كان هاجس استعادة المدن العراقية من اختصاص الكتاب الذين خرجوا من العراق نهاية السبعينيات وما بعدها، فقد بدأت موجة ما سمي برواية المنفى، وكتابة المذكرات من هذا الباب. وها نحن نشهد اليوم زخما من المذكرات والروايات للكتاب العراقيين الذين لم يغادروا بلدهم، وكلها تحاول تصوير الزمن المنتهي في المدن العراقية. كتاب طالب عبد العزيز الشاعر البصري " قبل خراب البصرة" دار آراس أربيل، يجمع شتات ما تبقى من البصرة وابي الخصيب بلدته التي طالما تغنى بها شعر السياب وسعدي. لعل كتابات أدباء البصرة، ومنذ زمن طويل تكاد تدرج ضمن ما نسميه أدب المكان، الجغرافيا الحياتية والثقافية للمدينة التي تتمتع بمكانة استثنائية في العراق عموما، ولكنها تكاد تكون عند كتابها ما يشبه الوطن الذي لا يستبدل بغيره. من السياب الى سعدي الى محمود البريكان ومحمود عبد الوهاب ومحمد خضير وعيسى الصقر الى الجيل الجديد من الروائيين والشعراء وبينهم طالب عبد العزيز الذي يرى المدينة هذه المرة من خلال ابي الخصيب وهي على تسميتها أخصب بقعة في البصرة، حيث بساتين النخيل والنهيرات تكاد تشكّل ذاكرة الأدب البصري. وبعد ان صدر كتاب " بصرياثا " لمحمد خضير، نشر الشاعر الراحل مهدي محمد علي في التسعينيات كتابا عنوانه " البصرة جنة البستان" كان وقت صدوره يعيش في حلب سنوات طويلة من عمره تقارب العقدين، ولكن كتابه الجميل هذا سجل فيه تلك التفاصيل الصغيرة عن سيرة الماء والزروع، حيث تصبح الشوارع المائية التي تطل عليها البيوت أشبه بفردوس شعري. البصرة بهذا المعنى ورغم صلتها الحميمية بالبساتين والمزارع، لم تكن مدينة ريفية، فقد كانت حاضرة من حواضر العراق، بل الخليج العربي بأكمله، وفي ذاكرة طالب عبد العزيز التي يخص بها منطقته ، ثمة خليط مجتمعي بعضه مديني وآخر فلاحي، وستكون بينهما فسحة لعلاقة متشابكة مع الماء وثقافته وطقوسه، فحياة الناس وعمرانهم وتنقلّهم وطعامهم مرهون بمواسم المد والجزر في شط العرب، وهي مدخل او باب من الأبواب الكثيرة التي يطرقها الكاتب. السيرة المتخيلة لمدينته، تكاد تكون سيرة شعرية، ولا تخضع الى تسلسل منطقي او زمني، بل هي لمحات او شذرات أو صور تبثها ذاكرة الكاتب،حيث يختلط التاريخ البعيد بالقريب، المكان الحقيقي بالمتخيل، المجاز بالإخبار، القص بالشعر. ولا يحتاج متابع هذا الكتاب الى جهد كبير كي يكتشف ان كل المواضيع التي يقاربها هي مشروع قصيدة نثرية، او هكذا يبدو النثر وقد أضاع دربه إلى القصيدة . سنكتشف مفارقة التسميات في اللازمة التي تصبح متنا في الكتاب، فأبو الخصيب تُعرف الكثير من مناطقها حسب أبوابها، فكل تسمية تسبقها كلمة باب. البصرة التي يستدل على خرابها من العنوان، ذهبت مثلا في أدبيات العرب عن نكباتهم، فكانت هذه المرة تاريخا للمدينة التي غادرت في ذاكرة الشاعر أيامها الطيبة، فلم تعد الأبواب سوى مجازات يطرقها كي تقدح في ذهنه صورة أيامه الضائعة. في توطئة الكتاب يشرح المؤلف سر ابتداع الخصيبيين للأبواب او "البيبان" حسب تسميتهم، فهي سدود تحفظ الماء بعد انحساره عن انهارهم موسم الجزر، فنهر مرزوق الذي احتفره قائد صاحب الزنج في حربه ضد الدولة العباسية، كان حافزا للناس كي تحفر أنهارها وتسقي بساتينها،وتقيم سدودها وتبني بيوتها التي تقابل المسناة