اعاد إلي كتاب ناصر الحجاج " بدر شاكر السياب / هوية الشعر العراقي" دار العارف، كل ما بدا لي مربكاً في فهم المنحى الجديد في الثقافة العراقية، والمتعين بكيفية تعريف الكتّاب الجدد أنفسهم عبر الانتماء إلى المدن التي ينحدرون منها. ناصر الحجاج من البصرة وهو يكتب عن مدينته في علاقتها بالسياب أو العكس. بيد أن صيغة الانتساب تبدو هنا نتاج ثقافة تحتاج إلى مراجعة، وربما يسعفنا الحظ في التقاط بعض سماتها عبر هذا الكتاب، الذي لا يقتصر النقاش عليه، فهو هدية من مؤلفه الشاب الكيّس المتواضع الذي تعرفت عليه ببيروت ويستحق كل تقدير لجهده. كل مقصدنا هو تسليط الضوء على ما نشهده اليوم في الثقافة العراقية من محاولات لإبراز هويات المدن، وهي ظاهرة صحية من أجل كسر مركزية السلطة التي آل قمعها وجهلها إلى ضياع ومسخ كل الهويات، بما فيها هوية العاصمة، إن كانت لها في السابق هوية ثقافية. ولكن الغريب في هذا النازع ما ينطوي عليه من تفاخر وتضخيم وتنابز بالمدن. الكتاب يدور حول محلية شعر السياب، وهذه السمة لم تكن يوما موضع إهمال في أوراق النقد، لا في إطلاق التسمية ولا في تشخيصها، ومحاولة الحجاج ربط شعر السياب بالأغاني والأمثال والترديدات البصرية والمحكية الجنوبية، ليست جديدة على من قرأ المؤلفات العراقية عن السياب، ولكن الجديد فيها هذا الحماس الشبابي الذي يكاد يحرق صاحبه في أتون عصبية تتعدى الغرض الأدبي إلى أغراض أخرى، ليس أقلها الانتقاص من كل من كتب عن السياب من العرب او العراقيين الذين " لم يشربوا الماء الذي شربه السياب" كما يقول المؤلف. كتاب ناصر الحجاج يحوي مقدمة وسبعة فصول، وهو رسالة جامعية تقدم بها المؤلف إلى الجامعة اللبنانية. يقول الحجاج في مقدمته " لا نتوقع أن يتمكن أي ناقد من سبر أغوار نص أدبي ينطوي على ثيمات محلية أو لغوية كانت أم اجتماعية أم فولكلورية، ما لم يكن ذلك الناقد واحدا من السكان المحليين، لأن اللغة أية لغة لا يمكن أن تنقل إلى لغة أخرى دون أن تحمل عمقها الدلالي المتداول بين الناطقين بها. وهكذا لا نتوقع أن يتمكن النقّاد العرب من إدراك شاعر كالسياب عاش البيئة العراقية وحمل تعقيدات المجتمع العراقي، وبدأ اول نتاجه بكتابة الشعر الشعبي المحلي متذوقا ومبدعا بريشة اللهجة الجنوبية البصرية " من هذا المنطلق يقول انه يرسم الصورة الغائبة لشعر السياب باعتباره ، أي المؤلف، بصريا. وكي يدرك القارىء البصرة مكانا متميزا، عليه أن يعود إلى بدء الخليقة. وهكذا يسير بنا الكتاب في مقدمته، موغلا في الحديث عن المدينة " العصية على الأعداء" أو تلك التي لم تدركها المدن الأخرى لأنها " مدينة الله الأولى، لإنسانه الأول، وهي جنة عدن التي عاش فيها آدم وزوجه، فهي أول بيت وأول أسرة" ثم يسري بنا في رحلته كي نتعرف عبر المدينة على الحسن البصري وابن الهيثم وابن المقفع وسواهم. ثم نعود من الرحلة الطويلة تلك إلى أور وكلكامش