه نوع من التمويه بهدف امتصاص غضب الشارع الذي كان في حالة غليان تام، وتعوض ذلك بديمقراطية سطحية وتعددية شكلية؟ الانتخابات البلدية .. الامتحان الأول وكان الامتحان الأول لهذه الديمقراطية هي الانتخابات البلدية التي جرت في (12) يونيه (1995)، وبداية تطبيق القواعد الديمقراطية في حياة الجزائر، بمعنى وضع النصوص التي جاء بها دستور (89) على محك التجربة بإعطاء الحرية للشعب في اختيار ممثليه، .مع ضمان احترام هذا الاختيار، فدخلت الأحزاب معركة الانتخابات البلدية وراح يبذل كل حزب ما في وسعه للحصول على أغلبية المقاعد، على مستوى المجالس البلدية وكذلك المجالس الولائية، فكان عدد المجالس البلدية المتنافس عليها (1541) مجلساً بلدياً و(98) مجلساً ولائياً. أجريت الانتخابات في (12) يونيه كما ذكرنا، وأسفرت النتائج بانتصار كاسح لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ بنسبة (54,25٪) من الذين أدلوا بأصواتهم وحصلت بهذه الجبهة الإسلامية للإنقاذ على (855) مجلساً بلدياً و(32) مجلساً ولائياً. لقد برهن الإنقاذ أنه القوة الأساسية التي يحسب لها ألف حساب، وذلك من خلال اكتساحه للانتخابات، فهذه النتيجة أحدثت الكثير من القلق لدى خصوم الإنقاذ من العلمانيين والديمقراطيين، بشكل خاص، وأثارت العديد من التساؤلات في الأوساط السياسية والثقافية، البعض منهم اعتبر أن جزائر الاشتراكية قد انتهت وذهبت إلى غير رجعة لتترك المكان كله لجزائر مجهولة غامضة محكوم عليها بمصير مجهول. البعض الآخر صب جام غضبه على الحزب الحاكم، لأنه هو المسؤول عن هذا، بسياسته الانتهازية فعمل على تصفية خصومه من الديمقراطيين واليساريين بصناعة هذا «الغول» (من وجهة نظرهم) ويرى هذا البعض أن المخرج الوحيد هو من خلال العودة المباشرة للجيش إلى السلطة. وذهب البعض إلى حد الكفر بالديمقراطية التي أتاحت الفرصة أمام أعدائهم الألداء من الإسلاميين. وقد أثار فوز الإنقاذ في انتخابات (12) يونيه عدداً لا يحصى من ردود الفعل داخلياً ودولياً، ويرى مراقبون أن هذا الفوز أسبابه الموضوعية، وأنه لم يأت صدفة أومفاجأة كما يمكن أن يعتقد البعض ويرون أن من بين هذه الأسباب انهيار الأيديولوجيات التي حملت راياتها في عدم فهم الواقع والتعبير عن متناقضاته، وبالتالي لعب دوراً فاعلاً في صراعه التطوري، وقد اتضح هذا بشدة في خطاب هذه الأحزاب المستغربة مثل حزب الطليعة الاشتراكية «الشيوعي» وموقفه من مسألة الثقافة القومية والتعريب والهوية الوطنية، وأيضاً مواقفة الانتهازية من الحكم في مختلف مراحله. ولفتت مجموعة ذات اطلاع بالأزمة الجزائرية إلى أن من دون شك لعب عامل الهوية العربية دوراً كبيراً في استقطاب جبهة الإنقاذ لشرائح كثيرة من العربيين الذين اعتبروا أن الحكم في صدد التخلي عنها وبدأ يعبِّر عن هذا التخلي بشكل فج في أجهزة الإعلام، كما أن الانفجار الإعلامي حول النزعة البربرية والإلحاح عليها بشكل تعصبي متزمت ولَّدا في الشارع الآخر نزعة تعصبية متناقضة ومعادية، فقد انصبت النزعة المعادية للنزعة البربرية والفرانكفونية في خانة جبهة الإنقاذ الذي عبَّر بالطبع أنه حامي مسألة الهوية العربية، لا من موقع قومي عربي على أساس العرق والثقافة، بل انطلاقاً من أنها لغة القرآن الكريم. فيما رأى محللون أن الانقاذ استفاد من الفراغ الأيديولوجي السائد ومن تواجد الأيديولوجيات المتراجعة، أو من هذه العودة الشاملة نحو القيم الروحية الدينية فوجد الكثير من الشباب فيها توازنه المفقود في المرحلة الحرجة من حياته مرحلة الطاقة الجيّاشة والرغبة عن التعبير عنها. واستفاد (الإنقاذ) من تصديه الجزئي للحكم فيعتبر من له صلة بالشأن الجزائري أن هذه الجرأة فتنت الكثير من الشبان خصوصاً وأن تطور الأحداث منذ أكتوبر جعل الإنقاذ يبدو وكأنه القوة الوحيدة التي تكبر وتزداد قوة وتحول بذلك