«مؤتمر تعارف الحضارات» نظمته مكتبة الإسكندرية في 18 و19 أيار (مايو) الجاري بالتعاون مع «مركز الحوار» في الأزهر و «مركز الدراسات الحضارية وحوار الثقافات» في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة. وتحت الشعار «لتعارفوا» اعتمد المؤتمر مفهوم «التعارف» القرآني الذي سبق أن استخدمه مفكرون عرب ومسلمون في مجال اهتمامهم بالعلاقات بين الحضارات في عالمنا اليوم. شارك في المؤتمر عرب وأجانب من بلدان عدة قدموا أوراقاً متكاملة في مجال التعارف حاضراً وماضياً واستشرافاً للمستقبل، فحددوا المفهوم وإشكالياته المنهجية وتأسيسه المعرفي، كما عرضوا للتعارف مع الآخر وللحوارات البينية داخل الحضارة الإسلامية ككل، خصوصاً الحضور المسيحي العربي. وقدموا نماذج تاريخية للتعارف عبر الرحلات والترجمة والحرب الديبلوماسية، وصولاً إلى المنظمات الدولية وكيفية عنايتها بتعارف الحضارات. وقدم شيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب كلمة إلى المؤتمر نورد في ما يلي نصها الكامل، فهي تحمل شهادة على الموقف الإسلامي من تعارف الحضارات وتجيب على أسئلة حول علاقة الإسلام بالأديان الأخرى، خصوصاً في عالمنا العربي الذي يمرّ في مرحلة تمزق لا تخفى على المراقبين. الإسلام هو الحلقة الأخيرة في منظومة «الدين الإلهي» الذي بشّر به كل الأنبياء والمرسلين، من آدم وحتى محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ومن يتأمل آيات القرآن الكريم يعلم ان الإسلام ليس هو - تحديداً - الرسالة التي نزلت على محمد (صلى الله عليه وسلم)، وإنما هو الاسم الجامع لكل الرسالات التي حملها الأنبياء على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم. ولذلك كان من الطبيعي ان يوصف الأنبياء السابقون على «محمد» (صلى الله عليه وسلم) بأنهم «مسلمون»، وأن يطلق على كل من نوح وابراهيم وعيسى اسم «مسلم»، كما أطلق على محمد الاسم نفسه سواء بسواء. ويكفي ان نقرأ في القرآن الآيات: 128، 132، 133 من سورة البقرة، والآية 52 من سورة آل عمران، والآيتين 84 من سورة يونس، و91 من سورة النمل لنتأكد من ان هذه الأسماء المتألقة في لوحة «النبوة» يصفهم القرآن بوصف «مسلمين». وليس الاشتراك بين الإسلام كرسالة اخيرة والرسالات السابقة عليه هو مجرد اشتراك في «اسم» أو عنوان فحسب، بل هو اشتراك في مضمون «الإسلام» وجوهره وحقيقته، لأن البحث في القرآن يثبت ان ما جاء به «محمد» من عقائد جوهرية وأخلاق اساسية ودعوة الى العبادة، هي نفس ما جاء به نوح وابراهيم واسحاق ويعقوب وموسى وعيسى وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، ويؤكد ان الله لم يشرع للمسلمين ديناً جديداً، بل ما أوحاه الله الى نبيهم هو ما أوحاه الى الأنبياء من قبلهم: «شرَعَ لكم من الدِّينِ ما وصّى به نوحاً والذي أوحيْنا إليكَ وما وصّيْنا به إبراهيم وموسى وعيسى أنْ أقيموا الدِّين ولا تتفرَّقوا فيه كَبُرَ على المشرِكينَ ما تَدعوهُم إليه اللهُ يجتَبي إليهِ من يشاءُ ويهدي إليهِ من يُنيبُ» (الشورى/ 