وقبر ابراهيم، ومعركة ذي قار بين العرب والفرس. حلّق المؤلف في مقدمته بالسياب، ووضعه على بساط سحري، حتى أشفقنا على الشاعر من تلك الحمولة التي ينوء بها. ولعل أسلوب الكاتب وهو يدخل البصرة إلى أبواب المدن الخارقة، فوّت على مدينته جانبا جميلا من حكاياتها التي استذكرها السياب في شعره، من المومس العمياء وأحياء اللذة التي عرفتها البصرة، إلى حفّار القبور وأم البروم، وباعة الدم، والمغني العجوز، والمُخْبرين، وطبول الزنوج ورقصاتهم، وسوق الهنود، وكل ما تمثّله الشاعر، بل كل ما شكّل تاريخ البصرة في زمن السياب، ذلك التاريخ المفعم بالروائح الحريفة والحياة الأرضية الضاجة بالشعر. وهذا لا يعني أن الكتاب لم يتطرق إلى بعضها، ولكن مقدمته التي اقتضاها خطاب الثقافة العراقية الجديدة، تبدو على تناقض مع مادته. لعل أقصى ما تمناه السياب وما يتمناه كل أديب، هو ان لا تضيق عوالمه لتقتصر على فهم أهل مدينته، وأتعس ما يلم بالأديب من مصائب، هو المدح الذي يتلقاه من المقرّبين إليه أو الذين خرج من بين ظهرانيهم. والأدب الجدير بالقراءة هو ذاك الذي لم يعد ملك صاحبه ولا ملك أهله أو أبناء بلدته، بل ملك الجماعة التي كُتب بلغتها، أو ملك الإنسانية إن كان الكاتب محظوظا كي يقرأه الناس بلغات أخرى، أو يكتب هو بلغة تلقى الرواج عالمياً. لعل في محاولة الحجاج فائدة مهمة في تتبع الأثر العيني في مرجعيات السياب المحلية، ولكنه يبدو هنا كما لو يسد باب التأويل على من قرأ السياب من النقّاد العرب، ويذكر المؤلف بينهم إحسان عباس الذي كانت محاولته تناسب زمنه ومكانته الكبيرة في النقد يومذاك، وحتى لو أخطأ في التقدير او لم تسعفه ثقافته في معرفة البصرة ، فله ثواب المحاولة. جيكور وبويب وصورهما المتبدّلة، رسخت في ذاكرة العرب، عندما أطلقهما السياب من اسار المحلية وجعلهما أمكنة قابلة للقراءات المنوعة وحافلة بالقدرة على التأويل المضاعف، والتأويل عملية إبداعية تخرج النص من زمانه ومكانه المحددين، لتستنبط أبعاده وعلائقه المتحركة في فضاءات فكرية وتأملية، هذا إذا شئنا إهمال نظرية التواصل، ثم نظرية التلقي وبدعة موت الكاتب. ولا نحسب إلى اليوم قراءة مهمة مثل التي كتبتها خالدة سعيد عن قصيدة " النهر والموت" وهي لم تشرب من الماء الذي شربه السياب، ولا أكلت من تمر بلدته. والحق ان جيكور وبويب وأم البروم ووفيقة وبنات الجلبي، كل تلك الثيمات وغيرها، تحولت بفضل رحلتها عبر شعر السياب، من الحيز المحلي الضيق إلى فضاءات تتصل بثيمات الشعر العالمي، ومنجز السياب في جانب مهم فيه، يقوم على الإفادة من اجتهاداته الشخصية في الترجمة وترجمات غيره، والسياب أول من تحدث عن تأثره بأديث ستويل، فلماذا ينكر عليه المؤلف هذه المزية. كما لا يمكننا اهمال تأثيرات لوركا أو إليوت على الشعر العراقي وخاصة شعر السياب. التأثر بالشعر الغربي كان أحد أهم دوافع التحديث في الشعر العربي وظهور