إلى التيار الصاعد الذي يجذب حوله الكثير من الذين بحاجة إلى الشعور بالذات في تيار اعتبر الأقوى.. صحيح أن الانقاذ استفاد من تخلي الجمهور عن جبهة التحرير الوطني وغضبهم من سياسات حكوماتها إلا أن البعض رأى بأن حزب الانقاذ وضع تكتيكاً ناجحاً استطاع به أن يستقطب الجمهور سواء في خطابه الذي تراوح بين اعتدال رئيسه عباس مدني وبين تشدد خطيبه البارز الشاب على بلحاج، أو في تشكيله لقوائمه الانتخابية حيث لجأ إلى ترشيح العناصر المثقفة والمحببة في محيطها الاجتماعي والمهني. ومن الأسباب الموضوعية غير العقدية لنجاح الإنقاذ يرى محللون أن الضجة الإعلامية التي أثارتها أجهزة الإعلام الفرنسية حوله، وحولت زعيمها عباس مدني إلى زعيم إعلامي من جهة أو أكثر من ذلك ضحية لهجمة إعلامية فرنسية حققت له عطف الكثير من المواطنين. وبهذا الانتصار للإنقاذ واجه مسؤولية كبيرة ومهمة صعبة تمثلت في ضبط العناصر المتشددة حيث ظهر داخل الإنقاذ بعد إعلان النتائج خطان متباينان إلى درجة التناقض، خط معتدل حاول أن يقيم جسوراً مع مختلف الأطراف ويكشف عن استعداد بل وعن رغبة حقيقية في الحكم وممارسته والنجاح فيه، ويمثله عباس مدني، وخط آخر متشدد لا يتردد في قطع الجسور مع الجميع، بانتقادهم من موقع مبدئي قاطع لا يقبل النقاش، ويمثله الإمام الشاب علي بلحاج الذي يحظى بشعبية كبيرة في أوساط الشبان المنتمين للإنقاذ. وقد استطاع عباس مدني أن يحتوي التناقض حينه بين الخطابين بمرونة كبيرة إلى درجة دفعت الكثيرين إلى القول بأن اعتدال عباس مدني وتشدد علي بلحاج ليس تناقضاً بل إنه توزيع أدوار. وكانت سنة (1995) بمثابة امتحان للتعددية الديمقراطية في الجزائر بعد إجراء الانتخابات المحلية التي حققت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ غالبية ساحقة. فوز الانقاذ بهذا لم يثر الرعب في صفوف خصومه فحسب، بل إن الخوف انتقل من هذه الصفوف إلى مؤسسات النظام المختلفة وبالأخص رئاسة الجمهورية والمؤسسة العسكرية، خاصة بعد أن صدرت تصريحات خطيرة من قبل بعض قيادي الجبهة الإسلامية للإنقاذ تنص على السعي نحو تغيير طبيعة المجتمع، وحتى طبيعة المأكل والملبس. كل هذا أحدث ردود أفعال لدى الأحزاب الأخرى المشاركة في الانتخابات والتي أظهرت النتائج أن حظها ضئيل في تبوء مكان مرموق على الساحة السياسية وأن مستقبلها غير مضمون، راحت تشكك في نزاهة الانتخابات، وأن هذه العملية «حسب نظرها» ما هي إلا رجوع لنظام الحزب الواحد. ولوحظ في هذه المرحلة تقليص صلاحيات المجالس البلدية وحرمانها من الصلاحيات كتوزيع السكن وتسجيل المشاريع التي أصبحت من صلاحيات المجلس الولائي، بعد سن قوانين قامت بها السلطة بغية تقليص دور المجلس البلدي الذي فاز بأغلبية مقاعده الجبهة الإسلامية للإنقاذ. استمر الوضع في تأزم بعد سن هذه القوانين فاستمرت المظاهرات والغليان في الشرع فدعا الإنقاذ إلى إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية قبل نهاية العام. واصل أنصار الجبهة الإسلامية اعتصاماتهم فقاموا بإضراب غير محدود في (25) مايو 1991م، اتبع بعد ذلك بتجمعات واعتصامات في الساحات والميادين العمومية وتحول إلى عصيان مدني. وقد أدى هذا الاضراب إلى اندلاع صراع دموي بين الانقاذ والسلطة الجزائرية والذي انتهى بتدخل الجيش وفرض حالة الحصار العسكري وحظر التجول الذي استمر لمدة أربعة أشهر وجاء إعلان حالة الحصار العسكري في البلاد ليشكك في جدية وفاعلية الديمقراطية الجزائرية. الانتخابات التشريعية كانت الامتحان الثاني للمسار الديمقراطي الذي استقر الأمر على اجرائها يوم (26) ديسمبر 1991 هذا بالنسبة للدور الأول، أما الدور الثاني فسيجري بعد ثلاثة أسابيع من الدور الأول. استعدت القوى السياسية لهذه الانتخابات وعاودت نشاطها السياسي بعد صمت استمر أربعة أشهر كان منطق الرصاص والصراع