13). هذا الدين المشترك بين المسلمين وغيرهم من الأمم السابقة عليهم، هو «التوحيد المطلق، والتصديق برسل الله وكتبه». والإيمان بكل ذلك من دون تفرقة أو تمييز عنصري أو طائفي بين رسول ورسول، او كتاب وكتاب: «قولوا آمنّا باللهِ وما أُنزِل إلينا وما أُنزلَ الى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط وما أوتِيَ موسى وعيسى وما أُوتيَ النبيُّون من ربِّهم لا نُفرِّق بين أحدٍ منهم ونحنُ له مسلمون» (البقرة/ 136). والإسلام بهذا المعنى لا يتصور ان يكون بينه وبين الرسالات الإلهية السابقة عليه خلاف أو تعارض أو افتراق. ولا ينبغي ان نفهم من اشتراك الرسالات الإلهية في دين واحد، أنها تشترك في «شريعة» واحدة كذلك فالدين مضمون ثابت في كل رسالة، لا يتعدد ولا يختلف، وذلك لأنه يتعلق بحقائق الوجود الكلية الثابتة التي لا تتغير. بينما تختلف الشريعة وتتعدد بين رسالة ورسالة أخرى من رسالات السماء، ونعني بالدين هنا: البيان الإلهي المتعلق بالأصول العامة المشتركة بين الرسالات الإلهية، مثل العقيدة والأخلاق والعبادات. اما الشريعة، فهي «القوانين» الإلهية التي تنظم حياة المؤمنين وتصرفاتهم الاجتماعية التي تتغير من زمان لزمان ومن مكان لآخر. والذي يتصفح آيات القرآن يتضح له ان «التوحيد» كان يمثل «قطب الرحى» في كل الرسالات، وأن دعوة الأنبياء إليه تشابهت شكلاً ومضموناً: فالنبي نوح يقول: «يا قومِ اعْبُدوا اللهَ ما لكم من إلهٍ غيرُهُ» (المؤمنون/ 23)، وكذلك ابراهيم: «وإبراهيمَ إذ قالَ لقومِهِ اعبُدُوا اللهَ واتَّقوه» (العنكبوت/ 16)، وهود: «يا قومِ اعبُدوا اللهَ ما لكُم من إلهٍ غيرُهُ» (الأعراف/ 65)، وصالح: «يا قومِ اعبُدوا اللهَ ما لكُم من إلهٍ غيرُهُ» (الأعراف/ 73)، وشعيب: «يا قومِ اعبُدوا اللهَ ما لكُم من إلهٍ غيرُهُ» (الأعراف/ 85)، وفي خطاب الله لموسى: «وأنا اخترْتُك فاستَمِعْ لما يوحى. إنّني أنا الله لا إله إلا أنا فاعْبُدني وأَقِمِ الصلاةَ لذكري» (طه/ 13- 14)، وعيسى: «ما قلتُ لهُمْ إلاّ ما أمرْتني به أنِ اعبُدوا الله ربّي وربَّكُمْ» (المائدة/ 117). ويلفت النظر - في هذه الآيات - التأكيد الإلهي على ان «الدين» هو الوحي المشترك بين الأنبياء، وأنه أمر واحد لا يصح أن يقع فيه اختلاف أو تفرق بين المؤمنين اياً كانت ازمانهم وكيفما كانت رسالتهم. دين واحد وشرائع متعددة وإذا كان أمر الدين واحداً في فلسفة الإسلام، فإن الشريعة ليست كذلك، إنها تختلف باختلاف الناس وبيئاتهم وأزمانهم وأماكنهم وأحوالهم، ومن هنا أكد القرآن على اختلاف الشرائع بين المؤمنين: «لكلٍّ جعلنا منكم شِرعةً ومنهاجاً ولو شاءَ اللهُ لجَعَلَكم أمةً واحدةً» (المائدة/ 48). ونحن نلاحظ انه على رغم اختلاف الشرائع بين جماعات المؤمنين، فإن وحدة الدين تنشئ من علاقات المودة ما يشبه «صلة الرحم»، التي تربط بين المؤمنين جميعاً حيثما كانوا وكيفما كانت شرائعهم ورسالاتهم. وهذا هو واقع العالم الإسلامي الذي استوعب جميع أديان العالم المعروفة، حيث التقى في محيطه الغربي