تعد رشا عمران من أبراز الأصوات الشعرية الشابة في المشهد السوري الحديث , ولم يكن حضورها مقتصرا على كتابة الشعر فقط , بل شاركت في الكثير من الفعاليات الثقافية كان أخرها إصدار انطولوجيا للشعر السوري في المائة عام الأخيرة بالتعاون مع ثلاثة من الشعراء السوريين.. بالإضافة لمشاركتها في اللجنة التنظيمية لمهرجان السنديان الثقافي الذي أسسه والدها الشاعر محمد عمران قبل 13 سنة. التقينا رشا وكان لنا معها الحوار التالي.. الرواية العربية لم تقدم حتى الآن أي اختراق مهم يستدعي كل هذا الاحتفاء بها !!
بدون الشعر انا امرأة وحيدة و مستوحشة و أرتجف من المرارة . بعد المد الروائي الذي اجتاح المشهد الأدبي في السنوات الأخيرة كثر الحديث عن الشعر ومدى قدرته بالمحافظة على مكانه كديوان للعرب. كيف تنظرين لمستقبل الشعر؟ - أعتقد أن ما يحكى عن انحسار الشعر و تراجعه أمام الرواية هو مجرد كلام روج له في الأغلب أصحاب دور النشر الذين وجدوا أن الرواية كجنس أدبي "بياع" تحقق لهم ربحا سريعا أكثر بكثير مما يحققه الشعر ، روج له أيضا الإعلام العربي الذي فجأة، وبسبب الاهتمام العالمي بالرواية العربية و حركة الترجمة الحثيثة التي تشتغل حاليا على نقلها إلى اللغات الأخرى، صار كله منصبا على الرواية العربية و الروائيين العرب ،الجدد و المكرسين ، وهذا على حساب الشعر و باقي الفنون الأدبية ،، انظر كم مؤتمر يعقد للرواية في بلاد العرب حاليا ، كم مؤتمر للكتابة الروائية الجديدة !! كم جائزة عربية و عالمية تعطى للرواية العربية و لا يستثنى منها كتاب الرواية الجدد بالعكس تماما ثمة تشجيع واحتفاء بالروائيين الشباب و الجدد ، على عكس الشعر تماما ،، ما من جائزة عربية أو عالمية مخصصة للشعر العربي!!و ما يعطى من جوائز أدبية للشعراء يعطى فقط للشعراء المكرسين و الكبار في السن !! سم لي مؤتمر للشعر العربي يعنى بالقصيدة الجديدة و بالشعراء الشباب !! لا أحكي عن المهرجانات الشعرية !! أحكي تحديدا عن ندوات ومؤتمرات تشتغل على النص الشعري الجديد بكل تجلياته و تستضيف شعراء شباب ليتحدثوا عن تجاربهم في الكتابة !! لا يوجد هذا أبدا في البلدان العربية ،،مع أنه ، وفي منحى آخر لم تقدم الرواية العربية حتى الآن أي اختراق مهم يستدعي كل هذا الاحتفاء بها !! عدا اختراق التابوات الثلاثة المعروفة ، وهذا لم يعد اختراقا ،، صار مألوفا وعاديا و مكررا ،، لم تقدم الرواية الجديدة أي مقترح نافر على صعيد السرد و اللعبة الفنية ، إلا باستثناءات قليلة جدا ، مع أن الرواية فن أدبي حديث نسبيا عند العرب و مازالت قابلة للتجريب وتقديم مقترحات جديدة لتطويرها ، بينما الشعر ، يمتد عبر تاريخ إنساني و عربي غارق في العمق ، و عبر ذلك التاريخ الطويل حدثت انقلابات عديدة في الشعرية العالمية و العربية ، و تغيرت حتى الذهنية التي يكتب بها الشعر ، دخل الشعر مرات عديدة في مختبرات التجريب و اللعب و دائما كان يخرج أكثر عافية و حيوية وقابلية للاستمرار ، أثق بالشعر و بمستقبله ؟؟ نعم ،، ثقة هائلة ، ، أساسا لم اعد أثق إلا به وحده ، وهذا ليس انتقاصا من أهمية الفنون الأخرى بل انحيازا كاملا للشعر باعتباره أول الفنون جميعها .
