الندم نوعان: الأول: يهدم نفسية صاحبه ويجعله أسيراً للحزن والكآبة، محترق الأعصاب على ما فات وهيهات أن يعود ما فات، مع عدم قدرة النادم على عمل شيء يصلح ما فسد، ويتلاحق مع مافرّط فيه، ويعيد إليه ما ندم عليه، ويمثل هذا النوع شعر الفرزدق في زوجته (نوار) التي طلقها بالثلاث في لحظة حمق أو غضب وأشهد على طلاقها الحسن البصري ومن حضر حلقته، وكانت نوار سعيدة بهذا الطلاق على ما يبدو، إذ تزوجت فور انقضاء العدة برجل آخر وعاشت معه في وئام بينما ان الفرزدق خشن المعاملة ولكنه يحبها أشد الحب وهي - كعربية أصيلة - صابرة على سوء المعاملة حتى جاءها الفرج بتطليق الفرزدق لها في لحظة حمق، وجاء الفرزدق الندم على تفريطه فيها حيث لا ينفع الندم. وقال في ذلك: «ندمتُ ندامة الكُسعي لما غدت مني مطلقة نوار وكانت جنتي فخرجت منها كآدم حين لج به الضرار وكنت كفاقىء عينيه عمداً فأصبح ما يضيء له النهار فلا يوفي بحب نوار عندي ولا كلفي بها إلا انتحار ولو رضيت يداي بها وقرَّت لكان لها على القدر الخيارُ وما فارقتها شبعاً ولكنْ رأيتُ الدهر يأخذ ما يعار» والثاني: ندم يبني ويدفع للأمام، فهو يشبه آخر الليل والظلام حيث يعقبه الفجر وإشراق الشمس، كالندم على التفريط في طاعة الله عز وجل والعزم على التوبة.. ومن هذا قول شاعرنا محسن الهزاني: سرِّح القلب في عشب روض الندم وامزج الدمع من جفن عينك بدم واغتنم يا فتى صحتك والفراق وان لابد ذو صحة من سقم واحبس النفس عن تبع طرق الهوى قبل أن يافتى بك تزلّ القدم واحتزب من ظنونك ولا تبتئس فالجسد ربما صحته بالألم واتقظ واتعظ واستمر واعتبر انتظر للفرج في شديد اللزم كلما نام ناظر لبيب الكرى ارم ثوب الكسل في شديد اللزم لم يزل بالعطا فوق بحر الندى باسط للملا بطن كف الكرم يا حليم عظيم قوي مقيت يا كريم وما بالخواطر علم يا متم الرجا يا جزيل النوال اسألك يا مجيب الدعا بالقسم» * وقول الشاعر لقيط بن بكير المحاربي: «عزفتُ عن الغواية والملاهي وأخلصتُ المتاب إلى إلهي وغرتني ليالٍ كنتُ فيها مطيعاً للشباب به أباهي أجاري الغيَّ في ميدان الهوى وقلبي عن طريق الرشد لاهي وألجمني المشيبُ لجام تقوى وركن الشيب بادي العيب واهي» * وقول أبي نواس: «دبَّ فيّ الفناء سفلاً وعلوا وأراني أموت عضواً فعضوا ليس من ساعة مضت لي الا نقصت، بمرهابيَ، جزوا ذهبتْ جدتي بطاعة نفسي وتذكرت طاعة الله نضوا لهف نفسي على ليال وأيّا مٍ تمليتهن لعباً ولهواً قد أسانا كل الإساءة فالله م صفحاً عنا وغفراً وعفواً» * * * * وقد ورد في كتاب تاريخ بغداد (74/9) وذم الهوى لابن الجوزي (ص52) أن سعيد بن وهب كان - أول شبابه - هائماً مع الدنيا ضائعاً في أوديتها، ثم ندم أشد الندم على ما كان منه وحصل فأعلن التوبة النصوح وذهب للحج مشياً على الأقدام وقال: «قدمي اعتورا رمل الكثيب واطرقا الآجن من ماء القليب رب يوم رحتما فيه على زهرة الدنيا وفي واد خصيب فاحسبا ذاك بهذا واصبرا وخذا من كل فن بنصيب إنما أمشي لأني مذنب فلعل الله يعفو عن ذنوبي» * * * والندم من أشد المشاعر الإنسانية إيلاماً على النفس، خاصة ندم العاق إذا توفي والداه وتذكّر عدم بره بهما وشدة عقوقه لهما، ويندم الرجل إذا خذل صديقه في موقف شديد حاسم فلم يقف معه بل تخلى عنه (والمراجل تحضر وتغيب) كما يقول المثل الشعبي.. وأكثر مسببات الندم هي الغضب والتسرع واتخاذ القرارات الخطيرة دون تفكير عميق، وخاصة التصرف وقت الغضب فهو كالإبحار في ذروة العاصفة خطير العواقب يلد الحسرة والندامة.