الدموي بين السلطة والإسلاميين هو سيد الموقف. نظمت الانتخابات، فكان الفوز مرة ثانية حليف الجبهة الإسلامية للإنقاذ حيث حصلت على (188) مقعداً من مجموع (430). من خلال هذه النتائج تأكد للجميع أن الجبهة الإسلامية ستحصل على الأغلبية في البرلمان الوطني وخاصة أنها لم تكن في حاجة إلا ل(27) مقعداً فقط لبلوغ الأغلبية، لهذا كانت ردود الأفعال حادة وعنيفة من طرف السلطة والأحزاب الموجودة على الساحة السياسية. بهذه النتيجة حصلت الجبهة الإسلامية على نسبة عالية من الأصوات وعلى عدد من المقاعد يقربها من الحصول بسهولة على الأغلبية المطلقة في الدور الثاني، وفي هذه الأثناء علت أصوات داخل الإنقاذ ببناء الدولة الإسلامية في الجزائر آجلاً أو عاجلاً باعتبار ذلك الهدف الأسمى في برنامج الجبهة الإسلامية. وقد أحدث هذا ردود أفعال في الجزائر انقسمت إلى مطالب باحترام إرادة الشعب والدستور والنظام الجمهوري ونبذ التطرف والعنف لمنع أية انزلاقات لا تحمد عقباها، وإلى مطالبين بإيقاف المسار الانتخابي وأصحاب هذا المطلب جلهم من الذين أقصاهم الصندوق وتيقنوا أنه لا حظ لهم في الحصول على تزكية من الشعب. وذهبت هذه الأحزاب الخاسرة إلى المطالبة بمقاطعة الدور الثاني من الانتخابات، ودعوا إلى عصيان مدني وإضراب شامل وإلى اعتصام بالساحات العمومية لمنع الجبهة الإسلامية للإنقاذ بعد فوزها بأغلبية المقاعد في المجلس البلدي من إقامة الدولة الإسلامية. ويقترب الدور الثاني وتبدأ المنافسة على أشدها بين الأحزاب التي لها الحق في دخول هذه المعركة وبقيت النداءات المختلفة بعدم الذهاب إلى الدور الثاني، بل المطالبة بإيقاف المسار الانتخابي، وبمجرد اقتناع الجميع برجحان الكفة لصالح الجبهة الإسلامية للإنقاذ، تصدى أصحاب الاتجاهات الفرانكفونية وتيارات داخل المؤسسة العسكرية لعدم تكريس المشروع الإسلامي بقيادة الإنقاذ. وهنا حسم الجنرالات الموقف بخلط أوراق اللعبة، فطالبوا الشاذلي بن جديد بإلغاء الانتخابات التشريعية وقبل أن يستقيل»، باعتبار أن صلاحياته تخوله بذلك، وأمر بحل البرلمان الجزائري وقد أعلن رئيس البرلمان حينه عبدالعزيز بلخادم أنه سمع بأمر حل البرلمان الجزائري من خلال التلفزيون الرسمي!! وقد توالت الأحداث بسرعة مذهلة لتنتهي الجزائر بلا رئاسة ولا مجلس برلماني منتخب ولا مجلس دستوري ولا بلديات منتخبة، إنه الشعور التام بالفراغ الدستوري، إنه بداية انهيار الدولة ومؤسساتها. لا شك بعد انسحاب الشاذلي بن جديد وحل البرلمان وجدت الجزائر نفسها تعيش فراغاً دستورياً رهيباً، والدستور الجزائري ينص أنه في حالة استقالة رئيس الجمهورية أو موته يتولى الرئاسة رئيس البرلمان، وذلك لمدة (45) يوماً تجري بعدها انتخابات رئاسية، إلا أن البرلمان تم حله، ويبدو أن عناصر اللعبة قد حبكت بدقة متناهية لإبقاء الجزائر في وضع متأزم ويكون في قبضة المؤسسة العسكرية لأنه وبعد انهيار كل المؤسسات بقيت الموسالانتخابي تم إنشاء التجمع الوطني الديمقراطي الذي أرادته السلطة أن يكون تياراً بديلاً عن الجبهة الإسلامية للإنقاذ وحزب جبهة التحرير، ورغم أن هذا التجمع كان شعاره الجزائر أولاً وقبل كل شيء إلا أن الشعار لم يثر حماس الجزائريين الذين كانوا يرون أن بلادهم تعيش حرباً شرسة بين شرعية الانقلاب وشرعية الصناديق المقلوبة!! فالمؤسسة العسكرية كانت مصرة على إبقاء الوضع على حاله وعدم الرجوع إلى المسار الانتخابي مهما كلف الأمر، والجبهة الإسلامية للإنقاذ كانت مصرة على التغيير الجذري للنظام. هذا المناخ المتشنج أدخل الجزائر في دوامة من العنف، وتدهور الوضع الأمني إلى حد لا يمكن تصوره، وعاش الجزائريون عشرية سوداء.. كانت الجزائر فيها المفقود الأول بعد ان حصدت أكثر من (200) ألف قتيل و(7) آلاف مفقود و(31) مليار دولار خسائر وخسرت الجزائر موقعيها الإقليمي والدولي.