بالأديان الإبراهيمية: اليهودية والمسيحية، والتقى في محيطه الشرقي بالهندوسية والبوذية، وقدم للتاريخ نماذج مضيئة للترابط الإنساني الذي ينبع من الأخوّة الإنسانية الممزوجة بأخوة الإيمان، بل هذه هي تجربتي الشخصية في صعيد مصر، حيث عشنا - كمسلمين - قروناً متطاولة جنباً الى جنب مع اخواننا المسيحيين الأقباط. إذا ما تقدمنا خطوة أخرى في بيان علاقة «الإسلام» بالأديان، وجدنا ان هذه الوحدة العضوية لم تتوقف عند حدود الدين الجوهرية: عقيدة وعبادة وأخلاقاً، بل امتدت لتشمل علاقة نبي الإسلام بالأنبياء السابقين، وعلاقة القرآن بالكتب السماوية السابقة. فنبي الإسلام يصدق إخوانه الأنبياء، ويؤمن بهم، ويتمم ما بدأوه من دعوة الناس الى الله، ويقرأ المسلمون في هذا المعنى قرآناً يُتلى على مسامعهم صباح مساء: «آمَنَ الرسولُ بما أُنزِل إليهِ من ربِّه والمؤمنونَ كلٌّ آمَنَ باللهِ وملائكتِهِ وكتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفرِّقُ بينَ أحدٍ من رُسُلِهِ وقالُوا سمِعنا وأطعْنا غُفرانَكَ ربَّنا وإليكَ المصير» (البقرة/ 285). وقد صور محمد (صلى الله عليه وسلم) هذه الوحدة العضوية التي تجمع بينه وبين إخوته من الأنبياء والمرسلين عبر التاريخ، في كلام جميل رائع يقول فيه: «أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة، والأنبياء إخوة لعَلاّت، أمهاتهم شتى ودينهم واحد»، أي: أن الأنبياء يشبهون إخوة من أب واحد وأمهات شتى، والأبُ الواحد هو الدين الذي يجمعهم جميعاً، والأمهات التي تفرقهم هي الأزمنة والأمكنة التي يختلف فيها نبي عن نبي، ورسول عن رسول. والشيء نفسه يقال على القرآن الكريم: إنه يصدِّق الكتب السماوية في صورتها الأولى التي لم تبتعد فيها عن منبعها الإلهي. ونحن نتعلم من القرآن ان الإنجيل مصدّق ومؤيّد للتوراة، وأن القرآن مصدّق ومؤيّد للإنجيل وللتوراة ولكل ما سبقه من الكتب السماوية: «نَزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ مُصدِّقاً لما بينَ يديهِ وأنزَلَ التوراةَ والإنجيلَ. من قبلُ هُدًى للناسِ» (آل عمران/ 3-4). «إنَّا أنزَلنا التوراةَ فيها هدًى ونورٌ يحكُمُ بها النبيُّونَ الذين أَسلموا للَّذينَ هادُوا» (المائدة/ 44). «وآتيْناهُ الإنجيلَ فيهِ هدًى ونورٌ ومصدِّقاً لما بينَ يديهِ من التَّوراةِ وهدًى وموْعظةً للمتَّقين» (المائدة/ 46). وهذه الأصول القرآنية هي التي حكمت تصورات المسلمين، وتركت بصماتها قوية وعميقة على علاقتهم بغيرهم من اهل الأديان السماوية منذ ايامهم الأولى. فنحن نؤمن بموسى وعيسى كما نؤمن بمحمد، سواء بسواء، ونعتقد ان التوراة كتاب الله وأن الإنجيل كتاب الله، وأنهما هدى ونور للناس، وقد يدهشكم ان تعلموا ان كثيراً من فقهاء الإسلام يقررون انه اذا كان لا يجوز للمسلم ان يمس القرآن وهو جُنُب وكذلك المُسلمة الحائض، فإنه لا يجوز لأي منهما ان يمس التوراة أو الإنجيل حتى يغتسل. سماحة مع الأديان إن ديناً تتأسس فلسفته في علاقته بالرسالات الإلهية الأخرى على هذه الوحدة العضوية التي