"نوستوس" كلمة يونانية قديمة تعني الحنين، ومعاذ الآلوسي يضعها عنوانا لكتاب أول يصدره، ثم يستأنف العنوان "حكاية عن شارع في بغداد" نشرته دار الرمال في قبرص حيث يقيم المعماري العراقي منذ عقود. الشارع الذي يعنيه هنا هو شارع حيفا، مجمّع سكني في الكرخ أقيم في ثمانينيات بغداد، وتولى الآلوسي تصميمه والإشراف على بنائه يوم كانت الحرب تدور رحاها. وقدر ما تعنى العمارة برمزية المكان وبعده الثقافي، قدر ما يدلنا الكتاب على حقبة جد حساسة في تاريخ العراق سياسيا واجتماعيا. وبروحه المنفتحة وصراحته ينقل معاذ تجربته الشخصية، ويطل عبرها على الأوجه المختلفة لمكوثه ببلده وتنقله بين مدن الأرض. الكتاب يعد اضافة مهمة إلى تاريخ المعمار العراقي والذاكرة العراقية، وهو ممارسة حضارية ساهم فيها قبله رفعة الجادرجي ومحمد مكية. ولعل تلك التجارب بمجموعها، تشير الى ما في العمارة من تقاليد تربط بين هذا الفن وصلتها بالذاكرة الجمعية والفردية. بيد ان أسلوب الكتاب يختلف عن أساليب الجادرجي ومكية، مع انه يحاور الاثنين على نحو موارب، ولكنه يبدو على مقربة من الروح الشعبي لمدينته، في اللغة التي تستنطقها الفصحى أو تحاذيها، وفي مزاج الطرفة التي تكمن في اصطياد العراقي للمفارقات، وفي الفكرة وهي تعبر قارات الأرض وتستقر في مكانها الأول. كان لمعاذ الآلوسي مواعيد مختلفة مع بغداد ولكن موعده الأخير معها كان هو الأقسى، يوم أحكم "الأخ الأكبر" قبضته حسب تعبير جورج أورويل الذي يستعيره معاذ في وصف صدام حسين وعهده. ماذا تبقى له من ثمالة اليوم بعد أن غدت بغداد مشيحة عن نفسها، يجللها السواد سواد الحروب وسواد التخلف؟ يقترح أن يكون لون علم العراق أسود كي تكتمل أرض السواد اسما على مسمى! يعرض للبيع بيته الجميل المطل على دجلة الذي اقتحمه الأميركان بعد ان سمعوا خرير انبوب فيه، وخربوا بعض معالمه، ثم وقع على خط التماس في الحرب بين الطائفتين. وهل هناك أقسى من هذا المصير؟ انه يقطع جذوره مع المدينة التي عشقها. المؤلف الذي يبدو حزينا ساخطا على امتداد كتابه، يجد القارىء بين هنيهاته الكثير من المفارقات التي هي أقرب الى النكتة السوداء. يقول عن مجموعة المعماريين الحربيين الذين عرضوا تصميماتهم لبناء الجوامع أمام الرئيس أيام حملته الإيمانية : "بعض المآذن ظهرت على هيئة رشاشات ومدافع وصواريخ. القباب على هيئة خوذ المقاتلين" كاد ان يذهب الى حتفه وهو يصرخ دون مرعاة ذوق الرئيس المعماري: ماذا تفعلون؟ وفي السبعينيات يلتقي وزير التخطيط ويعرض عليه مقترحات لتطوير البرامج الثقافية في القناة الثانية التي كانوا في نية فتحها، فترفع الحمية صوت الوزير بعد ان يرمي الأوراق بوجهه "هل يتجاوز عدد المثقفين في العراق مئة ألف شخص؟ فليتركوا البلد إن لم يتوفر لهم الجو الملائم "روحة بلا ردة" اي ذهاب بلا عودة. وهكذا أرادها البعثيون وقالوها على ألسنتهم: لن نترك العراق الا أرض خراب، فصدقوا ببساطة هذه المرة، فكل الخراب الذي نراه اليوم في العراق، وكل الخواء الثقافي، هو من صنع أيديهم، وبتمهيد منهم. ولكن العراق السوريالي دائما يسجل تواريخه على توقيع مآسيه. "نو" الكلمة الوحيدة التي يتقنها العراقيون على اختلاف مشاربهم، كما يقول، يخاطبون فيها معاذ وهو في جولة تصويره الأماكن "عمي ممنوع التصوير" كلهم وبصوت واحد يلاحقونه وهو يحاول توثيق وفهرسة معالم الأماكن التي كُلف بالعمل فيها. يتنقل المؤلف في كتابه بين الأماكن والأزمنة حسب ما تسعفه الذاكرة، وفكرة التشظي قد تشتت قارئه في بعض المواقع، ولكنه