او الشريعة، حيث تفضي سلالمها الى داخل النهر. تصبح المسناة مكانا للبهجة، فتزرع حوافيها بالورود واشجار التوت والسدر. ومن هنا " يقيم الخصيبيون بابا على كل معنى من معاني الحياة ". يأخذنا طالب عبد العزيز في رحلة الذاكرة وهي تنتقل بين الماضي والحاضر حيث نهر العشار الذي تبكيه الناس اليوم، كان يخترق المدينة وتحف به البساتين والأسواق والبيوت والشرفات والشناشيل، وتمخره الزوارق. تصبح الأصوات وهي تتعدى الشخص الثالث في الحكاية الى راوٍ أصلي وآخر مستمع، وثالث يقف بينهما او يتحول بدوره الى شارح او معقّب، ولكن النص ينعش الذاكرة من خلال تأويلاته، ففي كل حكاية هناك رمزية يصوغها المكان وحوادثه، وهي بهذا المعنى تتسع او تضيق بتلك التأويلات، فكل الحكايات التي تروى عن الماضي تحمل قدرا من التبجيل ومسحة من الحنين، حتى مواقع السباخ وهي التي يمر منها البدو الرحل، تصبح فسحة من الحرية لأبناء الفلاحين الذين يعبرون بساتينهم الى تلك المساحات التي تلهبها الشمس بحثا عن السماد لزرعهم. ولكن خراب البصرة لم يبدأ مع سنوات الحرب التي حولت أجمل قصر شاهده الطفل الى بار وملهى للضباط والجنود، ثم الى خنادق للقتال، فقد مر تاريخ المدينة بمنعطفات كثيرة، ويرشدنا الكتاب الى التواريخ التي رحلت فيها الكثير من بيوتات المدينة المتطلعة الى حياة أفضل في الكويت، او هربا من عسف السلطة بعد انهيار الملكية، فاستبدلت هويتها وتاريخها بتواريخ جديدة، وغدت من بين العوائل النافذة في الدولة الجارة. كانت الكويت تزدهر والبصرة تضيق بأهلها، ومع ان البصرة أكبر خزان نفطي في العراق، بيد أن مفارقة السياسية أتت على تلك المرابع بالخراب. تنتهي البصرة الجميلة، لؤلوة الخليج وزهو العراق الى مصير لم يكن يتخيله أكثر الناس سوداوية، فالبصرة التي كانت تستوعب الاغراب والاقوام البعيدة والقريبة، بصرة المرح والبهجة والفن والأدب، تجف انهارها وتقطع غابات نخيلها، وتغلق دور السينما والمسارح، وتهشّم تماثيل الحوريات المطلات على شط العرب ويسربلهن الجهلة بالعباءات. يرحل الخصيبيون المهددون الى الموصل " ماذا يفعل فقراء أبي الخصيب في الموصل؟" يسأل الشاعر، وهو يرى كيف تحفر خنادق الطائفية جرحا عميقا في وجه المدينة المسالمة " اني لأكره مدينة الاجداد" هكذا يقول الذي لا يريد ان يتعلم فن الهجرة، فقد حاول في الماضي وفشل. الذاكرة القريبة مؤلمة ومجروحة، وما تبقى من الماضي الذي يرويه طالب عبد العزيز او يستحضره رواته، يمكن تسميته وصل التخيلي بالمرجعي، فمعلّم المدرسة يحكي لطلابه عن باب سليمان الذي قدم منه الملك فيصل الى البصرة، فزرع له الفلاحون في موسم الخريف أشجار العنب والرمان والورود، وبدر السياب الذي أكمل الابتدائية في مدرسة باب سليمان، تمنى أن يتحول اسمها إلى مدرسة نهر العذارى. وكلمة " تمنى" تصبح مدخلا للاستيهام، فالذكريات تبقى ناقصة اذا خلت من الخيال، وفي صندوق حكايات محمود البريكان" يلتف الشاعر ببرنصه ذي الحزام المفتول، وقد همدت المقطوعة الموسيقية على المنضدة الزان الدكناء.. الشاعر يحدق في السقف بعين مفتوحة وحيدة هذه المرة، فقد اسلم عينيه، لما ظل من وحشة الليل من نجوم" هل قصة مصرع البريكان حقيقية، لعلها تبدو مثل كل شيء في البصرة حين استفحل خرابها، غير قابلة للتصديق.