بيّنّاها في الفقرات السابقة، ومن خلال نصوص صريحة لا مجال فيها لغموض أو خفاء، لا بد وأن ينشئ حضارة سمحة ومنفتحة على الحضارات الأخرى تتعامل معها من منطلق التعارف والتكامل وليس من منطلق الصراع أو الإقصاء. ولو رحنا ندلل على هذه الفرضية فإن وقت الكلمة لا يتسع لتفصيل القول في ذلك. ولكن أكتفي بتسجيل الحقائق التالية: - يقرر القرآن، الذي يحفظه كثير من المسلمين عن ظهر قلب، أن الله لو شاء ان يجعل الناس على دين واحد وعقيدة واحدة ولون واحد ولغة واحدة لفعل، لكنه لم يشأ ذلك، وشاء بدلاً منه ان يخلقهم مختلفين في أديانهم وعقائدهم وألوانهم ولغتهم، وأن يستمر هذا الاختلاف الى آخر لحظة في عمر هذا الكون: «ولو شاءَ ربُّكَ لجعلَ الناسَ أُمّةً واحدةً ولا يزالُونَ مختلِفين» (هود/ 118). - ويترتب على هذا الاختلاف الذي أراده الله للناس، ان تختلف الأديان والعقائد، وتبقى مختلفة الى ان يرث الله الأرض ومن عليها. ويمكن ان نقول: إن اختلاف العقائد واستمرارها حقيقة قرآنية وكونية معاً، ومن هذا المنطلق لا يمكن للمسلم ان يتصور اجتماعَ البشرية كلها على عقيدة واحدة أو دين واحد، ولا أن يتصور تحويل الناس الى دين واحد، حتى لو كان هذا الدين هو «الإسلام»، وما دام الأمر كذلك، فإن العلاقة بين «المسلم» و «غير المسلم» هي علاقة «التعارف، وهذا ما حدده القرآن في نص صريح واضح يقول: «يا أيُّها الناس إنَّا خلقناكُم مِن ذَكَر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكُم إن الله عليمٌ خبير» (الحجرات/ 13). - استعراض تاريخ الحضارة الإسلامية يبرهن على التزام هذه الحضارة بالأصول القرآنية التي تحدثنا عنها مع الأديان والحضارات والشعوب التي انفتحت عليها، ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نتقصى تاريخ الحضارة الإسلامية في هذا المجال... ولكن نركز – وفي إيجاز شديد – على تاريخ الإسلام وسماحته مع «المسيحية» رسالة ورسولاً وأتباعاً. فالقرآن فيه حديث جميل عن سيدنا عيسى عليه السلام وعن أمه مريم العذراء عليها السلام... وفيه سورة «مريم»، وفيه سورة أخرى تسمى سورة «الروم» وهم المسيحيون الشرقيون الذين كانوا يتاخمون حدود الدولة الإسلامية، ويشكلون الجار الأقرب للمسلمين... وهنا يحدثنا التاريخ أن الفرس الوثنيين حين هزموا الروم المسيحيين، سخر الوثنيون العرب من المسلمين وعيَّروهم بهزيمة «الروم»... ولما شكا المسلمون أمرهم الى النبي (صلّى الله عليه وسلّم)، نزل وعد الله بأن الروم سيَغلِبون الفرس في بضع سنين قلائل، وأن المؤمنين من مسلمين ومسيحيين سيفرحون بنصر الله... وهنا نقرأ قول الله تعالى: «غُلِبَت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلَبِهم سيغلِبُون. في بِضع سنين لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ. و يومئذٍ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصُرُ من يشاء وهو العزيز الرحيم. وَعْدَ الله لا يُخلِف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون» (الروم/ 2 – 6). وقد صدق وعدُ الله، وفرح المسلمون لانتصار الروم المسيحيين... ويلفت النظرَ في هذه الآيات أن القرآن ذكر كلمة «المؤمنون» عنواناً جامعاً ينطبق على المسلمين وعلى الروم... وهذا العنوان هو وحدة الدين التي تحدثنا عنها من قبل، والتي كادت تجعل من الفريقين أمة واحدة في مقابل أمة الوثنية والشرك... وسورة «الروم» هذه من السور المتقدمة جداً في نزول القرآن، مما يعني أن علاقة «الأخوّة» بين المسلمين والمسيحيين علاقة مقررة منذ السنوات الأولى من تاريخ المسلمين، وأنها استمرت حتى السنوات الأخيرة في عصر الرسالة المحمدية، حيث نقرأ في سورة «المائدة» خطاباً من الله لرسوله يقول فيه: «ولتجدَنَّ أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأن منهم قِسِّيسين ورُهباناً وأنَّهم لا يستكبِرون» (المائدة/ 82). والذي يتأمل سيرة النبي (صلّى الله عليه وسلّم) طوال فترة الرسالة في مكةوالمدينة لا يصعب عليه أن يرصد «المودة الخاصة الكامنة وراء كل تصرفاته وتعاملاته مع المسيحيين، أو النصارى كما كانوا يسمون آنذاك... نجد ذلك في ما يسمى بهجرة المسلمين المستضعَفين في مكة الى الحبشة المسيحية وملِكِها المسيحي، وقد حدثت هذه الهجرة مرتين في العهد المكي، وكان من بين المهاجرين عثمان بن عفان وزوجه رقية ابنة النبي (صلّى الله عليه وسلّم). وقال النبي (صلّى الله عليه وسلّم) لأصحابه الضعفاء والمستضعفين: «إن بأرض الحبشة ملكاً لا يظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه». ويحدثنا التاريخ أن ملك الحبشة استقبل المسلمين استقبالاً حسناً وحماهم وأمّنهم، ولم يُسْلِمْهم الى وفد قريش الذي جاء الى الملك ليطلب منه عودة هؤلاء المستضعفين الى ساداتهم في مكة، ولما يئس وفد قريش من استجابة الملك المسيحي العادل لجأ عمرو بن العاص الى حيلة يوقع بها بين الملك والمسلمين، فقال للنجاشي: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى قولاً عظيماً. فأرسل الملك الى جعفر بن أبي طالب وسأله، فقال له جعفر: «نقول هو عبدالله ورسوله وكلمته وروحه ألقاها الى مريم العذراء البتول»، وقرأ عليه آيات من سورة «مريم» فبكى النجاشي وأعطى الأمان للمسلمين، وكان كما قالت أم سلمة زوج النبي (صلّى الله عليه وسلّم): «نزلنا بخير دار، الى خير جار، أمِنَّا على ديننا ولم نخش منه ظلماً». وقصة نصارى نجران – وهي قصة موثقة في القرآن والتاريخ – تقص علينا أن وفداً مكوناً من 60 رجلاً من أشراف نجران من المسيحيين يتقدمهم الأسقف أبو حارثة بن علقمة، ذهبوا ليحاوروا نبي الإسلام في أ مر رسالته الجديدة، فاستقبلهم النبي في مسجده بالمدينة. واستضافهم فيه، وجرى الحوار بينه وبين الوفد المسيحي في رحاب المسجد النبوي بالمدينةالمنورة، ولما حان وقت صلاتهم قالوا للنبي: «يا محمد! إن هذا وقت صلاتنا، وإنّا نريد أن نؤدّيها، فقال لهم: دونَكم هذا الجانب من المسجد، صلُّوا فيه» وصلى المسيحيون صلواتهم الكنسية في مسجد النبي بالمدينة، ولم يجد النبي ولا المسلمون أدنى حرج في أن يستخدم المسيحيون مسجد النبي – وهو أول