تقولين الرواية لم تحدث اختراقا مهما يستدعي الاحتفاء. ألا توافقيني أن فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للأداب يعتبر اختراقا لم يحققه أحد من الشعراء العرب؟
هل الفوز بجائزة نوبل يعتبر اختراقا ؟؟؟يستحق نجيب محفوظ حتما أن يفوز بنوبل ، مثلما يستحق ذلك الكثير من الكتاب و المبدعين العرب ،، ولكن هل تظن فعلا أن نوبل تمنح لكاتب عربي لمجرد انه مبدع كبير ؟؟ سنكون واهمين إن وثقنا بهذا ،، و إلا لماذا لم تمنح لمحمود درويش وهو الشاعر الأكثر شهرة و قراءة وترجمة وانتشارا في العالم اجمع !! لماذا لم تعط لأدو نيس حتى الآن ؟؟ هل الكثير ممن حصلوا على نوبل أكثر أهمية من أدو نيس ؟؟ لا أظن ذلك !! هل ِأسمي أيضا شعراء و روائيين و مبدعين عرب يستحقون نوبل ؟؟ و من جهة أخرى الاختراق الذي تحدثت عنه هو من نوع مختلف ، اختراق من قلب العمل الإبداعي نفسه . اقتراح ما هو جديد على مستوى السرد و الحبكة الروائية و الشغل الجديد على الزمان و المكان الروائيين ،، هذا هو الاختراق الذي قصدته ،، أما الجوائز العالمية فليست اختراقا أبدا من وجهة نظري ،، و نوبل بالتحديد حساباتها مختلفة تماما عن حسابات الإبداع و الجدة !! وعربيا اعتقد أنها ستمنح قريبا لاثنين أو ثلاثة كتاب عرب ما زالوا في البدايات و لكنهم في طريقهم للحصول على نوبل قريبا حسب مسيرتهم الحالية في التسويق و الانتشار و العلاقات العامة العالمية و البعيدة تماما عن القيمة الإبداعية و الجمالية لمنجزهم. في ديوانك " معطف أحمر فارغ " أجدك تتكئين على التفاصيل الصغيرة كيف تفسرين هذا الانحياز؟
- تجارب البشر الشخصية تتشابه في عمومها ،، تجربة الحياة بما فيها وصولا إلى الموت ، السؤال الذي أوجد الفنون كلها ، هي تجربة واحدة ، ما يختلف هو التفاصيل التي تميز مجتمعا عن آخر ، ما يختلف هو التفاصيل التي تميز كائنا عن آخر ،، حياتي الشخصية كامرأة قائمة على التفاصيل ، الصغيرة و الكبيرة ، الحب عام و لكن طريقتي أنا في الحب هي تفصيل خاص بي ، الحزن مفهوم عام لكن حزني الشخصي تفصيل ،، الفرح كذلك و الأمومة ، الوحشة و الفقد و الوجد ، العلاقة مع الموت ، التجارب الحياتية اليومية ،، العلاقة مع الذات و اللاوعي الشخصي و الرؤية إلى هذه الذات وعلاقتها بالعالم ،، هذه تفاصيل خاصة بي أنا ،، الشعر يأتي من هذه المناطق ، من أقصى العمق النفسي البشري ، من المنطقة الأكثر خصوصية وفردا نية !! من اللاوعي الذي يشكل شخصية كل منا !! الشعر عندي يطلع من هنا ،، من تجربتي الخاصة جدا و التي لا تشبه تجربة غيري ، يشبهني شعري ، هو مثلي ، خطاء وحزين ومستوحش و قلق و آني وعابر ، لست رؤيوية أنا ، ولا يعنيني أن أكون ،، أنا امرأة حياة و لست امرأة أفكار ،، شاعرة حياة و لست شاعرة أفكار ،، شعراء الأفكار هم شعراء رؤيويون ، يكتبون للمستقبل ،لا يهتمون بالتفاصيل الآنية و العابرة ،، أنا غارقة في كل تفاصيل الحياة ، شعري مثلي غارق بهذه التفاصيل الصغيرة ، لحظوي و آني مثلي ، لا يفكر بالمستقبل و لا بما سيحدث ، ولا يعنيه من الأفكار الكبرى سوى ظلالها. "في الحب أيضا أنحاز إلى رهانات خاسرة" هل شعرت رشا عمران أن رهانها على الشعر كان في يوم ما رهانا خاسرا؟
- ذات يوم كتبت : ( ما معنى الشعر حين يعجز أن يشفي من الموت !! ) ،، مرات كثيرة ، حين يعصاني الشعر و يتمنع عني و يخاتلني و يختفي و يغيب طويلا ، اشعر أن رهاني عليه رهانا خاسرا ،، الشعر عندي هو أولا علاج ذاتي لي ،، لأن ثقتي به عالية أعتقد مرات أنه ساحر خارق ، ما أن تلمسني عصاه حتى أستعيد توازني ،أو بالأصح ،حتى أستعيد قدرتي على الاكتشاف ، وقدرتي على الدهشة ،، بلا هذه الدهشة و بلا الاكتشاف أنا مجرد امرأة حيادية ، حيادية معناها أن روحي باردة ، معناها أنني لم اعد صالحة للعيش و للحياة ،، و أنا بطبيعتي أنحاز إلى أقصى الأشياء ، بحبي لها أو برفضي لها ، بالحالتين أنا منحازة إلى الأقاصي ،، نادرا ما ملكت مشاعر حيادية تجاه شيء ما ،، الحياد بالنسبة لي يعني الموت و أنا مضادة للموت ،، حين أدخل في منطقة الحياد هذه لن يخرجني منها غير الشعر و الحب ،، الشعر أولا ،، الحب يأتي ثانيا ،، لكن الشعر غالبا ما يكون عصيا ومتمنعا وحرونا ،، وغالبا ما يقلده الحب و يلحق به، يصبح مثله متمنعا وعصيا وحرونا !! نادرا جدا ما أطاعني أحدهما و عصاني الآخر ،، ثمة ارتباط غريب بين الحالتين عندي ،، و غالبا الشعر هو الأسبق ،، أعود لكتابة الشعر بعد انقطاع طويل فاستعيد معه مجددا قدرتي على الحب !! عادة الشعراء يقولون أنهم يحتاجون للحب من أجل استعادة قدرتهم على الكتابة ،، أنا على العكس تماما أحتاج للشعر كي أستعيد قدرتي على الحب !! لهذا حين يتمنع عني الشعر اشعر أن رهاني عليه كان رهانا خاسرا ،، بدونه أنا امرأة وحيدة و مستوحشة و أرتجف من المرارة . يرى البعض ان انشغال شعراء قصيدة النثر باثبات نسبها للشعر شغلهم عن العمل على تطويرها. إلى أي حد تتفقين مع هذه المقولة؟
- قصيدة النثر هي جزء من حركة الشعر الداخلية و جزء من اشتغاله على حيويته و جزء من اشتغال الشعراء على التجريب و تقديم المقترحات و الإضافات على الشعر ،، لا اعتقد أن شعراء قصيدة النثر معنيون كثيرا بإثبات نسب قصيدتهم إلى الشعر ،، لأنهم أساسا مضادين لوضع الشعر داخل تعاريف محددة و مؤطرة ترفض هذا الشكل و ترحب بشكل شعري آخر !! المنشغلون بنسب قصيدة النثر هم المصرون على العيش داخل غرف التراث المغلقة ،، الذين يخشون الضوء و الهواء ،، المقيمون في عتمة التراث و رطوبته ،، التراث يجب أن يتجدد و يتعرض للشمس و للريح ، و إلا تحول إلى جماد متحفي و تحول المصرون عليه هكذا إلى كائنات شمعية !! ثم أن شغلا كثيفا وقع على قصيدة النثر و تغيرت تغيرات كبيرة ، من قصيدة اللقطة إلى قصيدة البياض إلى النص المفتوح إلى القصيدة الطويلة إلى إدخال الحكاية و السرد و المشهدية ، إلى العلاقات اللغوية الجديدة التي اشتغل عليها شعراء قصيدة النثر ، إلى الحساسية الجديدة في تناول موضوعات قصيدة النثر ، إلى اشتباكها مع الفنون الأخرى،،،،الخ ،، وهذا ما لم تصل إليه قصيدة التفعيلة ، التي ظهر تطورها بما يختص باللعب على التفعيلات أكثر من الشغل على القصيدة نفسها ،، طبعا أتكلم في العموم ودائما هناك استثناءات قليلة أو كثيرة تؤكد القاعدة ،، طبعا أنا لست ضد قصيدة التفعيلة ولا قصيدة العمود ،، ثقافتي الشعرية