في المشهد الشعري السعودي يبدو صوت الشاعرة السعودية حاضرا أحيانا وغائباً في أحيان أخرى، تبرز أسماء وتغيب أسماء، وفي زمن الثمانينات والتسعينات كان الصوت الشعري النسائي مزاحما للصوت الذكوري في كتابة القصيدة، سواء على المستوى الفني أو الإعلامي. وأيضا نالت تلك التجربة نصيبها من اهتمام الناقد. لكن في السنوات الأخيرة تضاءل الحضور الشعري للمرأة الشاعرة. ولهذا الحضور الخافت أسبابه ، لكن الأمل يتنامى ويكبر إذا ما رصدنا بعض التجارب الشعرية لشاعرات سعوديات يأملن من الشعر جمرة الابداع ونأمل منهن الاستمرارية وتكريس الحضور. وفي هذا المحور لثقافة اليوم نرصد رؤية وتأملات ثلاث من الشاعرات السعوديات :نوّير العتيبي، سهام محمد، سميرة السيلماني: * في ظل الولع بالسرد، وفي ظل الإقبال الجماهيري على قراءة الرواية، نجد أن هناك أسماء شابة قد انحازت للشعر، فكان أول الأسئلة هو: لماذا تم الانحياز للشعر تحديداً دون الرواية؟ - الشاعرة نوّير العتيبي: الأدب فن له بصمته في المجتمع الإنساني العريض، فهو ينبض في الانكسار ومخاضات الاختلاف ويتعاطى مع المتغيرات كما أنه يعبر عن العلاقة الذاتية ومحيطها، فحين تتباين قوالبه لا يترتّب على ذلك تباين في مستوياته، والكتابة في قالبٍ ما لا تعني انفراد هذا القالب بقيمة إبداعية دون القوالب أو الأجناس الأخرى، أما عن اتجاهي إلى الشعر فلم يكن مقصوداً إذ اختارني الشعر قبل أن اختاره. وجدته ينصت لداخلي أكثر ويحتمل إسقاطاتي ويتيح لي بناء علاقة بين الأشياء فألبس مجازه وأبوح بما أشاء. وفي رأيي فإن الصورة الشعرية أكثر خصوبة عنها في فنون السرد وتشكيلها أكثر إبداعاً. سميرة السليماني: نحن جيل من الشاعرات نستخدم نوعاً من التمرد على أي قيد ونرفض تسوير القصيدة كتبت قصيدة النثر - الفن العاق – إيمانا به، فهو يمنح النص إيقاعا وفق الإيقاع الزمني الذي يعانق همي فتركت قصائدي تضبط إيقاعها في انسجام يشبهني ولا يشبه جدتي، فقصيدة النثر قصيدة خرجت عن المألوف لتكوّن لها خط آخر يرفض الصدى ويؤمن بخلق جديد فجاءت القصيدة لتصنع من نفسها جنسا جديداً مجاوراً للأجناس الأدبية الأخرى إلا أن خروجها عُدّ تمردا وعقوقا للشعر العربي والموروث الخليلي، والغريب أنهم حاربوها وانشغلوا في الاختلاف حول شرعيتها دون الالتفات للمضامين التي قد تكون بمثل جمال القصيدة التقليدية وتعالج قضايا أكثر قرباً للحياة وبطريقة انسيابية لا يحدها شرط هندسي. من حق كل معترض عليها كلون أدبي أن يترك رأيه لا أن يقتلها لأنها تخالفه، فالمناخ الواحد انتفى ومن حق الأصوات المؤمنة بها أن تُسمع فهي لا تفرض عليهم اتباعها غير أن المحيط الأدبي ساحة تهوى المعارك دون الالتفات للزمن والتطور الذي تفرضه الحياة الحديثة. لذا قلت أنها فن عاق استنادا لآراء معترضة وإن كانت قصيدة النثر إثماً فإنه إثم لذيذ لا تقبل فيه توبة، وبالرغم من تشابه مضامين الرواية الأكثر رواجا وجماهيرية إلا أنها تخبو فجأة ويبهت أثرها المؤقت.. لذا بقاء النبض حيا أهم من ولادة ميتة. الشاعرة سهام محمد: لم يكن الشعر خياراً في الكتابة بل قدراً. الشعر هو عمود الأدب وأساس التكوين لكل ثقافة وأرى أن السرد الروائي قد يكون مكتسباً نتيجة اطلاع وقراءة وتراكمات معرفية وثقافية تتشكل مع الوقت، عكس الموهبة الشعرية التي تتضح ملامحها بعمر مبكر ومعظم الشعراء شاهدنا لهم أعمالاً روائية بعد أعمالهم الشعرية لكن من النادر أن نجد العكس. ومن يكتب الشعر قادر على الكتابة بكل التصنيفات الأدبية ولو احتاج بعضًا من الوقت.. الشعر قريب من القلب يحكي حضارة وتاريخ وأمجاد الشعوب به