مسجد في تاريخ الإسلام – ليؤدوا فيه صلاتهم... وقد شجعتني هذه الحادثة – حين كنت مدعوّاً للغداء في إحدى كنائس مدينة فريبورغ بسويسرا – على أن أطلب من كبير الأساقفة أن يأذن لي بالصلاة، فأذن لي مشكوراً، وهيأ لي غرفة صغيرة، وأحضروا فيها نسخة من القرآن الكريم، وصليت في هذا المكان بمذاق خاص من الروحانية الأخّاذة لا أنسى سحرَه حتى هذه اللحظة. وتأكد لي – وقتها – أن الأديان حين تخلو من التوظيفات الرديئة فإنها تشيع المحبة والسماحة في نفوس المصلين، أينما كانوا، وكيفما كانت عقائدهم وأديانهم. وكثيراً ما توقفت عند حادثة هذا الوفد المسيحي الذي قطع آلاف الأميال على ظهور المطايا ليحاور نبي الإسلام، وكيف أن هذا الحوار حدث في أقدس مكان في عاصمة الإسلام الأولى، وتم في جو من المودة الخالصة، رغم الحساسية الشديدة، والحرج البالغ على طرفي مائدة الحوار، وكيف انتهت المهمة في حرية تامة مكفولة للطرفين، وتساءلت: هل يمكن أن نتصور حدوث حوار من هذا النوع في مساجدنا وكنائسنا الآن؟ وهل ينتهي بالحرية والسماحة ذاتهما التي انتهى بها حوار أسلافنا القدامى؟ أو أن حواراً على هذا المستوى سيبعث منذ اللحظات الأولى تاريخاً كاملاً من الكراهية والحقد والتعصب والفرقة بين المؤمنين في الشرق والغرب؟! وأكبر الظن أن ما نعلمه الآن – ونراه – من المضاربة «بالأديان» في سوق السياسات والصراعات الدولية، يرشِّح الاحتمال الثاني بكل قوة. ولا يفوتني هنا أن ألفت النظر الى موقف النبي محمد (صلّى الله عليه وسلّم) من السيد المسيح وأمه مريم العذراء – عليهما الصلاة والسلام – حين دخل مكة مع المسلمين وحطّم الأصنام من حول الكعبة، ووجد صور الأنبياء والملائكة معلقة على حوائطها، فأمر بإزالة كل الصور، ما عدا صورة واحدة وضع يديه عليها. ولما انتهت عملية الإزالة رفع النبي يديه، فإذا الصورة التي خبأها هي صورة عيسى المسيح مع أمه مريم، وكانت هي الصورة الوحيدة التي بقيت مرسومة على أحد الأعمدة الداخلية للكعبة، وذلك قبل أن يزيلها تجديد الأعمدة الذي حدث بعد ذلك بفترة طويلة، وقد رأى كثير من الصحابة والتابعين هذه الصورة، منهم عطاء بن أبي رباح، وقد سئل: هل رأيت صورة مريم وعيسى؟ فقال: نعم أدركت تمثال «مريم» مزوَّقاً في حجرها «عيسى» قاعد، وكان في البيت (الكعبة) ستة أعمدة، وكان تمثال عيسى ومريم في العمود الذي يلي الباب (انظر: أخبار مكة لأبي الوليد الأزرقي ص 111). وما قلناه عن موقف الإسلام من المسيحية ينطبق بالقدر نفسه على اليهودية التي انفتح عليها الإسلام في المدينة، ووجد فيها أوجه شبه عدة بينها وبينه، في مفهوم «التوحيد» ومفهوم «الشريعة». وتغنينا صحيفة المدينة، أو «وثيقة المدينة» التاريخية عن الاستفاضة في بيان صلة الإسلام باليهودية، ويكفي أن أشير الى إحدى فقرات هذه الوثيقة التي تنص على ان اليهود «أمة من المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، وعلى اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم» كدليل على ان الإسلام يوفر حرية اختلاف الدين، وحرية