موجة الشعر الحر تحديداً، وهذا لا يعد مثلبة، إذا اعتبرنا كل موجات الشعر العالمي الحديثة نتاج ترجمات وتفاعلات بين ابداعات الشعوب والحضارات، ولكن الكاتب يرى في محاولة عودة النقاد إلى تلك الأصول، ما يشكّل انتقاصا أو تهمة بالانتحال. لعل الكاتب أراد احتجاز السياب في أفق محدود، دون أن يعي ما يجنيه عليه من تبسيط، هو في النهاية يصب في باب التأكيد على أهمية الهوية الفرعية التي تبدو هنا بيت القصيد. ظهور الهويات الفرعية " هويات المدن" في النتاجات العراقية، مثلما في النتاجات العربية بمجموعها، قديم، قدم البحث عن المكان والزمان في مسار كل حركة ثقافية سواء عند من يكتب النتاج او يقرأه أو ينقده. وتبرز الحاجة اليوم إلى معرفة وتشخيص هذه المزية في الثقافة العامة والخاصة، عبر سماع صوت المدن التي أقصيت وهمّشت، وهذا ما يتحقق اليوم في العراق من خلال المطبوعات ووسائل الاعلام وشبكات النت والفضائيات. وفي بلد مثل العراق يعاني من مشكلة التناحر والإقصاءات، لن تظهر سمات الانحياز إلى المدن في منحاها الإيجابي، إلا بنزع طابع الانكفاء والتحزّب والروح القبيلية عنها، فهي في النهاية إعادة اعتبار للمكان العراقي بتنوعه، ومحو سمة التعالي وتبخيس حق المدن التي حُرمت من فرصها في الاقتصاد والتعليم والتطور. ولعل كتاب ناصر الحجاج يلخّص نسقا من الكتابات التي يدبجها الجيل الجديد من الكتاب العراقيين، وهي جديرة بالمعاينة والتفرغ خارج هذا الحيز الضيق، ويمكن تعيين خطابها عبر اتجاهات ثلاثة: الحماس للعصبويات المناطقية، وهاجس الأبوة والبنوة الأدبية، إنكارا أو قبولا، وشتم الأيديولوجيات القومية والماركسية. المنقلب الثاني للكتاب أو مشترك كتاب الحجاج مع كتابات الكثير من المثقفين العراقيين الشباب، يتخذ نزعة تحاول تطهير كتابات السياب من نزعات العقائد الموجعة، على حد تعبير الشاعر أحمد عبد الحسين. وفي هذا الباب، يمضي المؤلف في الحديث عن معاناة السياب من العقائد التي كانت سائدة، فقد حاربه القوميون ثم الشيوعيون ودفع هو ثمن طهارته. حتى كتاب السياب " كنت شيوعيا" وهو كتاب يخلو من الحساسية الأدبية والإنسانية، لا لكونه يذم الشيوعيين، بل لأنه كتاب ساذج وسطحي ويتناقض مع حداثة خطاب السياب، حتى هذا الكتاب يستذكره المؤلف لأنه يراه دليلا ساطعا على الظلم الذي تعرض له من تلك العقائد. وموضوع العقائد او الأحزاب وتأثيرها على الأدب العراقي، بحاجة إلى قراءة معمقة ومركّبة، كي لا تغدو لدينا عقيدة جديدة تهتف باسم المثقف المستقل، حتى لو كان نتاجه لا يطاول نتاجات أصحاب العقائد. لنتذكر ان عزرا باوند وهو من علامات الشعر الانكلو سكسوني بمجموعه، كان فاشيا. استميح المؤلف عذرا عن هذه المادة ، مدركة طيب نيته، وليغفر لي استخدام كتابه في ما ظننته نزعة جديرة بفتح النقاش حول مفهوم المحلي والمناطقي والوطني والعربي والعالمي، وما بين تلك المكونات من شؤون وشجون.