يبقى محافظا على بنية واحدة تربط السيرة الشخصية بفن العمارة والثقافة العراقية عموما. صوب الكرخ مقام عائلة الآلوسي، وفكرة تطويره من بين مغريات العودة حيث غادر معاذ العراق مطلع السبعينيات وحل ببيروت. كانت له كثرة من الأسباب حين فضّل الهجرة إلى بيروت رغم حربها، فهي كما يقول المدينة الوحيدة التي لا تسألك عن هويتك، لقد هج من بلده رغم انه لم يكن يوما سياسيا، ولكنه تعب من الاستدعاءات الأمنية لأسباب تافهة، كما أرهقه أسلوب التلصص والملاحقة والتدخل في أخص الشؤون، وغدت زوجته الألمانية موضع سؤال متكرر. كما بارت سلعة المكاتب الاستشارية بعد أن اشتدت المنافسة بين المكاتب التي يديرها معماريون مرموقون ومكاتب الدولة التي صادرت مبادراتهم. ولكن ما أغرى الآلوسي بالعودة بعد أن جاب العالم وحصل على عقود في الخليج وانتقل من بيروت الحرب إلى أثينا، وأثث مكتبا استشاريا، هو الحنين والخوف من الفقد، فقد بعث قريب له رسالة يحذره فيها من البقاء في الخارج دون أن يكمل خدمته العسكرية، ثم ها هو يجد أمامه مشروعا لتطوير منطقته التي عاش فيها أهله، وينتمي الى المكتب الذي يديره رفعة الجادرجي . يقول معاذ "عدت مجبرا مهدود الحيل" . يشهد سنوات الحرب العجاف "سأعيشها، بصواريخها وجنائزها وقصصها المأساوية" هكذا يبدأ سرد العودة الثانية المتداخل بين فن العيش تحت هكذا ظروف، وفن العمارة الذي أراد من خلاله الرئيس أن تظهر بغداد بحلة جديدة، كي تستقبل مؤتمر عدم الانحياز. في رحلة الذاكرة لا يستثني معاذ الخمسينيات التي رأى انها بدأت خطوات تشويه طابع بغداد التراثي، سواء بأخطاء معمارييها او بأخطاء المعماريين الأجانب. هنا يفسر ويشرح معنى الحفاظ على التراث الذي يصبح هاجسه. يبدأ رحلة الغوص الى أعماق المدينة القديمة ويكتشف كيف تحولت بيوت السادة العامرة الى مأوى العوائل المعدمة. يفزع من الفقر الذي يراه في بلد الثروات والبذخ، ولكنه يجد الوقت كي يعيد لبيوت أخرى ذاكرتها المنسية. البيوت التراثية هجرها أهلها لتغير نمط معيشتهم "دورهم التي صنفت وتفهرست على أنها تراثية أصبحت أشبه بأطلال المعلقات" كما يقول. هل كانت بغداد كما يتخيلها الآلوسي مدينة تحمل طابعها الخاص؟ هذا السؤال الذي يسأله المغترب، هو الداء والدواء، فبغداد ليست مثل دمشق ولا مثل بيروت او استنبول او مراكش؟ فهي مدينة متشظية ومبعثرة وبالكاد تتعرف على هويتها منذ ان غزاها التحديث في الأربعينيات والخمسينيات، ولم يحافظ مركزها القديم على ما تبقى له من جمال وعراقة، فقد أُهمل عن عمد على امتداد الحكومات وبمختلف أشكالها. كان المثقفون يفضلون سكنا يبنونه على طراز البيوت البغدادية او على طرز ما بعد الحداثة، ولكن بغدادهم الثاوية في الذاكرة والموشكة على الانهيار لم تكن من بين مشاغلهم، فلم ينظموا حملة لإنقاذها كما فعل المثقفون السوريون والكثير من مثقفي العالم الذين بادروا بإنقاذ أماكن الذاكرة والهوية. يذكر معاذ الآلوسي حادثة دالة شهدها بنفسه، فبعد أن تمت صيانة بيوت قديمة وجميلة في الكاظمية، حاولت اللجنة المكلفة اهداء كل واحد فيها الى مثقف معروف من أهل هذه المنطقة. فكان الجواب صادما حسب ما يقول، فقد اعتذر محمد غني حكمت عن السكن في محلته القديمة، كذلك فعل شاكر حسن ال سعيد، اما علي الوردي فقال لهم "كلا ثم كلا". لعلها ثقافة تجمع الثلاثة في سلة واحدة. السوسيولوجي والنحات والرسام، ومن غير هؤلاء أقرب إلى ذاكرة مدينة مثل بغداد؟ فكيف لمعاذ الالوسي أن يحاول عبر كتابه ان يذكّر قارئه العراقي بما يرغب في نسيانه.