الاستقلال الاقتصادي للآخرين من منطلق الأخوّة في الأديان. هذا موقف الإسلام من الأديان الإلهية ممثلة في أكبر دينين موجودين في جزيرة العرب إبان ظهور الإسلام، وهما: اليهودية والمسيحية... ولعلكم تتساءلون عن موقف الإسلام من باقي الأديان العالمية الأخرى التي سادت من قديم الزمان في الهند والصين وغيرهما من المناطق النائية عن جزيرة العرب. وجوابنا ان المنطقة العربية أو منطقة الشرق الأوسط التي ظهر فيها الإسلام، لما كانت بعيدة عن الهندوسية والبوذية والكونفشيوسية وغيرها، فإن من المتوقع ألا يتحدث القرآن عن عقائد وأديان مجهولة لدى سامعيه ممن تتلى عليهم آياته، ولو فعل القرآن ذلك لعدّه الوثنيون مطعناً على واقعية القرآن وبلاغته التي تراعي أحوال السامعين في الخطاب. غير أن القرآن يشير في أكثر من موضع الى ضوابط عامة وأحكام كلية في نصوص صريحة يتبين منها موقفه من سائر الأديان، وهو الموقف ذاته من اليهودية والمسيحية: سماحة واحتراماً وشعوراً بالأخوة: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون) «البقرة/ 62»، وأوضح من ذلك الآية التي تُلزم المسلم بالبر والإحسان في علاقته بغير المسلم، أياً كان دينه، وكيفما كانت عقيدته، ما دام هذا الغير غير محارب ولا مقاتل: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تَبَرُّوهم وتُقْسِطوا اليهم إن الله يحب المقسطين) «الممتحنة/ 8». والأساس الذي ترتكز عليه هذه الرؤية القرآنية الشاملة هو ان القرآن ينظر الى الناس جميعاً نظرة متساوية، وأنهم أبناء أب واحد وأم واحدة، وأن غير المسلم إما أخ للمسلم في الدين أو نظير له في الإنسانية، فها هنا وحدة إنسانية لا تَفاضُلَ بين أفرادها إلا بالعمل الصالح، ثم ان القرآن يذكِّر المسلمين بأنه لم تَخْلُ أمة من الأمم السابقة إلا وقد أرسل الله لها رسولاً أو نبياً، وأن ما قصه الله من سير الأنبياء في القرآن ليس هو كل ما هنالك في تاريخ الإنسانية، وأن المسلمين واليهود والمسيحيين ليسوا وحدهم أبناء ديانات آلهية، بل هناك من الأمم البائدة أو الباقيةِ آثارُها وشواهدها، كثير مما نعلمه ومما لا نعلمه، كانت لهم كتب مقدسة، ولهم أنبياء ورسل، وأديان وعقائد: (ورسلاً قد قصصناهم عليك من قبل ورسلاً لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليماً) «النساء/ 164» (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قُضي بينهم بالقسط وهم لا يُظلمون) «يونس/ 47»، (وإنْ من أمةٍ إلا خلا فيها نذيرٌ) «فاطر/ 24». شمول الهدى الإلهي وهذه الأصول القرآنية التي ترتكز على وحدة الإنسانية وعلى شمول الهدى الإلهي للإنسان جعلت للآخر حقوقاً عدة يراعيها المسلمون ويحفظونها لغيرهم، مثل حق احترام الإنسان في ذاته، بصرف النظر عن دينه ولونه وجنسه، وحق احترام العقائد مهما اختلفت وتعارضت مع عقيدة الإسلام. لقد مرت جنازة يهودي، فوقف النبي (صلى الله عليه وسلم) احتراماً لها، وحين استغرب أصحابه هذا الاحترام لميت لا يؤمن بالإسلام ولا يعترف به ديناً، كانت إجابة النبي (صلى الله عليه وسلم): «أليست نفْساً؟»