كان مقالنا السابق حديثاً مقتضباً عن ضرورة النقد وأهميته، لكنَّ سؤالاً ملحاً يفرض نفسه، يقول: ما النقد؟ ما حدوده ومساحته؟ ما ضوابطه؟ والحقيقة إن هذا سؤال كبير لا يفي مقال باستقصاء كل هذا، وذلك لأن النقد ليس له باب واحد، بل هو يتعدد بتعدد الفنون والعلوم، والأفكار، فكل شيء له النقد الخاص به. لكننا هنا نتكلم على النقد في خطوط عريضة، من منظور ديني، وفيما يتعلق بمسائل الدين، أو قل بما علق أو نسب إلى الدين، وحينئذ فلا مناص من النقد، فما علق بالدين أو ظُنَّ أنه منه كثير. والنقد أصل من أصول العلم، لا يخلو منه باب من أبوابه، ولا كتاب من كتبه، ولا تكاد تنحصر كتب النقد، وليس بلازم أن يكون باسم النقد، فقد يقال له رداً، أو تعقيباً، أو استدراكاً، أو تكميلاً، أو بياناً، أو تنبيهاً، أو نقضاً، أو كشفاً، أو غيرها من الألفاظ، ولا مشاحة في الاصطلاح، فالحقيقة لا تتغير باختلاف الألفاظ، ولا الأسماء، فكلها يجمعها شيء واحد، وهو الكشف عن الصواب وإبراز وجه الحق، وهذا هو معنى النقد في اللسان العربي، فالنون والقاف والدال تدل على إبراز الشيء وإظهاره، ولهذا قيل: نقد الدراهم، لأنه يكشف عن الزيف فيها، وسمي الناقد ناقداً لأنه يكشف ويبرز ما خفي من مسائل العلم، ويُظهر الخطأ الكامن في الآراء والأفكار. والشيء تظهر حدوده وشيء من ضوابطه، ببيان حده وماهيته، أو رسمه، كما هو معلوم في علم المنطق، وببيان حقيقة النقد يظهر أهم ضابط فيه، ألا وهو أن النقد هو وظيفةٌ المقصود منها إظهار وجه الصواب، وتجلية الحق، وبهذا يخالف العناد واللجاج، الذي لا يراد منهما إلا التشغيب على الآخرين. هذا بالنسبة إلى ما يتعلق بحقيقته وماهيته، وأما حدوده ومساحته، فهي واسعة جدا، فهي تنتظم كل ما ليس من مسلمات الشريعة، التي أجمع العلماء عليها إجماعاً قطعياً بحيث يكفر مخالفه، وما كان دون ذلك فإنه قابل للأخذ والرد، والقبول والرفض حتى وإن حكي عليه الإجماع، فإن الإجماع غير القطعي ليس بحجة لدى كثير من المحققين، وغير ممكن تحققه لدى كثير منهم، كما هو معلوم في علم أصول الفقه. وهذه المساحة هي التي عناها الإمام مالك بن أنس بكلمته الشهيرة: ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر. وليس يحد من مساحة النقد كون المنقود كبيراً أو إماماً، فلا أحد يعلو على النقد، فكل البشر أغراض وأهداف ستصيبها سهام النقد شاءوا أو أبوا. لكن محل النقد إنما هو فيما لا نص فيه صحيح باتفاق الخصمين، صريح الدلالة، لا يحتمل إلا شيئاً واحداً، كقوله تعالى: «حرمت عليكم الميتة...» وكقوله تعالى: «حرمت عليكم أمهاتكم...» فهنا لا مجال للنقد. ويشترط هنا أيضا ألا يوجد له معارض هو أولى بالقبول منه ولو في نظر الخصم، وإلا فحيث وجد له معارض فإن حق النقد سيبقى قائما. لكنَّ كثيراً من الناس يعمد إلى بعض ظواهر الشريعة، فيعدها نصاً بالمعنى الذي ذكرنا لا يقبل الجدل، ولا يكون الأمر كذلك، وإنما يكون هذا التصور أو الفهم للنص بسبب قناعته المسبقة! وإثبات كون هذا نصاً من الصعوبة بمكان، حتى ولو ورد بلفظ التحريم، فإنه يبقى هناك مجال للتقدير الذي يصيب النص بشيء من الضعف لولا المساعد الخارجي كإجماع أو نص آخر، ففي قوله: «حرمت عليكم الميتة...» يرد على الذهن سؤال: حرم علينا ماذا من الميتة؟ أهو أكلها، أم الانتفاع بها مطلقا؟ أم كلاهما؟ وهذه الاحتمالات وإن كانت لا تفسد دلالة الآية في كثير من الأحيان إلا أنها تضعفها. وكون النص جاء مثلاً بلفظ الأمر بشيء ما، فإن هذا لا يجعله نصاً في وجوبه، وإنما هو ظاهر في الوجوب، وهناك فرق. هذا عند من يحمل الأمر في الشريعة على الوجوب، وإلا فإن كثيرين من علماء الأصول أو أكثرهم لا يرتضون هذا، فطائفة كبيرة منهم تراه مجرد ظاهر في الدلالة على الاستحباب ليس أكثر، وآخرون يرون أن قصارى ما يدل عليه إنما هو إباحة المأمور به، ولا يرقي إلى الدلالة على الاستحباب، فضلاً عن الوجوب، وقل هكذا في دلالة النهي، وفي دلالة صيغ العموم، والإطلاق في نصوص الشريعة، فإنها مجرد ظواهر في دلالاتها وليست نصاً قاطعاً. وحينئذ فلا يجوز أن تكمم الأفواه بحجة أن نقد رأي ما يكون مخالفة للنص، أو مصادماً له، فكثير من الناس مثلاً يظن أن لفَّ المرأة لشعرها في أعلى رأسها يعد من كبائر الذنوب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «... ونساء كاسيات عاريات رؤوسهن كأسنمة البخت» والبخت هي النياق، فيجعلون هذا نصاً يؤثمون به من يفعل هذا، لكننا نرى شراح الحديث يحكون في تفسيره قولين: أحدهما أن المراد به من تضيف لشعر رأسها شيئاً من الخرق أو نحوها ليعظم، والثاني: أن المراد به المرأة التي تبدو أمام الرجال وتظهر لهم، فشبهها بسنام البعير البادي للعيان. لكن القناعة السابقة هي التي جعلت هؤلاء لا يفهمون من الحديث إلا ذاك المعنى الراسخ في الذهن، ولم يرفعوا رأساً بالرأي الآخر، بل لعل بعضهم لا يعلم من دلالة النص إلا تحريم تلك التسريحة. وكون أحد المعنيين ظاهراً لدى بعض الناس فإن هذا لا يجعله نصاً ملزماً لغيره كما نص على هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، فالغير الذي لم يصل إلى هذا المستوى من القناعة له الحق في نقده، والكشف عن وجه الصواب، بحسب رأيه. ولا يمنع من النقد أيضاً الدفع في الوجوه بكون الناقد مخالفاً في رأيه لعمل بلد ما، أو خارجاً عن المألوف، فإن رأي أهل البلد وإن أجمعوا عليه، لا يسد باب النقد إذا وجد تحت السماء من يخالفهم، ولو في القطب المتجمد. ولا يمنع من النقد عند أهل السنة كون المنقود أهل السنة، أو منهم، فإن النقد من النصيحة، والنصيحة أصل من أصول الإسلام.