الأولى هي ثقافة تفعيليه ، والدي كان شاعرا تفعيليا بامتياز مع انه كتب ديوانيين في قصيدة النثر الطويلة ، لكن تجربته تجربة شاعر تفعيلي مجدد ، و كذلك معظم من قرأت لهم شعرا في حياتي ، أو من عرفتهم شخصيا من الشعراء العرب من أصدقاء والدي ، وحتى من أصدقائي الحاليين ، بالنهاية أنا غير معنية بشكل القصيدة ، بل معنية بما فيها من الشعر و بما تتركه من رعشة في روحي على جلدي . تعاونتِ مع شعراء سوريين لجمع واصدار انطولجيا الشعر السوري في القرن العشرين. لكن هذه العمل لم ينل رضى بعض المهتمين بالشعر السوري , بل أن بعضهم رأه عملا مرتجلا وخاضعا للمزاجية الشخصية. كيف تردين على هذه التهم؟
- ما من أنطولوجيا شعرية تصدر عند العرب إلا و تثير الكثير من الاعتراضات و الانتقادات و الأقاويل ،، و السبب الأساسي برأيي هو في عدم فهمنا لمصطلح (انطولوجيا) و الخلط بينه و ببن الموسوعة ،، الانطولوجيا تعني (مختارات) و المختارات دائما تتبع الذائقة الشخصية لمعدها و هي غير معنية برصد المشهد بكامله ،، هذا شغل الموسوعة ، و نحن لم نصدر موسوعة للشعر السوري ،، نحن أصدرنا أنطولوجيا بأربعة أجزاء ضمت مختارات من الشعر السوري خلال مائة عام ،، كان نصيبي منها الجزء الرابع ،الذي يرصد المرحلة الممتدة منذ 1980 ولغاية 2008 ،، أي تقريبا ثلاثين عاما ،، و هي المرحلة الأكثر خطورة و إشكالية في الشعر السوري لأسباب عديدة أولها أن شعراء هذه المرحلة مازالوا موجودين و يكتبون وينجزون ما عليهم بينما المراحل السابقة معظم شعرائها إما غادروا الحياة او توقفوا عن الكتابة نهائيا أي لا يوجد منهم من سيعترض على أي شيء في الانطولوجيا ،، بينما في المرحلة التي رصدتها ، شعراؤها موجودون و ما من شاعر إلا و يعتبر أن تجربته هي الأكثر أهمية وقيمة من غيرها من التجارب و بالتالي يعتبر أن من واجب المعد للانطولوجيا أن يبرز اسمه و يميزه عن الآخرين فكيف إذا اسمه أساسا غير وارد في الانطولوجيا ،، ستكون كارثة كبرى حلت على الشعر وقضت عليه ،، وهذا ما اتهمني به البعض ممن لم يجدوا أسماءهم في الانطولوجيا ،، آخرون اعترضوا على وجود أسمائهم إلى جانب أسماء جديدة شابة ،، و بالنسبة لي كانت اعتراضات هؤلاء صادمة لي ،،إذ صرف معظمهم نصف وقته باتهام الأجيال الشعرية السابقة بمحاولة إقصاء جيلنا الشعري و من تبعه ،، هؤلاء الآن يمارسون نفس الدور الذي اعترضوا عليه لدى الأجيال الماضية ،، غريب فعلا ،، هؤلاء شعراء الحداثة الجديدة التي يفترض بها قبول الآخر و الاحتفاء بالمنجز الجيد و تمثل الديمقراطية المنشودة في السلوك اليومي أولا ،، ولكن للأسف ثمة حالة فصام و ازدواجية لدى الكثير من المثقفين العرب أو على الأقل السوريين ، وهذا ما أوضحته الانطولوجيا وما كتب عنها لي . وبكل حال لو لم تكن الانطولوجيا على قدر كبير من الأهمية لما اعترض المعترضون هكذا ،، لو كانت عملا ارتجاليا و بلا قيمة لما تركت أي اثر عن احد و لما بحث فيها البعض عن أسمائهم ، لماذا سأعترض على عدم وجود اسمي في كتاب تافه أو بلا قيمة ؟؟ بالعكس تماما سأعترض و سأحتج إن كان اسمي موجدا و مقحما في انطولوجيا أو كتاب لا قيمة معرفية وإبداعية وفنية له .