... وهذا الدرس العملي من جانب نبي الإسلام إنما يكرس حق الإنسانية التي سوَّى الله بين أفرادها في الحقوق والواجبات، والذي أشرنا اليه قبل قليل. لا يتسع المقام لسرد المزيد من الأمثلة التطبيقية التي حفظها لنا تاريخ الإسلام في انفتاحه على الأمم والشعوب والثقافات والحضارات، وكيف تمكَّن المسلمون من خلال هذا الانفتاح، من أن يتعاملوا مع حضارات وثقافات عدة، أخذاً وعطاء وتأثراً وتأثيراً، ويغنيني عن إثبات هذه الحقيقة ترجمة كتب الأديان والتصوف الهندي، والفلسفة اليونانية، والثقافة الفارسية الى اللغة العربية في وقت مبكر جداً من تاريخ الثقافة الإسلامية، مثل كتاب: «تحقيق ما للهند من مقولة» للبيروني، ومثل «الأدب الصغير والكبير» لابن المقفع، ومثل مؤلفات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. وقد بلغ التشابه القوي بين التصوف الإسلامي والتصوف الهندي درجة دفعت كثيراً من الباحثين الغربيين الى أن يتلمسوا للتصوف الإسلامي أصولاً ومصادر في التصوف الهندي، وفي النظريات الروحية في التصوف الفارسي والمسيحي، بل إنني لأذهب الى مدى أبعد من ذلك حين أقول: ان القرآن بتوجيهاته مكّن للمسلمين أن يحفظوا حضارات كاملة، لولاهم لما استطاعت الحضارات المعاصرة أن تبلغ ما بلغته من نجاح باهر في العلوم التطبيقية ومن رخاء وتطوير لأساليب المعيشة والحياة. ان الدور التاريخي الذي قام به الأزهر عبر تاريخه الطويل سيظل في ذاكرة الأمة مصدر إلهام، وإن دور علمائه في التاريخ الحديث والمعاصر لدليل على موقعه الرائد والقائد في اللحظات التاريخية الفارقة، وان قادة الفكر والسياسة، من الطهطاوي الى محمد عبده الى سعد زغلول، وغيرهم من النجوم اللامعة في سماء الأمة، هم من حصاد الأزهر جامعاً أو جامعة. خلاصة القول: ان الأزهر أعطاه تاريخه العلمي والنضالي مشروعيةَ تمثيل الأمة عالمياً وإقليمياً، وهذا لا يعني انه وحده على ساحة العمل الإسلامي، إلا أن ألف عام ويزيد في ميادين العطاء العلمي والاجتماعي والسياسي، جعلته الأجدر بثقة الأمة وهي المؤتمنة على دينها، والعارفة بأقدار علمائها ورجالات نهضتها وحضاراتها. أيها السيدات والسادة، إن مصر اليوم، والتي ترقبها عيون العالم في لحظة ثورية خالدة فاجأت الجميع، هي استمرار لمصر الحضارة والتاريخ، وتأكيد على صلابة إرادتها، وأصالة هويتها، وعلى العالم أن يقرأ بأناة رسالة كتبها المصريون بدم الشهداء وهي رسالة فحواها ان مصر التاريخ ومصر الأزهر لن تفرط قيد أنملة في قضايا أمتها الرئيسية، وفي مقدمها القضية الفلسطينية، وأن الأزهر لن يسمح باسم الحوار أو التسامح أن تُسلب حقوق أمة أو تحتل واحدة من أراضيها، كما لن يسمح الأزهر في ظل فوضى المصطلحات حول المدني والديني وأمثالها من المصطلحات الغامضة والملتبسة، أن يدخل في معارك وهمية، وبمسميات زائفة أو مغرضة، إن الأزهر – وهذه رسالة للداخل والخارج – سيظل أميناً على تراث الأمة بكل مكوناته، وسيقف مع الحق، ويُعلي لواء العدل والإنصاف في كل أرجاء المعمورة.