نتعرف على ثقافات الآخرين كلغة للحياة. خياري في الشعر هو قدر أولاً وولع ومحبة ثانيًا. الشعر سلس وقريب من الروح، تلهمك التفاصيل والطبيعة لكتابته، أما الكتابة الروائية فأراها مجازفة تحتاج لاطلاع مكثف على الأساسيات التي تبنى عليها الرواية والقراءة أكثر حتى ينضج الروائي الذي بداخلك مع مرور الوقت. لذلك فإن معظم التجارب الروائية لدينا غير ناضجة وناقصة تسير تحت تصنيف ومضمون واحد ولا تخرج عن دائرة الثرثرة البدائية وجلد المجتمع والتابو وقصص الحب الفاشلة، وأفضل أن ابقى ضمن إطار الشعر عوضاً عن أن أقدم عملاً روائياً مكرراً. الشاعرة سميرة السيلماني: في اعتقادي أن من يميل لكتابة الرواية إنما اهتمامه الأول يكون هو الشعر. أقول هذا حسب المحيط التعليمي والثقافي الذي ينشأ فيه الطالب في السعودية، فدراسة اللغة العربية لدينا تتضمن مادة الأدب والنصوص، وهذه المادة تجبرك على قراءة الشعر وحفظه والتعرف على النصوص الخطابية بينما لا تتيح لك التعاطي مع الرواية، لذلك فإن كل من يمتلك موهبة أدبية سيفرغها في بداياته مع الشعر حتى وإن لم يكن صالحاً للنشر، ثم سيختار لنفسه طريقاً يسلكه سواء كان مع الشعر أو القصة والرواية، ودائماً ما أقول إن بإمكان الشاعر أن يكون قاصّاً أو روائياً متميزاً لأن البذرة الأولى التي تعتمد عليها النصوص ( شعرية أو نثرية ) موجودة لديه، وأقصد بها " اللغة الشعرية" التي تتكفل ببناء نص جيد. ومن هذا المنطلق كانت بدايتي مع الشعر لأنه ثقافتي الأولى التي نشأت على تعلمها في البيت والمدرسة. بعد ذلك قرنت الشعر بالنثر والكتابة السردية عبر القصص القصيرة، وتكونت لدي مجموعة قابلة للنشر عن قريب بإذن الله . سهام محمد: تجربة جيلنا مختلفة عن التجارب الماضية وتمثل رؤية متفردة من ناحية التراكيب اللغوية وابتعادها عن التقليدية * هل هناك رابط فني بين تجارب الأجيال الشعرية النسائية؟ فمثلاً فترة الثمانينات والتسعينات في المشهد السعودي كانت فترة تألق شاعرات كأشجان هندي ولطيفة قاري وخديجة العمري وهيا العريني وفوزية ابو خالد – هل يمكن أن نعدّ هذه التجربة الحالية امتداداً لتلك التجارب أم أنها تجربة منفصلة؟ - الشاعرة نوّير العتيبي: في اعتقادي أن الانفصال لا يكون في خلق يتعهده فعل بشري .. لكن دعنا في الزمن الذي أشرت إليه ( الثمانيات) لقد أشرت إلى زمن منح النجومية لكثيرين بسبب احتدام الصدام وقتها إلا أنها أخذت هدنة لاحقاً فكثير من الأعمال الأدبية السعودية في الأعوام الأخيرة تحكي عن هذه الفترة البركانية التي كممت فيها الأفواه فتألق الكثير كان بفعل المحيط والتحدي الذي ينبع من إيمان بالرؤية التي كسرها مجتمع لا يلين. الشاعرات اللاتي ذكرت أسمائهن حملن ألوية جميلة أسست لحركة شعرية نسائية في مجتمع لا يحب لهن سوى العتمة، فالتجربة الحالية امتداد بشكل مختلف لا انفصال.. إلا أننا مازلنا نرث القضايا ذاتها بصورة جديدة يختلف فيها القاموس الشعري. الزمن هو أيضاً منح النجومية فلم يكن رقما أو تاريخاً عابراً في المجتمع السعودي إذ أسفرت الأجواء المتعاركة عن أشياء جميلة منها قصائد الحداثة والشاعرات تقاسمن نجومية الزمن إذ كن يمضين في طرح نصوصهن مع شعراء الحداثة في مجتمع ملغم بالرأي الواحد فاحتملن ومن معهن ذلك ليخلقن تميزاً فنياً لتجارب شعرية حاربها المجتمع بشراسة، فالتحرر من القيود الفكرية والجرأة في الطرح يخلق حراكاً من شأنه أن يثري الجميع . المؤلم هو انحسار بعض هذه الأصوات عن المشهد الثقافي والانكفاء حول الذات وحرمان الأدب السعودي من إبداع شعري يتكئ على تجربة ثريّة تحرّضهن على استشراف الأزمنة. أثق