يمتلك مهرجان دبي السينمائي ميزة تفضله عن بقية المهرجانات العربية، تكمن في جلبه لصفوة أفلام السنة وتقديمها للجمهور الخليجي الذي قد لا يجد فرصة لرؤيتها في أي مكان آخر. وحين نقول صفوة فنعني أن هذه الأفلام نالت - أو ستنال - التقدير في مناسبات سينمائية عالمية معتبرة مثل كان وبرلين والبندقية وموسم الجوائز الأمريكي؛ مثل فيلم (الأحفاد -The Descendants) لجورج كلوني وفيلم (جي إدغار) لليوناردو دي كابريو وفيلم (أسبوعي مع مارلين -My Week with Marilyn) والفيلم الفنلندي Le Havre للمخرج آكي كوريسماكي، وأيضاً الفيلم الإيطالي (تيرافيرما -Terraferma) الذي عرضه المهرجان ليلة أول أمس في مسرح مدينة أرينا في دبي، وهو الفائز بجائزة التحكيم الخاصة من مهرجان فينيسيا السينمائي والمرشح ليكون ضمن الخمسة أفلام التي ستختارها لجنة الأوسكار في خانة أفضل فيلم أجنبي لهذه السنة. لقطات من الفيلم يتناول فيلم "تيرافيرما" قضية إنسانية تؤرق الضمير الأوروبي في السنوات الأخيرة، هي قضية الأفارقة المهاجرين نحو شواطئ العالم المتحضر، الباحثين عن فرصة جديدة للحياة. وقد ظهرت في الفترة الماضية أفلام مهمة عرضت جوانباً من هذه القضية، منها فيلم Biutiful للمخرج المكسيكي أليخاندرو غونزاليس، وفيلم (الوعد -The Promise) للمخرجين البلجيكيين الأخوان داردن، إلا أن ما يميز الفيلم الإيطالي أنه يعرض القضية في لحظتها الأعنف والأبشع، لحظة وصول المهاجرين إلى شاطئ جزيرة إيطالية نائية، وهم بين الحياة والموت، مهددين بالغرق في البحر من شدة الإعياء. وكما في الرائعة السينمائية القديمة (الأرض تهتز -La Terra Trema)، يكون البحارة الإيطاليون هم نجوم الفيلم الجديد أيضاً، لكن قضيتهم ليست تحقيق العدالة الاجتماعية كما في رائعة فيسكونتي السابقة، إنما تحقيق العدالة الإنسانية إن جاز التعبير، حيث يتصدّون لسؤال أخلاقي مهم، هو: هل يمارسون إنسانيتهم وينقذون المهاجرين من الموت غرقاً ويتعرضون من ثم للمساءلة القانونية من قبل الحكومة الإيطالية التي تحظر مثل هذا النوع من المساعدة؟ أم يتجاهلون وجود الأفارقة ببساطة ويكتفون بإبلاغ السلطات دون أن يكترثوا لمصير هؤلاء البائسين؟ باختصار: كيف يمكنهم تجاهل إنسان يغرق في البحر؟ انطلاقاً من هذا السؤال الأساسي ينسج المخرج إيمانويل كرياليس حكاية بسيطة أبطالها عائلة إيطالية تعيش في جزيرة نائية وتعتمد في عيشها على صيد السمك والسياحة، وفي هذه العائلة كما في أي عائلة أخرى هناك نزاع حول نظرة كل فرد للمستقبل، ففي حين يرى العجوز إرنستو بضرورة التمسك بمهنة صيد السمك لأنها جزء من هويتهم، يرى ابنه أن المستقبل للسياحة فحسب، أما أرملة ابنه الثاني فتريد الهرب إلى المدينة والتحرر من حالة السكون القاتل التي تعيشها في هذه الجزيرة المعزولة، وتحاول أن تقنع ابنها الوحيد فيليبو بفكرة بيع المركب والسفر بعيداً نحو مستقبل أفضل. وبينما هم في خضم هذا الجدل، والذي يعرضه المخرج بروحٍ إيطالية مرحة ممتعة ولطيفة، يقتحم حياتهم همّ جديد، يتمثل في سيدة إفريقية حامل في شهرها الأخير، تصارع الموج وسط البحر، وتنادي العجوز الإيطالي وحفيده فيليبو أن ينقذاها من الموت، دون أن تعلم أن القانون في أوربا يُجرّم من يفكر بمساعدتها. مخرج الفيلم إيمانويل كرياليس الذي سبق أن عاش في أمريكا بشكل غير شرعي أثناء دراسته السينما منتصف التسعينيات، كما قدم فيلماً مهماً أبطاله المهاجرين الإيطاليين عام 2006 بعنوان (الباب الذهبي -Nuovomondo)؛ يفهم تماماً معنى أن تكون محتاجاً للتضامن الإنساني الذي يتجاوز كل القوانين القاسية التي وضعتها الحكومات للدفاع عن مصالحها المادية الصرفة، لذلك نجده يدين هذه القوانين دائماً في حديثه للإعلام ويؤكد "أنها قوانين جائرة تفضح زيف التحضر الذي يدعيه العالم الأول"، ويكشف في فيلمه الجديد "تيرافيرما" هذا الزيف مستعيناً بعائلة إيطالية فقيرة بسيطة لا تملك من الدنيا سوى "إنسانيتها" وقوانينها الأخلاقية الخاصة التي استمدتها من البحر والتي جعلتها تتحدى القانون الرسمي الظالم دون أدنى وخزة ضمير، لأن الأمر مثلما يقوله العجوز إرنستو بمنتهى الوضوح: لا يمكن أن نترك إنساناً يغرق.. لا يمكن.