أنه ليس إفلاسا فالذات الشاعرة لا تفلس حتى بعد موتها لكن أظنهن مللن حالة العداء التي يمارسها المجتمع معهن ومصادرة خيارات الفرد وفق إقصاء متعمد. الشاعرة سهام محمد: أرى أن تجربة جيلنا مختلفة تمامًا عن التجارب الماضية وتمثل رؤية متفردة من ناحية التراكيب اللغوية وابتعادها عن التقليدية في المضمون والشكل السائد والثورة على قيود التصنيفات التي اتسمت بها نتاجات الأجيال السابقة مثل الشعر العمودي الذي يتنازل عن المعنى والصورة الشعرية لأجل الوزن، وعند اطلاعي على التجارب الماضية أجد أن الرمزية الطاغية والتكلف في اللغة والإسهاب في الوصف من أهم سماتهم أما التجربة الشعرية حاليًا فتعتمد على دقة الصورة والإيجاز وكثافة المعنى وبساطته القريبة من نبض الشارع بشكل أعمق عما كانت عليه، ثم أننا في الوقت الراهن نجد أن المشهد الشعري متألق أكثر من قبل، إذ ظهرت مواهب شابه مميزة وحصلت على أصداء شعبية كبيرة لدى القراء لكن قد يكون السبب هو غياب الإعلام عن المشهد الشعري واهتمامه بالرواية بشكل أكبر. الشاعرة سميرة السيلماني: يمكن للقارئ ملاحظة الفرق وإدراك النضج الكتابي لدى الجيل الحديث، فكل شيء يتطور ويرتقي تبعاً لتقدم العصر، ولكل جيل ظروفه المحيطة به. القصيدة اليوم أكثر تحرراً وجرأة وحدّة مما كانت عليه، فقد قلّت الرقابة التي كانت تسيّر القصيدة حسب ضوابط المجتمعات فأصبح النموذج الشعري الحديث حراً في بناء القصيدة وفي تنوع الصور الفنية، ولا يلغي نبض الموسيقى الشعرية بل ربما قد يزيد من سحرها وهي التي كانت مؤطرة في قوالب أغلب نصوص الجيل الماضي. الآن نحن نستخدم نوعاً من التمرد على أي قيد ونرفض تسوير القصيدة، ومع هذا الانفتاح الكبير على الثقافات الأخرى ستجد هناك إضافة كبيرة في قاموس المفردات الحديث الذي تنامى تدريجياً مع الاحتكاك بالشعر الأجنبي والمترجم. ومع هذا فالتجربة الشعرية الحديثة لا تلغي كل التجارب الشعرية السابقة إنما يدعم بعضها بعضاً إذ أنّ كلاً منا جزء من سلسلة طويلة متغيرة عبر السنين. نويّر العتيبي: لست أتجاهل الهم الأنثوي فقد كتبت في ذلك لكنني أرى أن الهمّ الإنساني أكثر قرباً مني * ماذا عن ملامح النص الشعري؟ وماهي الرؤى والهم الذي يتصدر مضامين نصك الشعري؟ - الشاعرة نويّر العتيبي: قصائدي أحقنها بالهم الإنساني وأسترد من خلالها أزمنه ضائعة. يشغلني الوطن الضائع والمقتول والنائم والأعرج الذي يدعي خطواته الصحيحة، وقد أُغنّي الحياة علّني أخلق للكون عينين تبصران وسراجاً كبيراً يعجز الظلام عن إطفائه. حبس المرأة حول ذاتها وهمومها هي حُجُب أخرى تضربها على نفسها، فالشاعر يتقاسم كل أشكال الحياة مع غيره بوصفه إنسانا وليس بوصفه نوعاً إنسانياً، ورغم ذلك لست أتجاهل الهم الأنثوي فقد كتبت في ذلك لكنني أرى أن الهمّ الإنساني أكثر قربا مني والحياة نفسها قضية تجعلني أجادلها كما تتشكل وفق زمني.. الشاعرة سهام محمد: من أبرز مضمامين النص الشعري الذي أكتبه هي الهموم الحياتيه والإنسانية، ضجيج الوطن ووحشة الموت، وتساؤلات للذّات ومحاكاة الأرواح الغائبة بمنظور شعري يلامس الجميع وأسعى لأن يبقى حرفي عالقاً بأرواح القراء ولا يموت .. الشاعرة سميرة السيلماني: الحُب فضيلة كبرى، وكل ما يتفرع عنه من مشاعر التوق أو الخيبة أو الأحزان أو الآلام هي القيمة الإنسانية العالية التي تجيد الإناث صياغتها وكتابتها بدقة وشفافية وجمال. هذا ليس زعماً، فتكوين المرأة الفسيولوجي والعاطفي هو بمثابة معجم إثرائي يدعمها عندما تكتب. وبالمناسبة فلنفرظ سمو هذه القيمة لا يمكن أن يتشابه الناس عندما يكتبون عن الحب.